تقديم وزير الخارجية سامح شكري بعنوان “على أعتاب الجمهورية الجديدة: الدبلوماسية المصرية تُكمل عامها المائة… تاريخ حافل وتأثير مستمر”، وذلك في العدد الصادر من مجلة السياسة الدولية بمناسبة الاحتفال بمئوية وزارة الخارجية.
“يطيب لي ابتداءً، ونحن بصدد الاحتفاء بمئوية وزارة الخارجية، أن أُخاطب جمهور مجلة “السياسة الدولية”، تلك النخبة الواعية المعنية بالقضايا الدولية، والتي تستقي من هذا الصرح الأكاديمي العريق ــ كما عهدناه منذ إنشائه على يد الراحل القدير الدكتور بطرس بطرس غالي عام 1965 ـــ رؤى رصينة وتقديرات قيِّمة تجاه مُستجدات الساحة الإقليمية والدولية، وتُشكل رافدًا لا ينضب لمدرسة العلوم السياسية المصرية التي يشهد لها الجميع بالكفاءة والاقتدار.
إن الاحتفاء بمرور قرن على إعادة العمل بوزارة الخارجية بمصر في 15 مارس 1922 ـــ إثر إلغاء الوزارة بعد إعلان الحماية البريطانية على مصر عام 1914 ــ يحمل الكثير من الدلالات في مسيرة الاستقلال الوطني، وما تلاها من بناء الدولة المصرية بسواعد أبنائها المُخلصين. وتدفع تلك المئوية إلى أن نستدعيَّ سجلًا ناصعًا لمحطات الدبلوماسية المصرية في تاريخنا الحديث، وما واجهته من تحديات بكل جسارة، مُسلحةً بكوادر وطنية ذادت عن مصالح مصر بتفانٍ وتجرد، واستبسلت لاستعادة حقوق مصر الأصيلة.
لقد مرَّت على الدبلوماسية المصرية خلال هذا القرن لحظاتُ ترح وفرح مختلفة، حربًا وسِلمًا، كانت فيه الدبلوماسية المصرية ولا تزال، بديوانها العام في القاهرة وبعثاتها المُختلفة، قنطرة الداخل إلى الخارج بالتنسيق مع مُختلف أجهزة الدولة، وصوتًا جَهورًا على منابر المنظمات متعددة الأطراف ولدى صُنَّاع القرار في عواصمهم المُختلفة. كانت الدبلوماسية المصرية مُستيقنةً في ذلك أن الحقوق التي سُلبت عَنوة ستعود لا محالة غير منقوصة، وهو ما تجسد مثلًا فيما أثمرت عنه الجهود المضنية للدبلوماسية المصرية في أعقاب العدوان الثلاثي 1956، أو حرب أكتوبر 1973 انتهاءً بعودة طابا الغالية والتي أنفذنا فيها إرادتنا الوطنية، وعلى ترابها رفعنا ـــ عام 1989 ـــ بفخر وكبرياء عَلَم مصر ورايتها الخفَّاقة، آخذين على عاتقنا ألا تُنكَّسَ أبدًا. كما أن ما أسهمت به الدبلوماسية المصرية في بنيان الاستقرار الدولي والإقليمي في المحطات المختلفة على مدار العقود الماضية يقف شاهدًا على رصانة توجهات مصر القاصدة لكل سُبل الأمن والسلم والرخاء للدول والشعوب.
وبالفعل، فإن النظرة المُتتبعة لمسار سياسة مصر الخارجية، خلال القرن الماضي، تُبرز بتجلٍ أن القاهرة كانت دومًا صانعةً للاستقرار في محيطها الإقليمي عبر سياسة أخلاقية متوازنة تتنزه عن الصغائر، وتسعى ـــ بلا مزايدة أو متاجرة ـــ إلى تبريد بؤر التوتر ونزع فتيل أزماتها، وتعمل على ترسيخ ركائز السلام. كما أنها تعكس بوضوح دلالات عدة يمكن أن نوجزها فيما يلي:
أ- أن الدبلوماسية المصرية لم تأخذْها يومًا رأفةٌ في حقوق مصر، ولم تقبل فيها بأنصاف الحلول، أو تيأس ــ إثر تعنت أو مراوغة من الآخر أو حتى لعدم اكتراث المجتمع الدولي ــ من العمل على عودة تلك الحقوق، مُبدية في ذلك ــ مرفوعة الهامة ـــ ضبطَ النفس وسعةَ الصدر، إيمانًا منها بعدالة قضاياها، وتسلحًا بوعي قيادتها السياسية، وبصلابة جبهتها الداخلية.
