يرجع مفهوم الجماليات الكلاسيكية إلى الفلسفة اليونانية المبنيّة على نظريات أفلاطون وأرسطو؛ وقد تبنى أرسطو فكر معلمه أفلاطون الذي طرح أن الجمال هو المثال المطلق الإلهي، وسار على خطاه في اعتماد مبدأ المحاكاة؛ الذي يُحتم على الفن مشابهة الطبيعة والنقل منها، وقد دام تأثير الجماليات الكلاسيكية المُنطلقة من حدود الطبيعة طويلا، حتى اللحظة التي علت فيها الأصوات المطالبة بتحرير الفن من قيوده في نهاية عصر النهضة،
ما أدى إلى تحرر الفنون من سيطرة الجماليات الكلاسيكية ومعاييرها الثابتة، وتم الإعلان عن بداية عصر جمالي مختلف. فسح التغير الذي طرأ على الجماليات المجالَ أمام الفن ليتخطى مجرد كونه استجابةً ألسست سائدة، وباتت الجماليات غير معرفة بأسلوب واحد مفضل، أو طريقة منهجية ثابتة، كما على الشأن الثقافي على حساب الجمالي نتيجة طغيان ثقافة ممنهجة من قبل سياسيات اقتصادية حركت مسار الفن حسب ما ترتأي، وباتت الفنون المعاصرة -بما فيها العمارة- تعاني من أزمة حقيقية، بعد أن تحول الجمال إلى ترويج ثقافي،
وسط عولمة ثقافية فرضتها القوة المتنامية للدول الصناعية الكبرى، عولمة توظف الفن خدمةً لمصالحها، وال تتوانى عن سحب أي شرعية للجماليات السنيما الجماليات المعمارية، وأصبح التحدث بلغة الأنا المحلية، الإقليمية، أو القطرية، من وجهة نظر جمالية جديدة، تعبيراً مباشراً عن الانغلاق أو الانسحاب من مواطنية العالم، وقد أدّت هذه التعقيدات إلى انزياح الجماليات عن مسارها التاريخي وظهور مفاهيم جديدة ونظريات جمالية مطروحة كبدائل عن غياب المعايير الجمالية الكلاسيكية، والتي تتنوع وتختلف وحتى تتعارض أحياناً، ما يطرح إشكالية الحكم الجمالي على العمارة المعاصرة، في ظل غياب معايير الجمال الكلاسيكية، والتضارب الكبير لوجهات النظر حول المفهوم الجمالي المعاصر
وتشكل القيم الجمالية إحدى مرتكزات منظومة القيم الثقافية لحضارة أي مجتمع. وترتبط على وجه الخصوص بالفنون الجميلة والتطبيقية. وهي تؤثر في المجتمع تبعا لمدى الاستقرار الذي يعيشه ومدى شعوره بالأمن والحماية من الظروف البيئية والتعديات الخارجية.
كما تتأثر هي بحجم التطور المدني والازدهار الاقتصادي- الذي يتدخل في تحديد حجم العمل المعماري وشكله وتقنياته الإنشائية ومواده الخام- فالقيم الجمالية مثلما تتفاوت بين طبقة اجتماعية وأخرى في المجتمع الواحد، فهي تتفاوت في أشكالها بين المجتمعات الحضرية والريفية. وبين الصناعية والزراعية. وبين الساحلية والصحراوية والجبلية، بين المجتمعات المنفتحة على غيرها من الحضارات والأخرى المنغلقة على نفسها. بين المجتمعات العريقة والمجتمعات الوليدة في مستوطنات جديدة.
ولهذه القيم الجمالية انعكاسات شتى تظهر على سلوكيات وتعاملات الناس، مثلما تظهر في فنونهم وآدابهم وعاداتهم وتقاليدهم. والعمارة كمنجز حضاري، هي واحدة من انعكاسات أو تطبيقات هذه القيم على المستويين الفكري والمادي. فالعمارة تتشكل بداية وفق منظومة من القيم المجتمعية الأصيلة أو الدخيلة، التي تستقل أو تتبع أو تخضع لمجموعة من المؤثرات البيئية والاقتصادية والسياسية. وهي ترتقي أو تنحدر على قدر وعي المجتمع وأداركه لأهمية دور العمارة في تشكيل أو إعادة صياغة وعي المجتمع ومفاهيمه العامة حول ذاته ومحيطه الجغرافي. ثم تتحول إلى مؤثر قوي في تغيير سلوكيات المجتمع ومنظومة قيمه التي كان يعتنقها إيجابا أو سلبا، تبعا لكفاءة المنجز والقيم التي يراد له أن يعكسها أو يعيد صياغتها. أو تم إهمالها وتجاهلها. فهي المرآة العاكسة لحالة المجتمع كيفما هو عليه وإلى ما سيؤول إليه.
