ومن الملاحظ ارتباط العنف في اذهان الناس بالقتل والدماء والتدمير والأسلحة وهذا ما يمكن تسميته بالعنف القاسي أو الصلب أي العنف المادي ، وقد لا يكون هذا الشكل من اشكال العنف ألا المظهر الخارجي لعنف لا يمارس عبر ادوات القتل بل بأدوات الفكر أو العزل أو الحرمان وغير ذلك من الاساليب السياسية وغيرها وهذا ما يسمى بالعنف اللين أي العنف المعنوي ،وقد يترافق اللونان و قد يفترقان ، ألا انه من الصعب ان نجد العنف القاسي غير مترافق مع العنف اللين انما ممكن ان يكون العنف اللين دون الآخر ،
ونلاحظ وجود ارتباط وثيق بين العنف وبين الارهاب ، حيث ان العنف هو من الخصائص المتفق عليها للإرهاب والجريمة الارهابية ، وأن من ابرز الصور التي يتم فيها التحريض على العنف هو وسائل الاعلان ، بحيث أصبح التمييز بين ما يدخل في حرية التعبير ونقل المعلومات وواجب وسيلة الاعلام في نقل المعلومة الى القارئ او السامع والمشاهد ،
وبين وما يدخل في باب التحريض على العنف من المسائل القانونية الدقيقة التي لا تحتاج الى تمييز ، وذلك لان تحريض وسائل الاعلام على العنف بات واضحاً وبينا وظاهراً ، ولا يحتاج الى تحر أو استقصاء أو تأمل أو تدبر ، وذلك لان الاعلام بوسائله يقود البشرية الى ابعاد خيالية مطلقة في سلطاته الواسعة.
وفي مقدمة وسائل الاعلام الصحف والمجلات والإذاعة والتليفزيون والسينما والاتصال البريدي المباشر واللافتات والإعلانات الضوئية وغيرها الكثير ، والمفروض ان الاعلام يقوم على التنوير والتثقيف ونشر الاخبار والمعلومات الصادقة التي تنساب الى عقول ، وترفع من مستواهم وتنشر تعاونهم من أجل المصلحة العامة.
أولاً : استخدام الافكار المتطرفة :
ابتداءً لابد من توضيح المقصود بالتطرف ، التطرف : هو الوقوف بالطرف أي بعيداً عن الوسط ، فأصله في الحسابات كالتطرف في الوقوف أو المشي أو الجلوس ، وأنتقل الى المعنويات كالتطرف في الدين أو السلوك أو الفكر ، وهي مرادفة لكلمة الغلو وهي تجاوز الحدّ ، وهي مضادة لكلمة الوسطية والتي هي من الوسط أي بين الطرفين . والتطرف يختلف عن التشدد أو المتشدد حيث أن المتشدد هو الذي يتشدد على نفسه في تطبيق الدين فهو يختار جانب الاصوب من العبادات والمعاملات ، ولا يأخذ بالرخصة التي أذن بها الله تخفيفاً على عباده وذلك تطوعاً من نفسه وتقرباً الى الله تعالى ، بشرط آلا يلزم غيره بالتشدد وإلا دخل في دائرة التطرف
إن التطرف قد وردت له عدة معاني في قاموس اكسفورد هو ( النهاية القصوى في أي خط او سلسلة متدرجة ) ، أو هو (شدة المغالاة أو العنف في الانفعال أو السلوك ) ، أو ( الغلو في الاعتقاد والسلوك ) ، أما قاموس standard dictionary فقد عرّف التطرف على انه (راديكالية الاعتقاد ) أمّا التعريفات القانونية والسياسية فأنها تتفق على أن التطرف هو الخروج العنيف عن النظام القيمي والفلسفي السائد في المجتمع
والتطرف الديني يشمل مجموعة من الافكار والفتاوى التي تتناول كل جوانب الحياة وتدعوا الى تحريم كل شيء من نعم الحضارة والحياة المعاصرة ، حيث أنه في جميع قضايا المجتمع والحضارة لهم رأي مخالف للعلم والمنطق ، بل حتى مخالف لدين الوسطية التي نادى بها الاسلام ، حيث ميز الله تعالى الامة الاسلامية وجعلها أمة وسطاً لقوله تعالى في سورة البقرة الآية (143 ) (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) ، وبذلك فأن المتطرف دينياً يمكن تعريفه بأنه الشخص الذي يتخذ موقفاً متشدداً يتسم بالقطعية في استجاباته نحو الموضوعات وفيما يقوم به من الممارسات ذات الطابع الديني.