ب- أن النسق الثابت لسياسة مصر الخارجية ارتكز على تنويع محاور تحركاتها، ومبادئ الاحترام المُتبادل والندية، ورفض التدخل في الشئون الداخلية للدول، واحترام سيادتها واستقلال قرارها السياسي. كما اتَّسم هذا النسق بالاصطفاف مع اختيارات الشعوب، مع التشديد على ضرورة تماسك المؤسسات الوطنية للدول لئلَّا يُفضي تهاويها إلى أن تكون الدول نواة لحلقات مُفرغة من الفوضى في إقليمها.
ج- أن الدبلوماسية المصرية نجحت، على مدار العقود الماضية، في تكوين رصيدٍ ضخم مُتراكم من الخبرات العملية في مختلف مجالات العمل الدبلوماسي، بشقيه الثنائي ومتعدد الأطراف، فضلًا عن أُطر العمل الخاصة بالدبلوماسية التنموية والاقتصادية، والبيئية والمناخ، وغيرها. وقد أسهمت تلك الخبرات في خلق توجهات واقعية رشيدة إزاء القضايا الدولية وكيفية التعاطي معها، على نحو يُراعي خصوصية كل قضية على حدة، ويتفاعل بالمرونة المطلوبة تجاه التغيرات المتواترة التي تطرأ على هيكل المجتمع الدولي ولاعبيه. علاوة على ذلك، فقد اتسمت الدبلوماسية المصرية بالقدرة على استشراف الأحداث المِفصلية، الأمر الذي انعكس في قدرتها على تشكيل سيناريوهات مُختلفة للتعامل معها.
د- أن اعتبارات الجغرافيا ومُقتضيات التاريخ فرضت على مصر دوائر تحرك رئيسية في سياستها الخارجية، انصبت بالأساس على الدائرتين العربية والإفريقية باعتبارهما امتدادًا طبيعيًا لها، فضلًا عما تُمثلانه من ركائز رئيسة للأمن القومي المصري. وقد تجلى اهتمام مصر بهاتين الدائرتين من خلال دورٍ مصري رائد في حركات التحرر الوطني، قدمت فيه مصر دعمًا غير محدود لأشقائها من العرب والأفارقة على المستويات السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها. كما برز ذلك الاهتمام عبر استضافة بيت العرب “جامعة الدول العربية”، والمساهمة في إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية، والعمل على تعزيز فاعلية المنظمتين، واضطلاعهما والأجهزة التابعة لهما بدورهما المحوري في تعزيز أواصر التعاون والتكامل العربي والأفريقي.
ه- واتصالًا بذات الدوائر الهامة لأركان السياسة الخارجية المصرية، كان البُعد الإسلامي حاضرًا أيضًا بقوة في تحركاتها الخارجية، استنادًا إلى ما لمصر من إرث ودور إسلامي مُمتد. فقد شاركت مصر في إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1969، وعملت على أن تكون منصةً جامعة لقضايا الأمة الإسلامية، وتتحدث عن شواغلها وهمومها، إضافة إلى استضافتها لعدد من أذرعها وأجهزتها في مصر. كما عملت مصر كذلك على تدشين الهوية المتوسطية في سياستها الخارجية وترويجها بين دول البحر المتوسط، بحيث أضحى الأخير همزة وصل بين شعوب ضفتيه بما لهم من باعٍ طويل حضاريًا وثقافيًا، وبما لدوله من ثُقل سياسي ومقومات اقتصادية متنوعة وضخمة، بدلًا من أن يكون حاجزًا لموجات التواصل الحضاري والسياسي.
و- أنه على الرغم من استمرار مصر في التحرك في إطار دوائرها التقليدية لسياستها الخارجية، باعتبار ذلك امتدادًا أصيلًا لمُقتضيات صون أمنها القومي كما سبقت الإشارة؛ إلا أن ذلك لم يَحُلْ يومًا دون تركيز القاهرة على دوائر تحرك أخرى، فكانت الدبلوماسية المصرية حاضرة شرقًا وغربًا بشكل نشط في مُختلف التفاعلات الدولية. فقد عملت مصر على تعزيز شراكاتها الاستراتيجية مع كافة القوى الدولية الكبرى والبازغة في مختلف أنحاء العالم، وذلك عبر شبكة مُتشعبة من العلاقات المُتنامية، والتي تهدف إلى تعظيم المصالح المصرية مع الأطراف الفاعلة في مختلف دوائر التحرك، سواءً الأمريكية بدول قارتها الشمالية والجنوبية، أو الأوروبية في إطارها الثنائي أو من خلال الاتحاد الأوروبي، وكذا الدول الآسيوية التي تشهد معها العلاقات طفرات متوالية خلال السنوات الماضية. وليس أدل على ما تقدم من توقيع مصر لاتفاقية تجارة حرة مع تجمع الميركوسور أحد أهم التكتلات الاقتصادية في أمريكا الجنوبية، وانضمام مصر عضوًا شريكًا للحوار في منظمة شنغهاي للتعاون في آسيا، كما كانت من بين الدول المُنشئة لمنظمة الفرانكفونية وقدَّمت أول أمين عام لها، ثم استضافت أحد أذرعها المتمثلة في جامعة سنجور في الإسكندرية.
ز- أن القوى الناعمة لمصر كانت عنصرًا رئيسيًا مؤثرًا ومُكملًا في منظومة سياستها الخارجية، لما تزخر به مصر من إرث حضاري وثقافي متعدد الأوجه، خلق لها قَبولًا حضاريًا واسعًا في مختلف الدوائر الدولية، إضافة إلى دور أزهرها الشريف ــ جامعًا وجامعة ــ وكنيستها القبطية العريقة باعتبارهما حِصنًا حصينًا ضد غُلاة الأفكار المُتطرفة ومُروجيها.
ح- أن مصر، خلال السنوات الأخيرة، استطاعت أن تُسخِّر كافة تلك الإمكانات المُتراكمة عبر العقود الماضية، وتطويع مقومات القوى الشاملة التي تتسلح بها، مما زاد من فاعلية دورها في ترتيب الأوراق الإقليمية. ورغم ذلك، حرصت مصر على أن تربأ بنفسها عن أي مخاطر غير محسوبة العواقب، أو أن تُجرَّ إلى صراعات تنكأ جراح المنطقة، وتزيد من قابلية الأوضاع فيها للاشتعال.
ومن جانب آخر، فقد كان العمل القنصلي لوزارة الخارجية وخدمة المصريين في الخارج هو أحد الركائز الأساسية للعمل الدبلوماسي في وزارة الخارجية. ولم تتوقف الدولة المصرية، في هذا الإطار، عند حدود تقديم الخدمات القنصلية المُجرَّدة ورعاية أبنائها في الخارج فقط، بل عملت القيادة السياسية على أن تكون لمصر ذراعًا طولى تُجلي بها مواطنيها من مناطق الاضطرابات والاحتراب، وتعيدهم إلى ديارهم سالمين؛ هذا، فضلًا عن الاستفادة من خبرات الكوادر المصرية التي اكتسبوها من تواجدهم في الخارج.
ومن يُمن الطالع أن احتفاءنا بمرور مائة عام على إعادة العمل بوزارة الخارجية في مصر عام 1922 يتواكب وإعلان السيد رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي عن “الجمهورية الجديدة” التي تسطر صفحة جديدة في تاريخ مصر المُعاصر. وليس ميلاد الجمهورية الجديدة إيذانًا بمجرد تحول مكاني من قلب القاهرة إلى العاصمة الإدارية الجديدة فحسب، بل هو نتاج عمل دؤوب وشاق، وملحمة وطنية خالصة خاضها الشعب المصري، دافع فيها أولًا عن حقه في وطن لا تجثم عليه جماعاتٌ سعت إلى اختطافه سُدى، ثم تحمَّل ثانيًا مصاعبَ جمة في سبيل لملمة أوراق الوطن وترتيب بيته الداخلي، ثقةً في وعي قيادته السياسية وصدق نواياها في بناء دولته على أُسس قومية متينة. وها هي الجمهورية الجديدة تجني ثمار ذلك، وتبلور مقومات القوة الشاملة للدولة، وتعيد تعريف عناصرها الجوهرية مُوجِّهةً إياها لصالح تحقيق التنمية المستدامة ورفاهة المواطنين، عبر مسيرة وطنية ممتدة من الإنجازات الشاملة ــ يزهو بها كل مصري ومصرية ــ من أجل خلق مستقبل أفضل تستحقه الأجيال الناشئة، وتضمن حياةً كريمة لأبناء مصر أيًا ما كانوا.
إن ما تشهده مصر من استقرار راسخ وتنمية شاملة في إطار الجمهورية الجديدة انعكس بالتبعية في تحركات واعية لسياستها الخارجية التي باتت واضحة الملامح في توجهاتها، وزادت من ثقتها في تحركاتها الدولية والإقليمية في منطقة تموج بالاضطرابات والعواصف السياسية، ولا تتوارى فيها منغصات استقراره. إذ نجحت مصر خلال ثمانِ سنوات من العمل الشاق والعزيمة الصادقة أن تتبوأ دورها الإقليمي التقليدي، الذي يسعى إليها بقدر ما فُرِضَ عليها وأخلصت فيه بلا تَزيُّد، وتمكَّنت باقتدار، من خلال القيادة السياسية، أن تنتقل من مرحلة استعادة التوازن إلى استعادة التأثير، وأن تكون طرفًا مؤثرًا في مُحيطها الإقليمي، تضع خطوطها الحمراء التي تنسج بها قوة ردع تحفظ توازن المنطقة، وتحول دون انجرافها إلى هوة الفوضى.
وإننا إذ نقف على أعتاب المئوية الثانية للدبلوماسية المصرية، نلحظ أن المشهد الدولي بات بالغ التعقيد في تفاعلاته، ويشهد تناميًا مُستمرًا في أدوار اللاعبين المؤثرين من غير الدول بصورتها التقليدية المعروفة، وما يستتبعه ذلك من تداعيات على هندسة التحركات الدولية بمنأى عن مفاهيمها الكلاسيكية، إضافة إلى التأثيرات المُباشرة لذلك على الجبهات الداخلية للدولة. ويهمُّني هنا أن أشير إلى أن تلك التغيرات المتوالية التي تحيق بالساحة الدولية كانت شاخصة أمام متخذ القرار في مصر، إذ عملت عبر دبلوماسيتها وأجهزتها الوطنية المُختلفة على خلق مصفوفة تحركات متنوعة تهدف إلى احتواء تلك المؤثرات، والتحسب من تداعياتها السلبية، بما يصون ركائز الأمن القومي المصري، ويحفظ هوية الدولة المصرية.
كما عكفت وزارة الخارجية على المُتابعة اللصيقة لتلك التطورات في العالم، وإصقال إمكانيات دبلوماسييها وبناء قدرات الشباب منهم والاستثمار فيها من خلال التدريب المتواصل ضمانًا لاضطلاعهم بالتعامل الناجز والسريع مع مختلف المتغيرات بكافة مظاهرها، ووضع خطط التحرك إثر ذلك. وهناك بالفعل حرص على انتقاء الكوادر الشبابية وتنميتها على النحو الذي يتسق مع رؤية السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي في إطار الجمهورية الجديدة، فضلًا عن تبني أساليب التحول الرقمي في العمل بحيث يواكب كل ما هو حديث في عالم اليوم.
وختامًا، فإنني أتوجه بتحية عرفان وتقدير إلى كافة الدبلوماسيين المصريين، أشدُّ بها على أيديهم ـــ رُوادًا وشيوخًا، شابات وشبابًا ــ في عيدهم المائة، جنود الوطن المرابطين على جبهته الخارجية. أولئك الذين شيَّدوا بُنيان الدبلوماسية المصرية، جيلًا بعد جيل، فأحكموه كيانًا شامخًا ساهرًا على مصالح الوطن وخدمة أبنائه. أقول لشيوخ الدبلوماسية من أساتذتنا قدامى السفراء: يحقُّ لكم أن تعتزوا بشرف تمثيلكم لمصر، وأن تزهوا بما قضيتموه من فترات في خدمة الوطن وشعبه العزيز في شتى بقاع العالم، بما فيها من مناطق صعبة وأخرى متأزمة، ملبيين نداء الواجب. ورغم ذلك، أنجزتم الوعد، وبررتم اليمين الذي أديتموه لدى انضمامكم للوزارة، لتبقى راية الوطن خفاقة على كل جبهاته، تظلل على أبنائه في الداخل والخارج. ولزملائي من الدبلوماسيين العاملين في مصر وشتى بقاع العالم أقول: أرى فيكم أمل الوطن ورفعته، وأثق في حسِّكم الوطني الرفيع، وفيما تمتلكونه من قدرات وإمكانات أهّلتكم عن جدارة لشرف الاصطفاف تحت راية مؤسستكم الوطنية العريقة. اعلموا أن في رقابكم دَينًا دائمًا لمصر، وأن على عاتقكم مسئوليات جسامًا أثق أنكم لن تضنوا على بلدكم بالاضطلاع الأمثل بها. اقرءوا تاريخ أرض الكنانة تستلهموا منه مؤونة لا تنفد في مشواركم المهني، وتشدُّ من أزركم في مسيرتكم المُقبلة، لتبقوا ـــ على العهد بكم ــ درعًا للوطن في الخارج”.