وتتمحور القيم المعمارية حول العلاقة بين الشكل والمضمون. وتستهدف المواءمة بينهما مستمدة منهما قيمتين متلازمتين هما:
•قيم وظيفية، وهي ترتبط بطبيعة المبنى (مبنى للسكن أو مبنى لممارسة العبادة أو المعاملات التجارية أو التعليمية أو الترفيهية… أو غيرها من الأنشطة الأخرى). كذلك ترتبط بعلاقة فراغات المبنى الواحد ببعضها البعض من حيث الأهمية والتكامل.
•قيم جمالية، وهي التي تتعلق بالنسب الجمالية للمبنى وطرزه المعمارية التي تميزه عن الثقافات الأخرى المختلفة والمتباينة والمتفقة معها في المنطلقات والأهداف والغايات. فالعمارة الإسلامية مثلا، تشكل إطارا عاما لمجموعة من العمائر المحلية المتباينة بين بيئة إسلامية وأخرى، تخضع في تشكيلها لعدة معطيات بيئية واجتماعية وثقافية واقتصادية. وفي بعض الأحيان تخضع لمتغيرات سياسية يكون لها دور كبير في تشكيلها، لتصنع في النهاية هذا التمايز والتنوع داخل ذلك الإطار العام.
وتكتسب العمارة قيمتها الجمالية من خلال توفيقها بين:
• القيم الجمالية المادية. وهي التي ترتبط بالجوانب التالية:
الكفاءة الوظيفية للمنجز المعماري في تلبية احتياجات المجتمع المادية والعاطفية، كذلك بقدرته على مواجهة التحديات التي تفرضها عليه البيئة المحيطة بإشكالياتها المتعددة،
القدرة على تحريك طاقات المجتمع الإبداعية ودفعه إلى تطوير قدراته واستثمار مقوماته البشرية وموارده الطبيعية في تحسين ظروف بيئته المحيطة لتواكب تطلعاته وتوفر له الاكتفاء الذاتي من احتياجاته الأساسية والكمالية.
القيم الجمالية المعنوية. وهي ترتبط بالجوانب التالية:
القدرة على خلق بيئة عمرانية تحقق حالة من التوافق والتواصل المباشر بين طبقاته وأطيافه المختلفة وتكون صالحة للتعايش والانسجام وتبادل المنافع والشعور المشترك بالانتماء للمكان.
شعور المستعمل بالراحة والرضا النفسي وتكامل فراغات المبنى. والخصوصية التي يمنحه إياها المبنى. والحماية من العوامل المناخية. أو تعدي الآخرين على حرماته وممتلكاته. وحقه في التمتع بضوء الشمس والهواء دون عوائق تحول بينه وبين ذلك.
وقد اعتمدت العمارة المحلية التقليدية في تحقيق قيمها الجمالية- بشقيها المادي والمعنوي التي تعبر عنها- على مجموعة من التعابير الثقافية التي تستند في مرجعيتها ومحدداتها إلى العقيدة الإسلامية إضافة لاكتسابها العمق التاريخي الذي يمتد إلى مرحلة الإنسان ما قبل التأريخ. وهي تظهر بجلاء في الآتي:
- التوفيق بين المتطلبات المادية والاحتياجات العاطفية والروحية. وهذا يظهر جليا من خلال الكفاءة الوظيفية للمباني على المستويين المعماري والتخطيطي في التعاطي مع الظروف البيئبة وتلبية قيم المجتمع الحضارية.
2استخدام عناصر ومفردات معمارية متنوعة متجانسة من حيث الشكل ومواد البناء (المحلية المصدر والتصنيع). وذلك من خلال تطعيم سطوح (واجهات) المباني وفراغاتها الداخلية الحوائط بالأعمال الخشبية والمشغولات المعدنية المحلية بأشكلها المتنوعة ولونها الأخضر إضافة للعناصر الزخرفية الجصية وفي بعض المساجد والبيوت الكبيرة يدخل القيشاني في تلبيس الحوائط، التي تثري مجتمعة جماليات أفنية البيوت وواجهات المباني وشوارع وأزقة المدينة.
3استثمار النباتات المثمرة والأزهار العطرية في تزيين أفنية البيوت والساحات العامة وإحاطة المدن بالبساتين والجنائن التي تضفي بجمال أشجارها قيمة جمالية مضافة إلى الكفاءة الوظيفية لمخططات وعمارة المدن. - استثمار المؤثرات البيئة المناخية على المنطقة التي تتميز بدرجة سطوع عالية للشمس كتعبير جمالي بين الظل والضوء وانعكاساتهما المتبادلة على سطوح المباني بطلائها الأبيض.
إن الجميل ترتاح له النفس، وينشرح له الصدر، أما القبيح فينشأ عنه شعور بألم أو نفور، قال «نِيتشه»: «كل ما كان قبيحًا يضعف الإنسان ويقبض صدره؛ إذ يذكره بالانحطاط والخطر والوهن.»
فإحساس الإنسان بشيء من الضيق يؤذن بحدوث شيء «قبيح»، وقد ذكرنا أن الجميل ترتاح له النفس، ولكن ليس كل ما ترتاح له النفس جميلًا؛ ذلك لأن اللذة التي تحدث من الجمال نتيجة تأثير في العقل بواسطة الحواس، ولست أعني كل الحواس، وإنما أعني الحواس الراقية، وهي حاستا السمع والبصر، فليس كل ما يلذ لحاستي اللمس والشم دائمًا جميلًا، فلا شيء من الجمال في فاكهة لذيذة عند أكلها، ولا في مطعوم عندما نطعمه؛ إذ لا يوصف ذوق تفاحة ولا شم مشموم بأنه جميل، وإنما يقال: طعام مستطاب، ورائحة طيبة.
والجميل أيضًا يغاير النافع؛ فإن الشيء الجميل حقًّا الذي يمنحك لذة لا تكافئها لذة بالتأمل في محاسنه، أو بالإصغاء إلى تناسق نغماته، ليس بنافع عادة — أعني أنه ليس بنافع ماديًّا وإن كان من المحتمل أن يكون نافعًا من الوجهة الأدبية — وما يحدث من اللذة والسرور عند التأمل في الجمال مقصود لذاته لا لشيء آخر وراءه يرغب فيه، وقد كان الفيلسوف الألماني «كانت» أول من أبان أنه مقصد لا وسيلة لغيره.
والسمع والبصر اللذان يعدان أعظم الطرق في العقل هما العضوان اللذان يوصِلان إلى المخ أو إلى المركز العصبي كلَّ التأثرات التي تحدث من التأمل في اللون والشكل والهيئة والحركة، أو من سماع أصوات خاصة، وهذه التأثرات تكون مصحوبة عادة بشعور بلذة أو ألم، وتسمى اللذة التي تحدث من التأمل في الجمال «لذة الجمال»؛ وهي أثر الجمال يخاطب عواطفنا وعقولنا وخيالنا بواسطة الحواس، فيُذْكي نفوسنا ويرقيها ويُزكِّيها، ومن مميزات هذه اللذة خلوها من رغبة في الملك تسبب إحساسًا بالألم لا محالة؛ ففرع الفلسفة أو علم النفس الذي يبحث في هذه العواطف وتلك اللذائذ هو «علم الجمال». والإنسان كثيرًا ما يحس بسرور ولكنه لا يعرف علته،
وقلما يبحث في السبب ويحلله، والغرض الفلسفي من علم الجمال أن يبحث وينقب ويحدد ذلك. نعم، إن الفيلسوف والعامي يشتركان في أن كلًّا يشعر، ولكن الثاني لا يستطيع أن يوضح شعوره بقول أو فعل كما يستطيع الفيلسوف والفنان؛٢ فالعامي يشعر فقط، والفيلسوف يشعر ويتأمل. في العامي غريزة ساذجة وعاطفة وإلهام يشاركه فيها الحيوان إلى حد ما، وفي الفيلسوف تَبَصُّرٌ وإمعان وفكر.
علم الجمال — وإن شئت فقل: «علم الجميل» — هو علم يبحث في الشعور والإحساس واللذائذ التي تبعثها مناظر الأشياء الجميلة. وهذا التعريف لا يسلم من النقد إن لم يكن خطأ محضًا؛ فإن هذا العلم لا يبحث في الجميل فقط، بل يبحث في القبيح أيضًا، كما أنَّا إذا تكلمنا عن «علم الحروب» فلسنا نعني علم النصر، وإنما نعني علم الحركات الحربية التي ينبغي أن تؤدي إلى النصر، وربما أدت إلى الهزيمة. الجميل يبعث في النفس الشعور بالحب والجاذبية واللذة والسرور، والقبيح يبعث الشعور بالكراهية والنفور،
ولكن نرى جمال الطبيعة الرائع، والنجوم التي لا عداد لها سابحة في الفضاء منثورة نثر الرمال في الصحراء، والجبال الشامخة، والبحار الشاسعة، وشروق الشمس وغروبها فنطلق عليها اسم «الجميل»، وهي مع ذلك تحدث في النفوس حزنًا عند التأمل فيها، وتبعث نوعًا من الكآبة — أو الوجد — يصح لنا أن نسميه ألمًا لذيذًا، وسبب هذا أننا نُرَاعُ أمام هذه الأشياء باللانهاية، ويعلونا الشعور بأنَّا لم نعد في حضرة «جميل»، بل في حضرة «جليل»، وهذا يحدث في النفس أولًا شعورًا بالضعة، ثم يتلوه شعور بالرفعة.