في العصر الحديث ظل تراث ابن خلدون حاضرا بقوة من خلال نظرياته في الاقتصاد والتعليم و التاريخ وعلم الاجتماع، وكانت إسهاماته محل تقدير من المؤسسات العلمية الغربية حيث تصدر الجامعات الغربية سنويا عشرات الكتب التي تتحدث عن ابن خلدون وحياته ورحلاته وما كتبه في مجال فروع العلوم الإنسانية. بدأ الاهتمام بتراث ابن خلدون من قبل الباحثين والمهتمين بالعلوم الإنسانية خاصة في آسيا و أوربا وشهد هذا الاهتمام تطورا ملحوظا سواء من خلال البحوث و الكتب أو المؤتمرات والدراسات،
الكثير من هؤلاء الباحثين بدأوا إعادة اكتشاف مساهمات ابن خلدون في علم الاجتماع خاصة والعلوم الإنسانية بشكل عام ثم بدأت نظريات ابن خلدون تستخدم بشكل مكثف في العصر الحديث من قبل الباحثين والمختصين، وذلك لمعرفة الظواهر السياسية والاجتماعية التى تطبع مجتمعات اليوم وتفسيرها بناء على النظرية الخلدونية.
في هذا الإطار أصدرت مؤسسة Oxford University Press كتابا من تأليف فريد العطاس، يحاول هذا الكتاب تسليط الضوء على جوانب مختلفة من حياة ابن خلدون و بحوثه ونظرياته واسهاماته في التراث العلمي للإنسانية. ثم جاء الباحث والاقتصادي الدكتور محمد عمر شبرا ببحث حول مدى قدرة النظرية الخلدونية على حل مشاكل المجتمعات المسلمة في عصرنا الحاضر،
وفي دراسة مقارنة في التاريخ بين ابن خلدون وهيجل للباحث التركي علي كاكسو محاولة لفهم منهجية ابن خلدون في التفرق بين “الحقيقة Reality” و”الخيال Ideal “. حجم البحوث والدراسات الصادرة من الجامعات ومراكز البحوث الغربية والآسيوية ومستوى الاهتمام بتراث ابن خلدون ودراسته يجعل من هذا العالم والفيلسوف و المؤرخ الإسلامي أبا مؤسسا لعلم الاجتماع المعاصر.
ابن خلدون في جامعة ييل الأمريكية في الفترة ما بين مارس وإبريل سنة 2008 أقامت جامعة ييل (Yale) إحدى أعرق الجامعات الأمريكية معرضا خاصا بتراث ابن خلدون، وقد استقطب المعرض الكثير من الزوار من باحثين ومؤرخين وأساتذة جامعات وطلبة وكانت فرصة أكاديمية مهمة نوقشت فيها الكثير من أعمال ابن خلدون خاصة كتابه “المقدمة”. حسب جامعة ييل فإن أول نسخة من مقدمة ابن خلدون تتألف من 3 مجلدات بتحقيق المستشرق الفرنسي إلين مارك كارتمير 1782 – 1857، وقد نشرت هذه النسخة 1858 في باريس بفرنسا.
تعود شهرة ابن خلدون إلى كتابه “المقدمة” الذي كان بمثابة الجزء الأول من كتابه “العبر” وقد شكل هذا الكتاب أساسا لعلم جديد وهو “علم العمران” ويهتم بتطور المجتمعات البشرية واستخدمت نظريات ابن خلدون من طرف علماء الاجتماع والاقتصاد والمؤرخين والفلاسفة وخبراء التاريخ. ترجمت المقدمة إلى أكثر من عشرين لغة إضافة إلى نشر مئات الكتب و البحوث والمقالات حولها،
وما تزال المراكز العلمية والبحثية تعتمد على هذه المقدمة في تطوير مناهج التعليم وعلم الاجتماع و التاريخ وغيرها من العلوم. يقول البروفسور Franz Rosenthal من جامعة ييل في ترجمته الإنجليزية للمقدمة : “لا يمكن إلا أن نقول إنه كان هناك رجل بفكر عظيم استطاع أن يمزج بين الفكر والعمل في حضارة كانت قوية، ورغم مخالفة ما جاء به لبعض التقاليد التي كانت قائمة إلا أنه نجح في فرض موقفه التاريخي من خلال عمل جبار يعتبر واحدا من انتصارات البشرية الهامة”.
في عالمنا الإسلامي ، رغم حاجتنا وأحقيتنا بتراث ابن خلدون ونظرياته التي نحتاجها في تعليمنا ، وصناعتنا ، وسياستنا وتاريخنا ومستقبلنا وحاضرنا لا يزال هناك تجاهل وإهمال لتراث هذا الفيلسوف المسلم العظيم الذي استطاعت الإنسانية أن تستفيد من علمه وتستخدمه في تطوير منظومتها التعليمية، واقتصادها ورسم مستقبلها وحاضرها فلماذا أهمل المسلمون تراث ابن خلدون؟
من الصّناعة إلى الطّبيعة مقال للدكتور عبدالرزاق بلعقروز عن الآثار التي تتركها تعاليم المنطق والعلوم في تفكير الإنسان، وما أورده ابن خلدون في هذا الباب لماذا يغيب عنا درس التاريخ؟ يكاد يجمع الباحثون على فضل ابن خلدون في توجيه مسار الدرس التاريخي إلى الوجهة التي استقر عليها في الدراسات الحديثة؛ وذلك من زاويتين. الأولى: ما قرره ابن خلدون من أن التاريخ “علم”؛ وليس مجرد روايات يتناقلها الناس للتفكّه في المجالس، والتندّر بالوقائع والغرائب، بحيث “تطرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال” كما قال.
الثانية: أن التاريخ “كورونا” ومفهوم نهاية الشر الحضاري عند ابن خلدون من أهم الإيحاءات والتنبيهات التي كرستها ظاهرة الوباء المستشرية في العالم ،والتي بلغت ذروتها في وقتنا الراهن بتفشي “فيروس كورنا المستجد” ،هو إعادة الاعتبار لدور ،التاريخ والعلوم الإنسانية ،والأخلاق والقيم ،والدين والمعاملة، في تهذيب حياة البشرية وحمايتها وضمان استمراريتها. وحتى الطب والعلوم الموازية له من كيمياء وبيولوجية وعلم التغذية والوقاية
وما إلى ذلك قد عاد التهيئة الحضرية وأوبئة البيئة عند ابن خلدون جدلية البداوة والتحضر قائمة ما وجد بشر وذلك لأن الحاضرة هي من صنع الإنسان بامتياز ،كما أن المدينة تمثل أرقى ما توصلت إليه الأمم وبها تمايزت وتفاخرت وتطورت. وحينما نريد أن نخطط لمدينة ما فينبغي علينا أن نأخذ في الاعتبار كل المقومات الحضارية والتراثية والثقافية للبلد الذي يحتضننا شئنا أم أبينا ،
وذلك لما للوجود الحضري من الظَّلامية المُتوارية في قلب المفاهيم التي تفسّر كَلَّ شَيْء العقلية الأُحادية ذات المفهوم الظّلامي الواحد، في مجال التَّواصل الإنساني، لا ترى في خطأ بعض من النّاس، إلاَّ إنسانا مُذنبا وإلى الأبد، ولا تُدْرُك الأبعاد المرُكّبة في الإنسان، مثل القدرة على المحبة، والقدرة على تجديد العلاقة إيجابيا، والقدرة على التوبة والنّدم، والقدرة على التّسامح.
فالصّناعة المنطقية ومناهج العلوم الموضوعة قد تكون حُجباً فكرية ونفسية تمنع انطلاق الفطرة الفكرية وجولانها في الموضوعات. ولهذا الأمر عاند ابنُ تيمية المنطق اليوناني، وقلّل من قيمته المنهجية، ليس تَشهّياً أو تحكّماً، وإنَّـما لكون الصّناعة المنطقية تحبس فطرة الفكر في حدودها وقياساتها التي لا تضيف معرفة جديدة،
وهنا يقول ابن تيمية : “كنت دائماً أعلم أنَّ المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد، ولكن كنتُ أحسب أنَّ قضاياه صادقة لما رأينا من صدق كثير منها، ثم تبيَّن لي بعد ذلك خطأ طائفة من قضاياه…مثل ما ذكروه من حصر طرق العلم فيما ذكروه من الحدود والأقيسة البرهانيات، بل ما ذكروه من الحدود التي بها تُعرف التصوّرات، بل ما ذكروه من صور القياس ومواده اليقينيات
كأن حركة الفكر عندما يستشكل عليها الأمر، يكون بدؤها الإقبال على الفكر الطبيعي والاستمطار لرحمة الله، وعندما تُبرق الأنوار في القلب إيذاناً بالصّواب، لابُدَّ من ملاءمتها مع المناهج الموجودة أو صوغ مناهج أخرى وتعبيرات اصطلاحية تُوفّي بها.
وإذْ عُرف هذا، فمن الواجب القول، أنَّ المرافق المجتلبة من إعمال الفكر الطَّبيعي في سياق البناء التربوي، يمكن إدراجها ضمن التربية الإبداعية، التي تحرر الفكر من القوالب المنهجية السَّائدة، والحائلة في الآن نفسه دون تفجير المعاني وابتكار المقولات، فضلاً عن أنها أسلوبٌ تربوي رائق، وحافزٌ لبذل الجهد الفكري؛
ولـمَّا كانت الصّناعات الفكرية أصولها في الفكر الطبيعي، فَالبِحَري الأخذ منه، لأنّه ينزل منزلة أصول الصّناعات الفكرية، ومبدؤها في الصّدق والقوة، فهو من جهة البدء مفتاحٌ لإزالة الإشكالات التي تَعْتَوِرُ الباحثين في الطَّريق، ومن جهة المُنتهى، السبَّيل الذي يحقق الاستقلال الفكري للعلماء المجتهدين.