ونلحظ بأن هناك فرقاً بين التطرف والإرهاب ، حيث أن الارهاب يتمثل بالاعتداء على الحريات أو الممتلكات أو الارواح وله طابع سياسي ، أما التطرف فيرتبط بمعتقدات غير عادية أو غير متعارف عليها قد تكون دينية أو سياسية أو اجتماعية ، ويظل التطرف تطرفاً طالما أنه ظل تطرف في المعتقدات أي تطرف فكري ، أنما إذا تحول الى استخدام العنف لمواجهة المجتمع أو التهديد بالعنف لفرض المعتقدات المتطرفة على الآخرين فانه يتحول الفكر المتطرف الى إرهاباً طالما صاحب الفكر المتطرف اعتداء على الحريات أو الممتلكات أو الارواح .
ويبدوا أن القول بأن التطرف هو أحد أوسع الأبواب التي تؤدي إلى الإرهاب يحتمل الكثير من الواقعية ، خاصة بعد أن ثبت ان اكثر موجات الارهاب التي اجتاحت العالم العربي كانت نتاجاً للتطرف ، وذلك لان التطرف الفكري قد يقود الى السلوك الارهابي ويرتبط به .
وبالتالي فأن التطرف يسبب افكار منحرفة ، وأن هذه الافكار المتطرفة هي التي تقود الى القيام بعمليات ارهابية واقتتال طائفي وحروب والخ ، وبالتالي نلاحظ مدى العلاقة بين التطرف والإرهاب الفكري ، حيث ان الارهاب الفكري هو من نتاج الافكار المتطرفة .
التحريض على العنف
حرّض من باب أطرب ، والفعل حرض ومصدره تحريض ، والتحريض على القتال أي حثه ، وذلك لقوله تعالى في سورة الانفال الآية (65) (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ) ، وكذلك قوله تعالى في سورة النساء في الآية (84) (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا ، وكذلك فأنه يفيد الدفع والتحريك وخلق الحافز لدى المخاطب في اثبات الفعل المحرض عليه ( ) ، ويعرف التحريض بأنه كل ما يحمل شكله أو مضمونه أو نبرته تهديداً واضحاً ومباشراً بالحثّ على العنف والاضطرابات والإخلال بالأمن أو الكراهية ، فالتحريض على اساس الجنسية أو الاثنية أو الجنس أو الدين غير مسموح به
وكذلك يعرف بأنه دفع الغير الى ارتكاب الجريمة سواء خلق فكرة الجريمة اصلاً لديه أو اقتصر على حث الغير وتشجيعه على الجريمة الموجودة في ذهنه من قبل
وقد وردت كلمة التحريض في قانون العقوبات المعدل رقم 111 لسنة 1969 في المادة (48 ف 1) ( يُعدَ شريكاً في الجريمة : من حرض على ارتكابها فوقعت بناءى على هذا التحريض ) ، وكذلك وردت في الجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة ما يتعلق بالتحريض على الفسق والفجور في المادة 399. أمَا العنف فيعرفه قاموس اكسفورد بأنه فعل ارادي متعمد بقصد الحاق الضرر أو التلف أو تخريب الاشياء أو ممتلكات أو منشآت خاصة أو عامة أهلية أو حكومية عن طريق استخدام القوة
، بأنه تعبير عن خلل ما في تفكير وسياق صانعها ، سواء على المستوى النفسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي ، وهؤلاء يستخدمون العنف متوهمين أن هذا الخيار سيوفر لهم كل متطلباتهم وأهدافهم ، والعنف أما يكون عنف فردي أو عنف جماعي ، ويعرف العنف الفردي بأنه ايذاء باليد أو باللسان ، بالفعل أو بالقول في الحقل التصادمي مع الآخر ، أما العنف الجماعي هو أن تقوم به مجموعة بشرية ذات خصائص مشتركة ، بأستخدام القوة كوسيلة لتحقيق تطلعاتها الخاصة أو تطبيق سياقها الخاص على الواقع الخارجي
فلو رجعنا الى الدستور العراقي لعام 2005 ، فقد ورد في المادة ( 29) رابعاً والتي نصت على ان (تمنع كل اشكال العنف والتعسف في الاسرة والمدرسة والمجتمع) ، وبهذا نجد ان الدستور لم يمنع العنف فقط وإنما منع التعسف ايضاً ، وبهذا فأن العنف عملاً غير مشروع وجريمة يعاقب عليها القانون ، وان التحريض على العنف وهو صورة من صور المساهمة في العنف وهو ممنوع بموجب احكام الدستور بصفته هذه . وأمّا بالنسبة الى قانون نقابة الصحفيين رقم 178 لسنة 1966 فقد منع الصحف من اختلاق الاخبار والتضليل وافتعال الاحداث وتهديد المواطنين وزعزعة الثقة بالبلاد وكل ما من شأنه ان يحقق فائدة لجهة معادية ، كما ان قانون المطبوعات رقم 206 لسنة 1969 المعدل اشار الى منع التحريض على العنف بالصيغة التي كانت سائدة آنذاك وقرر فرض عقوبات على مالك المطبوع ورئيس التحرير وكاتب المقال وأوجب سريان ذلك على المؤلف والمترجم والناشر.
وكذلك فقد نظم قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل موضوع التحريض في مواضع مختلفة منها ما عده وسيلة اشتراك ومنها ما عده جريمة خاصة
، ففي المواد ( 48 – 50) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل ، ذكرت انواع الاشتراك في الجريمة وهي التحريض على ارتكاب الجريمة والاتفاق والمساعدة ، اذ قررت المادة (48) ( يعد شريكاً في الجريمة من حرض على ارتكابها فوقعت بناء على هذا التحريض) ، وقررت المادة (49) اعتبار المُحَرِض فاعلاً اصليا للجريمة اذا كان حاضرا اثناء ارتكاب الجريمة او ارتكاب اي فعل من الافعال المكونة لها ، وهذا يعني ان المحرض يتحول في هذه الحالة من شريك الى فاعل وعاقبت المادة المحرض بالعقوبة المنصوص عليها قانوناً حتى ولو كان فاعل الجريمة غير معاقب عليه لأي سبب فمن يتولى تحريض عدد من الاطفال على ارتكاب جريمة القتل او الخطف او اتلاف الاموال يعاقب بعقوبة هذه الجرائم ولو كان الفاعل غير مسؤول جزائياً
وخلافاً للأحكام السابقة التي اشترط فيها القانون حصول الجريمة بناء على التحريض كشرط من شروط العقاب ، فان القانون عاقب في الجرائم الماسة بأمن الدولة الداخلي على التحريض الحاصل حتى ولو لم تقع الجريمة محل التحريض ولو لم يحصل التحريض على اثر ،ذلك ان القانون في هذه الحالة يعاقب على مجرد صدور التحريض وفي ذلك فأن المادة (170) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل نصت (يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنوات من حرض على ارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المواد (156 ـ 169 ) ولو لم يترتب على التحريض اثر ، وبذلك فأن التحريض على العنف يخلق فكرة الجريمة ويساهم في انتشارها من خلال زرع فكرتها في نفوس الاشخاص ، وبالتالي فأن التحريض على العنف من انماط الارهاب الفكري وذلك لما له من دور كبير في خلق ظاهرة الارهاب الفكري .