اتخذ الصوفية منهجهم العملى من كتاب الله تعالى وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم بالعِلم والخَلوة والذكر والصحبة والعبادات،
لكن سلوكهم الروحي إلى الله من الجانب الروحى يركز على أحوال القلوب وجوانب النفس البشرية وأمراضها التى تحول دون الوصول إلى المقامات العالية والتى تبدأ بالأحوال لتنقلب بعد المجاهدات إلى مقامات لا تتغيّر حيث تصبح طبيعةً للنفس فى معيّة الله، كمقامات التوبة والمحاسبة والخوف والرجاء والمراقبة والتوكل، فيكتسب السالك صفات خُلُقية كالصبر والإخلاص والصدق والإيثار والكرم والمعرفة الذوقية، ويترقَّى من حضيض البشرية المادية إلى مستوى الإنسانية الملَكية وصولاً إلى مقام الإحسان فينعم بالقرب والأنس بالله تعالى.
ولقطع مسافات الطريق لابد من المجاهدات النفسية، فالوصول إلى الله سبحانه لا يُنال بالتمنِّى، بل لابد من إيمان قوى وتقوى وصدق التوجّه وعزم وحزم شديد حتى يُكرم السالك بالمعرفة الربانية والسعادة القلبية، يقول تعالى ” *وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا* “.
الطريق الصوفِى يبدأ بالتوبة ، فمن لا توبة له لا سيْر له، والتوبة هى الرجوع عن ما هو ممنوع شرعاً إلى ما هو محمود، وهى مفتاح الإستقامة والتوجه إلى رب العالمين والإقلاع عن كل ما لا يُرْضِى الله.
والتوبة علم وحال وفعل، فالعلم معرفة قدر عِظم الذنوب وكونها حجاباً بين السالك وربه فيتألّم القلب ويندم، فإذا غلب هذا الألم على قلبه ونفسه تنبعث منه حالة إرادية تجبره على ترك الذنوب خوفاً من فوت المحبوب إليه والدرجات العليّة والتقرب إلى الله تعالى.
العزيمة قد تقوى وتضعف حسب إيمانه فيُسمّى هذا حالاً ، ولمّا يتقوّى الندم يورث عزماً على البعد عن اقتراف ما يبعده عن ربه ومولاه فيُقلع السالك عن المعصية وهنا يأتِى العمل فيرجع إلى شرع الله والأمر والنهى فيه.
التوبة على ثلاث درجات: توبة العامة من الذنوب وتوبة الخاصة من الغفلة وتوبة خاصة الخاصة من ركون القلب إلى ما سوى الله سبحانه، وشتّان بين من يتوب من المعاصِى والذنوب وبين من يتوب من رؤية الحسنات والطاعات والمكاشفات والركون إليها، وبين التوبة من طمأنينة النفس إلى غير الله.
*دليل التوبة *من الكتاب** قوله تعالى “ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ” فالتوبة سبيل الفلاح، وقوله تعالى ” وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ “، وقوله تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “، ودليلها فى السنة قول النبى صلى الله عليه “يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلى اللهِ، فإنِّى أَتُوبُ في اليَومِ إلَيْهِ مِئَةَ مَرَّةٍ”، وقوله صلى الله عليه وسلم “إنَّه لَيُغانُ على قَلبِى، وإنِّى لَأستَغفِرُ اللهَ في كُلِّ يَومٍ مِئةَ مَرَّةٍ”، يقول سيدى عبد القادر الجيلانى “الندم توبة، وعلامة صحة الندم رقة القلب وغزارة الدمع” وبهذا رُوى عن النبى صلى الله عليه وسلم قوله “جالسوا التوّابين فإنهم أرقُّ أفئدةً”، وسُئل أبو بكر الواسطى عن التوبة النصوح فقال “أن لا تُبقى على صاحبها أثر من المعصية سراً أو جهراً، ومن كانت توبته نصوحاً فلا يبالى كيف أمسى وأصبح”، قال الإمام النووى رضى الله عنه “التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وربه فلها ثلاثة شروط: أن يُقلع عن المعصية ويندم على فعلها ويعزم أن لا يعود إليها أبداً، فإن فُقد أحد هذه الثلاثة لم تصح توبته”، وقال ذو النون المصرى “توبة العوام من الذنوب وتوبة الخواص من الغفلة”، والسالك إلى الله لا ينظر إلى صغر الذنوب بل ينظر إلى عظمة الله اقتداءً بأصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فكان سيدنا أنس بن مالك رضى الله عنه يقول “إنكم تعملون أعمالاً هى أدق فى أعينكم من الشعرة كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات” وذلك لقرب الله ورسوله فيُعظِّم من العالم ما لا يُعظِّمه من الجاهل، قال سيدى عبد القادر الجيلانى رضى الله عنه “يُتجاوز عن العامِّى ما لا يُتجاوز عن العارف على قدر ما بينهما من التفاوت فى العلم والمعرفة” فكلما قرب السالك من نور الهدى صحح علمه بالله جلّ فى علاه وزاد عمله ودقّت توبته، وكلما تطهر من الآثام والأدناس والرذائل أشرقت سريرته بأنوار الأنس بالله فلا يخفى عليه ما يطرق قلبَه من خفىّ الآفات وما يعكر صفوه حين يهمّ بالزلّات فيهرع إلى التوبة حياءً من الله الذى يراه، فيُتبع التوبة بالإكثار من الإستغفار آناء الليل والنهار فيشعر المتصوف بالعبودية الحقيقية والتقصير فى حق ربه، وهذا اعتراف منه بالعبودية وإقرار بالربوبية، فيذرف الدمع أسفاً وندماً على ما أسرف وفرّط فى جنب الله ويحاول إصلاح عيوبه وتقصيره ويتدارك نفسه ويعترف بالعبودية ويقرّ بالربوبية ويطبق قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم “اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن”، فهذه التوبة فى حق الرب.
أمّا التوبة فى حق العباد فشرطها أن يبرأ من حق صاحبها فإن كان مالاً ردّه عليه، وإن كان سبّاً أو قذفاً يطلب عفوه ويستغفر له، وإن كان غيبة استحلّه منها، فالحقوق لابد أن ترجع لأصحابها.
الصوفِى الحق لا يقف عند التوبة من المعصية لأنها توبة العوام، بل يتوب من كل شئ يشغله عن الله تعالى، والتقرب إليه بالذكر وشتى العبادات، فالتوبة إذا استجمعت شروطها فهى مقبولة بإذن الله وفضله، يقول سبحانه “وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ”، ويقول تعالى “غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ”، وقال صلى الله عليه وسلم “لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِى وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ”، ويقول صلى الله عليه وسلم “إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِىءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِىءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا”، ويقول صلى الله عليه وسلم “التائب من الذنب كمن لا ذنب له”، ويُروى أن حبشياً قال يا رسول الله إني كنت أعمل الفواحش فهل لي من توبة قال نعم فولى ثم رجع فقال يا رسول الله أكان يرانى وأنا أعملها قال نعم فصاح الحبشى صيحة خرجت فيها روحه، ويُروى أن نبياً من بنى إسرائيل أذنب فأوحى الله إليه وعزتِى إن عدتَ لأعذبنك، فقال يا رب أنت أنت وأنا أنا، وعزتك لإن لم تعصمنِى لأعودنّ فعصمه الله تعالى، لذلك يقال إن العصمة لا تكون إلا لنبى، فالعبد لا يطلب من الله العصمة وإنما يطلب منه الحفظ، جعلنا الله وإياكم من المحفوظين.