إن استراتيجيات مكافحة الفساد تتباين تبعا للبيئة السياسية والاقتصادية التي أنتجت هذا الفساد ومن المعروف أن هنالك فرق شاسع بين النزاهة والفساد حيث أن النزاهة تؤدي إلى الإخلاص في العمل وسيادة القانون واعتماد الكفاءة وتحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع واحترام الأخلاق التي تكون الأساس في ممارسة الوظيفة بكل أمانة من اجل أن تكون الغاية تحقيق النزاهة لأنها سلاح بوجه الجريمة التي تهدد استقرار المجتمع وتقف عائق أمام تقدمه، في حين نجد على النقيض من ذلك أن الفساد يؤدي إلى نهب وإهدار المال العام ويؤدي إلى انهيار القيم الأخلاقية وانتشار الظلم وانتشار الجريمة لأنه جرائم ضد المجتمع الإنساني ككل مما يتطلب دور فعال للقضاء على كل ما يدمر المجتمع من محسوبية ووساطة وفساد مالي وأداري مما اقتضى بنا تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين نبين في أولهما تعزيز قيم النزاهة وثانيهما استراتيجية مكافحة الفساد وكالاتي:
أولاً: تعزيز قيم النزاهة
تؤثر النزاهة في تنمية الضمير الشخصي حيت أن الضمير هو القوة المحركة للإنسان نحو دوافع الخير والبعد عن الشر وتنمية الضمير يمكن أن يكون بالإرادة التي تنبعث عن الفعل وتستخدم قرارات ومهارات لغرض صياغة موقف ما محدد وتبدا بشعور الفرد نحو قضية أو مسائلة محددة بمرحلة التفكير ثم التصميم فالتنفيذ الذي يعبر عنه بالسلوك الخارجي لمواجهة أي امر ولهذا فان تنمية الضمير الأخلاقي يكون من خلال السلوك الأخلاقي والذي يكون باعثه نفسيا أو اجتماعيا أو سياسيا أو حضاريا أو بسبب سيادة قوة القانون وهذا يتطلب الشعور بالمسؤولية وادراك ضرورة الواجب الملقى على عاتقه.35 لذا يمكن تعريف النزاهة لغة بانها البعد عن السوء وترك الشبهات، 36في حين تعرف اصطلاحا بانها اكتساب المال من غير مهانة ولا ظلم للغير.
ولذلك فان حماية النزاهة بمكوناتها الرئيسية الشفافية والمساءلة ومكافحة ظاهرة الفساد تستلزم إجراءات منها معرفة أسباب المشكلة ومعالجة أسبابها كما يستوجب تعاون الأجهزة الحكومية ومؤسسات المجتمع إضافة إلى تعزيز القيم الأخلاقية التي لها دور كبير في بناء ثقافة النزاهة إضافة إلى ضرورة الاستفادة من الخبرات الدولية لتكون عاملا فعالا في مكافحة الفساد.
ولا نغفل الشفافية التي تعنى بالوضوح داخل المؤسسة وفي العلاقة بين المواطنين المنتفعين من الخدمة وعلنية الإجراءات والغايات والأهداف بمعنى أن الشفافية والوضوح بما تعنيه من نشر المعلومات والبيانات الحكومية والحرص على تدفقها وعلانية تداولها عبر مختلف وسائل الأعلام المرئية والمسموعة والمقروءة يعتبر عنصرا رئيسيا في مكافحة مختلف أشكال الفساد وتحقيق التواصل بين المواطنين والمسئولين بما يسهم في تطويق ومحاصرة الفساد واجتثاث جذوره38 وقد أثبتت تجربة العديد من الدول أن التمسك بالشفافية يقلل من وقوع الأزمات الاقتصادية ويساعد بدرجة كبيرة على معالجة القضايا عند وقوعها وقبل استفحالها واتساع مداها. والنزاهة تكون عندما يعامل جميع أفراد المجتمع دون تمييز ويتم التصرف بموضوعية في إدارة الشأن العام وفي العلاقة مع الأخرين. حيث أن أركان النزاهة كما ركزت عليها منظمة الشفافية الدولية هي (الإرادة السياسية – إشراك المجتمع المدني – تفعيل المؤسسات الرقابية – الاصطلاح المؤسساتي – السلطة التشريعية – السلطة القضائية – وسائل الأعلام – القطاعين العام والخاص).
جميعها أركان مهمة تشكل مكونات النزاهة وهي جزء لا يتجزأ من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية إذ كل واحدة منها تكمل الأخرى وان اختفاء أو ضعف بعض هذه الأركان فإن النظام يصبح عرضة للانهيار وهذا ينعكس على التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.
وعلى ذلك يتضح لنا إن النزاهة ظاهرة حضارية تطورت مع تطور الإنسانية وتسود في المجتمع تبعا لنظام الحكم السائد في الدولة حيث ادركت الشعوب والدول أن تعزيز مفهوم النزاهة ومحاربة الفساد سيكون حبرا على الورق مالم تكن هنالك هيئات ونظم رقابية فعالة ومستقلة تراقب وترصد نزاهة عمل العاملين في مختلف المؤسسات.
فقد ذكر تقرير السكرتير العام للأمم المتحدة بشان ذلك ما يأتي (اذا كان تعريف الفساد قد استحوذ على مدار السنين على اهتمام المحافل الأكاديمية والدولية فان السؤال الذي أصبحت الإجابة عنه اكثر إلحاحا هو معرفة ما هي الوصفة العلمية وما هي الاستراتيجية النموذجية التي يجب أن تتبناها الحكومات على المستويين الوطني والدولي وهو ما قد يستلزم تحديد نطاق المقصود بالفساد سواء وقع الاختيار على تضييق أو توسعة هذا النطاق).
ولا يخفى بان النزاهة هي منظومة القيم المتعلقة بالصدق والأمانة والإخلاص والمهنية في العمل وبالرغم من التقارب بين مفهومي الشفافية والنزاهة ألا أن الثاني يتصل بقيم أخلاقية معنوية بينما يتصل الأول بنظم وإجراءات عملية43حيث اكد الكثير من الكتاب إن الفساد ضعف أخلاقي44 لذا فان معالجة الفساد لا يكون فقط عن طريق النصوص القانونية لمعاقبة مرتكبي الفساد وإنما في الإجراء الوقائي من خلال تعزيز قيم النزهة وتحمل المسؤولية بأمانة وإخلاص واحترام القانون وهذا هو الأساس.
وعلى ضوء ما تم توضيحه فان الإرادة السياسية تعد مفتاح مكافحة الفساد من خلال استئصال أسبابه ومسبباته وتصفية الأثار المترتبة عليه ولذلك نرى اذا كان الفساد لا يتجاوز حقل الارتكابات الفردية البسيطة دل ذلك على إن الإرادة السياسية قوية قادرة على مواجهة كل ما يعكر صفو المجتمع وينتهك الحقوق والواجبات.45 وهذه الإرادة السياسية لا ينبغي أن تكون شعارات وعهود منقوضة بل يشترط أن تقترن بإصلاحات سياسية من خلال تطبيق نظام محاسبي صارم وعادل ومجتمعا مدنيا قويا ونظاما قضائيا مستقلا وهذا يعزز المساندة الشعبية والالتفاف الجماهيري حول الإصلاحات.
حيث يشهد الواقع استغلال المناصب الرسمية للثراء الخاص ودخول الموظفين الكبار في قطاع الأعمال الخاصة عبر استغلال مواقعهم الإدارية في نمو أعمالهم التجارية والصناعية والمالية مع تجاوزات في القوانين بحيث اصبح الموظف قادرا على خرق سرية البنوك وسحب الأموال في أي وقت يشاء خاصة في أزمنة الأزمات.
- الاهتمام المباشر باختيار القيادات الإدارية من خلال اعتماد معايير دقيقة كالكفاءة والمهنية بما يساعد على تعزيز الشفافية في العمل. وتتجسد هذه المعايير في الكفاءة والنزاهة في الاختيار والتعيين وتداول الوظيفة ولتحقيق الاطار اللازم لتنظيم ذلك يتطلب إعادة النظر في قانون الخدمة وتعديله بما يحقق وضع الشخص المناسب في المكان المناسب.
- تبسيط الإجراءات والروتين المعقد المتبع في دوائر الدولة ومؤسساتها. وذلك بتبسيط الإجراءات الإدارية في تقديم الخدمات وتقليل اتصال الموظفين بطالبي الخدمة من خلال استخدام الأجهزة الإلكترونية وصولا الى تحقيق الحكومة الإلكترونية
من ذلك نجد أن في الإصلاح الإداري يتوجب إعادة النظر في منظومة الأجور والرواتب والمكافآت وان يعامل الأكفاء والأمناء معالمة متميزة مع الإقرار أن هذه الإصلاحات تحتاج إلى تكاليف مادية كبيرة كما لا نغفل القول أن إصلاح السلطة التشريعية واستصدار القوانين الرادعة للفساد من أولويات الحد من ارتكاب الفساد. مع أن هذا لا يمكن أن يكون بمعزل عن دور مؤسسات المجتمع المدني الفعال والمهم وبالدعم الجماهيري للإشراك في حملات التوعية ضد الفساد وتمكين هذ المؤسسات أيضا من الحصول على المعلومات التي تكشف الممارسات غير المسؤولة للسلطة. تعزيز مفاهيم معينة كالمحاسبة والمساءلة والشفافية والنزاهة والتي تعد عناصر أساسية في استراتيجية مكافحة الفساد كالمحاسبة من خلال إخضاع الأشخاص الذين يتولون المناصب العامة للمسائلة والمحاسبة القانونية والإدارية والأخلاقية عن نتائج أعمالهم سواء بالنسبة للموظفين أمام رؤسائهم الإداريين أو بالنسبة للوزراء أمام السلطة التشريعية التي تتولى الرقابة على السلطة التنفيذية.
بناء علاقات متميزة مع المؤسسات الدولية والإقليمية بما يضمن الاستفادة من برامج الدعم الدولي وتفعيل إجراءات تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد واستخدام التقنيات الحديثة في هذا المجال. وذلك من خلال تقديم العون من منظمة الأمم المتحدة للمنظمات الغير حكومية والمختصة بمكافحة الفساد وخصوصا منظمة الشفافية الدولية، على أن يشتمل الدعم المساهمة في ميزانية المنظمة حتى تؤدي هدفها على الوجه المطلوب دون تأثير.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان