الفساد ظاهرة لها جذورها التاريخية وان كان من الصعب تحديد نقطة بـدء نشـوء هـذه الظـاهرة إلا انـه يمكـن الجـزم بوجودهـا فـي سـائر المجتمعـات الإنسـانية وعلـى مـر العصـور ، ويعتقـد الـبعض إن ظهـور هـذه الظـاهرة قـد ارتـبط بوجـود الإنسـان علـى الأرض حيـث بـدأت منـذ عـراك بنـي ادم قابيل وهابيل . بمعنى أخر منذ إن هـبط الإنسـان علـى الأرض شـرع فـي ارتكـاب تلـك السـلوكيات الفاسدة مدفوعا بعوامل متعددة ومتنوعة منها الاجتماعي ومنها الاقتصادي ومنها النفسـي ومنهـا السياسي. الخ . وان كـــان قـــد تغيـــرت بعـــض صـــوره وتطـــورت بعـــض أســـاليب ابتدائـــه عبـــر مســـيرة المجتمعـــات الإنســانية نحــو التطــور والتعقيــد الاجتمــاعي
ممــا ترتــب عليــه تغيــر أســاليب وطــرق الحيــاة لــدى الإنسان ودخول التكنولوجيا الحديثة وتطور وسائل الإعلام وغيرها من العوامل
. إلا إن الفسـاد عـرف منـذ أقـدم العصـور وعـرف فـي مجـال الإدارة منـذ إن كلـف الحكـام والملـوك وال يقومون بــــإدارة شــــؤون الدولــــة وتنظــــيم أمورهــــا الاقتصــــادية والقانونيــــة ٕ نوابــــا عــــنهم داريــــين والاجتماعية.
عـــرف الفســـاد الإداري منـــذ عهـــد الألـــواح الســـومرية ومحاضـــرات جلســـات مجلـــس (أرك ) هـــذه المحاضرات التي تعود إلى الإلف الثالث قبل الميلاد حيث تشكلت حينها محكمة عليا تنظـر فـي قضايا استغلال النفـوذ والوظيفـة العامـة وقبـول الرشـوة وانتهـاك العدالـة ، كـذلك عـرف الفسـاد مـن خـلال تشـريعات (حمـو رابـي ) ملـك بابـل فقـد أشـار فـي المـادة السادسـة مـن تشـريعه إلـى جريمـة الرشـوة فهـي دون إي الجـرائم كـان يقتـرض بفاعلهـا إن يمثـل إمـام حمـو رابـي نفسـه لكـي يقاضـيه
وهذا يدل على مدى اهتمامه بمثل تلك الجرائم .
إمــا الفســاد فــي الــدين الإســلامي حيــث بينــت الآيــات القرآنيــة والأحاديــث النبويــة الشــريفة مــدى خطورة هذه الظـاهرة وأنماطهـا المختلفـة اجتماعيـة مثـل (القتـل بغيـر حـق و الزنـا والبغـاء وشـرب الخمــر والتعــرض لعــورات النــاس بالباطــل والتنــابز بالألقــاب والنميمــة والغبيــة والكبــر والتعــاطي والغـرور وحـب الـدنيا وزينتهـا …الـخ،
واقتصـادية مثـل (إنقـاص الكيـل والميـزان واخـذ الربـا واكـل أمــوال النــاس بالباطــل واكــل أمــوال اليتــامى والمقــامرة والمضــاربة واحتكــار الأقــوات والإســراف ،وار مثــل (الرشــوة وهديــة المــدراء والمســؤولين والســرقة والابتــزاز والتحريــف ٕ والتبــذير…الخ الدارجة والتزوير وخيانة الأمانة …الخ ،
ومن هنا نجد تشريحا موسعا لهذه الظاهرة والحـث الشـديد علـى الابتعاد عن تعاطيها من خلال الترهيب والترغيـب وفـي بعـض الحـالات نـص القـران الكـريم علـى عقوبة مادية رادعة تبدأ من القتل وتنتهي بالجلد او الكفارات ظاهرة الفساد ظاهرة قديمة وجدت مع وجود المجتمعات الإنسانية والأنظمة السياسية التي تحكم هذه المجتمعات عبر التاريخ، ولا تقتصر ظاهرة الفساد على شعب واحد أو دولة أو ثقافة واحدة دون الأخرى كما تخبرنا كتب التاريخ بذلك . وتختلف ظاهرة الفساد في حجمها و درجتها من مجتمع لأخر، وبالرغم من وجود الفساد في معظم المجتمعات السياسية إلا أن البيئة التي ترافق بعض أنواع الأنظمة الحاكمة مثل الأنظمة الاستبدادية الدكتاتورية (والتي لا تأخذ إلا براي حاكمها الشخصي وبناء على وجهة نظره الشخصية وتجاربه فقط)، تشجع على بروز ظاهرة الفساد كرد فعل على هذا التسلط في هذا النظام اكثر من غيره، بينما يقل حجم هذه الظاهرة في الأنظمة الديمقراطية التي تشارك الشعب في الحكم وتستمع إلى رأيه، وتحترم حقوق الإنسان، وحريته العامة.
وبالرغم من أن الأسباب الرئيسية لظهور الفساد وانتشاره متشابهة في معظم المجتمعات إلا انه يمكن ملاحظة خصوصية في تفسير ظاهرة الفساد من شعب لأخر وفقا لاختلاف الثقافات والقيم السائدة التي تنبع من الدين والعادات والتقاليد المتوارثة الموجودة في المجتمع، وتبعا لاختلاف تأثيراته سواء كانت سياسية تتعلق بنظام الحكم في الدولة أو اقتصادية تتعلق بالجوانب المالية والتجارية أو اجتماعية تتعلق بطبيعة العلاقات بين أفراد المجتمع وطبقاته.
أن مكافحة الفساد تستدعي تحديد المقصود بهذا المفهوم، وبيان أسباب انتشاره في المجتمع، وتوضيح ابرز صوره وأشكاله، والآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن هذه الظاهرة، وطرق مكافحتها، والتقليل من آثارها السلبية، وبلورة رأي عام مضاد له وبناء إرادة سياسية لمواجهته وفق آليات تتناسب وطبيعة كل مجتمع. لا إصلاح دون مواجهة للفساد. الدولة المصرية أدركت ذلك جيداً، خصوصاً بعد بدء خطوات الإصلاح الاقتصادي الشامل الذى يستهدف- فيما يستهدف- إصلاح الجهاز الإداري للدولة وتقويمه.
ومن أجل تحقيق الهدف المنشود، وهو «دولة بلا فساد»، اتخذت مصر عدة خطوات وإجراءات مهمة لمواجهة مسببات الفساد واستئصالها من جذورها.
ولكن أظن- وبعض الظن إثم- أن لا أحد في الدولة اهتم بالعلاقة بين الإعلام والفساد، أو بمعنى أدق كيفية خلق إعلام قادر على مواجهة الفساد. هذا هو الإعلام المنشود، سواء كانت وسيلته مقروءة أو مرئية أو مسموعة أو إلكترونية تعمل بشكل تطوعي، كما تستهدف رصد ومراقبة وتقييم بل كشف وتوثيق وتسليط الضوء وإرشاد السلطات إلى حالات الفساد التي تكشفها، من خلال العمل الإعلامي في متابعة وتوثيق الأخبار والأحداث.
وتأثير الإعلام في مسألة محاربة الفساد وكشف مظاهره بشكل فعال ومؤثر دائماً ما يرتبط بمستوى وحجم استقلاليته ومدى مساحة الحرية الممنوحة له، فلا قدرةَ، ولا دورَ، ولا فاعليةَ للإعلام في مواجهة ومحاربة الفساد دون استقلالية وحرية، ودون حماية دستورية للعمل الإعلامي. وتكتسب التوعية الإعلامية بمضار الفساد أهميتها الاستراتيجية في الدول المتقدمة.
ويجب أن تتضاعف هذه الأهمية في الدول النامية التي تعتمد شعوبها على ما تقدمه لها حكوماتها من معلومات وحقائق لتكوين سلوكها وردود فعلها. وتتركز جهود أجهزة الإعلام على إقناع الموظفين العموميين والمواطنين بالتخلي عن السلوك والتصرفات المرتبطة بظاهرة الفساد، مستندة فى تأثيرها بالدرجة الأولى إلى قيم معينة، مثل مصلحة الوطن العليا والانتماء إلى هذا الوطن والولاء والمواطنة. ويمكن أن يتعاظم دور الإعلام فى هذا المسار من المواجهة مع الفساد، من خلال الترويج للعمل الاستقصائي والتحليلي بوصفه الأهم في فضح قضايا الفساد في المجتمع. كما يمكن أن ينجح الإعلام في معركته ضد الفساد والمفسدين، من خلال جملة من العوامل والمقومات التي يرتبط بعضها بجهود وإمكانيات الإعلام ذاته، حيث تسعى المؤسسات الإعلامية، في متابعتها لقضايا الفساد، إلى تسليط الضوء الإعلامي بشكل نزيه وعادل على دور مؤسسات الدولة في ضبط ومتابعة
وكشف مظاهر الفساد والتصدي لها، وكذلك التأكيد على استخدام الوسائل الإعلامية الموثوقة لتعزيز المصداقية وعمق التأثير في الجمهور في تقييمهم لقضايا الفساد، وأيضاً مواكبة تنفيذ الجهد الإعلامي بعملية تقويم ومراجعة دورية تسمح بتعديل الأسلوب والمضمون والوسيلة في الوقت المناسب وتكثيف الجرعات أو تخفيفها في كل ما يخص حملات مكافحة الفساد ومحاربة المفسدين. والفساد ليس ظاهرة محلية لصيقة بالأنظمة السياسة أو الدول فقط، فقد يكون الفساد عابرا للحدود ومصدره شركات متعددة الجنسيات ومنظمات دولية حكومية وغير حكومية.
وتمارس العديد من الشركات العالمية الكبرى التي تمتد عبر الحدود العديد من السلوكيات التي تشكل صورا للفساد الخارجي كاللجوء للضغط على الحكومات من اجل فتح الأسواق لمنتجاتها أو من اجل الحصول على عقود امتياز لاستغلال الموارد الطبيعية أو إقامة البنى التحتية، كما قد تلجأ إلى أساليب الرشوة للمسؤولين في المناصب العامة لضمان الحصول على هذه الامتيازات، أو لتصريف بضائع فاسدة أو غير مطابقة للمواصفات.
وتبرز السلوكيات الفاسدة لبعض الشركات متعددة الجنسيات خاصة في ظل الدول التي تمر في مراحل انتقالية أو في الأقطار حديثة الاستقلال.
ونظرا لما يمكن أن يلحقه الفساد من أضرار ليس على المستوى المحلي فحسب بل وأيضا على المستوى الدولي خاصة في ظل التوجه نحو حرية التجارة وحرية المنافسة، فقد لجأت العديد من الدول والمنظمات الدولية والكتل الاقتصادية الدولية إلى إبرام اتفاقيات دولية لمكافحة الفساد، منها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد واتفاقية الأميركتين لمكافحة الفساد، واتفاقية المجلس الأوروبي للقانون الجنائي بشأن الفساد، التي لا تقتصر على مجرد حث الحكومات على تجريم مختلف أشكال الفساد،
ولكنها تبرز الحاجة إلى وجود قوى محايدة في مجال التحقيقات والمتابعة القانونية والقضائية لكشف الفساد العام واستئصال جذوره وكذلك بادرت بعض الدول الإفريقية لبلورة اتفاقية لمقاومة الفساد. وتساعد الاتفاقيات الدولية متعددة الأطراف ضد الفساد على إنجاح جهود مكافحة الفساد في مختلف الدول كما تضفي الصفة الرسمية على الالتزام الحكومي بتنفيذ مبادئ مكافحة الفساد.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلوم