عبدالعزيز السيد
يقول الدكتور عبدالحميد مدكور الأستاذ بكلية دار العلوم والأمين العام لمجمع اللغة العربية إن الحرب ليست الأمر الذى جاء به الإسلام بل كان العرب قبل الإسلام يتفاخرون فيما بينهم بالحروب وما يبلون فيها من بلاء حسن حيث كانوا يدفعون بأولادهم للحرب وكان يزهدون فى البنات لما يرونهن كلأً وعاراً لوقوعها فريسة للعدو فى الحرب، ولقد سجلت كتب التاريخ والأدب ما اشتهر بأيام العرب عن ملاحمهم البطولية والقتالية قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم ومنها حروب البسوس وداحس والغبراء والنسار والجفار وذقار وغيرها والمتأمل فى مثل هذه الأيام كان يرى فيها الحماسة والعصبية العمياء والهمجية وعدم الاكتراث بعواقب الأمور والشجاعة المتهورة التى لا تتسم بالعقل.. وإن حرب البسوس التى وقعت بين بكر وتغلب قد دامت أربعين عاماً وكذلك حرب داحس والغبراء التى وقعت بين عبس وبيان.
ومن هذا تبين أن الحروب فى الجاهلية وقبل الإسلام كانت تقام لاتفه الأسباب وكانوا يقضون أيامهم وأعمارهم فى أتون الحرب، بل كانت الحرب لديهم مكاسب ومعايش والنيل من أعدائهم وكانوا يرون أن الموت فى الحرب دفاعاً عن قبيلتهم وزعمائهم وأن سيادتهم عزة وكرامة وشرف وأن الموت على الفراش سبة وعار وذل وكان يستباح فى حروبهم كل شىء وكانت تعرف القيم والأخلاق.
أوضح مدكور أن الجهاد فى الاسلام هو ذروة سنامة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من الله عز وجل لتحقيق عدد من الأهداف الكبرى منها ــ دفع الظلم والأذى عن المسلمين، والدفاع عن المستضعفين المضطهدين والدفاع عن الأرض والعرض والمال إذا ما عتدى عليهم من الآخر.. إن هذا الجهاد فى الإسلام ذو طابع سلمى وخلقى، والذى يدل على الطابع السلمى فيتضح إذا ما نظرنا إلى أول المدن التى دخلت فى الاسلام وكان أول هذه المدن هى المدينة المنورة التى أضاءت بهجرة النبى صلى الله عليه وسلم إليها وقد فتحت بالدعوة ولم تفتح بالسيف فقد عقد النبى صلى الله عليه وسلم ــ معاهدات وبيعات مع هؤلاء الذين جاءوا من المدينة إلى مكة فأرسل معهم الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب بن الزبير ليعلمهم ما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم ــ إياه.
فعندما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً كان الإسلام قد سبقه إليهم فى بيوتهم وأوضح إذا نظرنا إلى الخطب التى أرسلها صلى الله عليه وسلم عند أول دخول له المدينة فسنجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: »أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام تدخلو الجنة بسلام، وهذه أول مدينة دخلها الإسلام بلا جيش عن طريق الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.. لا بالسيف ولا بالظلم ولا بالعدوان، أما البلد الثانى الذى دخل الإسلام فقد كان اليمن التى كانت فى ذلك العهد تابعة للدولة الفارسية وعندما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم ــ إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام استعظم أن يخاطبه رجل من العرب فأمر عامله على اليمن أن يذهب إليه فى المدينة وأن يذهب به إلى كسرى ليحاسبه ويحاكمه على تجرئه على دعوته إلى الإسلام.
ذهب رسول كسرى إلى المدينة المنورة وأحسن الرسول صلى الله عليه وسلم استقباله وطلب له المبيت الليلة ثم يلتقى به فى الصباح فلما جاءه هذه الرسول ــ رسول كسرى قال له صلى الله عليه وسلم إن ربى قتل ربك ــ إن الله قبض روح كسرى فقال عامل كسرى للنبى من أنبأك هذا؟ قال: الله فاذهب إلى اليمن وتأكد هذا الخبر وبالفعل حدث ذلك ــ نبى الله يؤيده الله.
فتأكد عامل كسرى من صدق الخبر فعاود معه كبار أهل اليمن طوعاً بهذه الطريقة السلمية التى لا قتال فيها ولا حرب ودخلوا الإسلام.
واشار مدكور إلى أن مكة فتحت فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وكان شعار النبى الكريم فيها اليوم يوم المرحمة اليوم تعظم الحرمة اليوم أعز الله قريشاً فقد أمر قادة الجند ألا يقاتلوا أحداً، وقال صلى الله عليه وسلم »من دخل داره فهو آمن ومن دخل دار أبوسفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن.. فلما حضر بين يديه زعماء أهل الشرك الذين لم يكونوا اسلموا بعد قال لهم: ماذا تظنون أنى فاعل بكم قالوا خيراً فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
إن هذه الوقائع وأمثالها تؤكد لنا هذا الطابع السلمى لهذا الدين الحنيف الخاتم والذى جاء به هذا الرسول العظيم إلى الخلق أجمعين وقال مدكور إن الطابع الخلقى الذى هو من سمات هذا الجهاد الإسلامى فإن الحرب فيه لم تكن قهراً إلا جبراً ولا بغياً ولا نهباً وإنما كان لإبلاغ كلمة الله إلى الناس حتى إذا اقتنعوا به دخلوا الإسلام وإذا لم يؤمنوا به فإن الإسلام لم يكرههم عليه نعم: يدلنا على ذلك قول الله عز وجل:»لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى« وهى آية محكمة غير منسوخة ويؤكد لنا تاريخ الإسلام الفتوحات الإسلامية أن لم يحدث فى التاريخ كله أنه أجبر أحداً على الدخول فيه قهراً، ويؤكد ذلك ايضا وجود غير المسلمين فى المجتمع الإسلامى من أصحاب الآديان الاخرى وهو دليل على أن التسامح كان هو الخلق الذى عامل به الإسلام، وقد شرع لهم أن يتحاكموا إلى كتبهم وأن يعملوا بشرائعهم قال عز وجل:»كيف يحكمونك وعندهم التوارة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك« وقال:»وليحكم أهل الأنجيل بما أنزل الله« ثم دعا الإسلام إلى إحسان المعاملة لهم كما نهى عن مجادلتهم إلا بالتى هى أحسن بل إنه دعا إلى برهم والأقساط إليهم وجاء ذلك صريحاً فى قوله تعالى:»لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن بتروهم وتقسطوا إليهم« وعندما جاء فريق من هؤلاء إلى المدينة وهم نصارى نجران يجادلون الرسول صلى الله عليه وسلم، سمع منهم وأحسن استقبالهم وأذن لهم أن يصلوا فى مسجده الشريف وانتهى الأمر بينهم وبينه أن قبلوا أن يدخلوا فى ذمة المسلمين وطلبوا من الرسول أن يرسل معهم واحداً من أصحابه ليحكم بينهم فاختار الرسول صلى الله عليه وسلم أمين الأمة أباعبيدة بن الجراح ــ رضى الله عنه ــ ليقوم بهذه المهمة.. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم فى حديثه عن الحرب عدم اقتحام البيوت وإيذاء أصحابها وجاء ذلك فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: عندما نزل خيبر ومعه ناس من أصحابه، وكان صاحب خيبر متمرداً منكراًَ ــ زعيم اليهود فى ذلك الوقت فأتى النبى صلى الله عليه وسلم ــ فقال له: يا محمد لكم بيوتنا وأن تضربوا نساءنا؟فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ وقال: ياعبدالرحمن اركب فرسك فناد أن الجنة لن تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة، فاجتمعوا فصلى النبى صلى الله عليه وسلم ــ وقال: إن الله تعالى لم يحل لكم أن تدخلوا المكاتبين إلا بإذن ولا تأكلوا من أموالهم ولا تأكلوا من فواكههم ولا ما طابوا به نفساً.. وهذا تعليم النبى لهم لأن الدين بنى الأخلاق وكان من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم للمجاهدين »اعذروا باسم الله، وفى سبيل الله، أغذوا ولا غدر ولا تغل ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً وكان يقول كذلك »انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا شيخاً فأنياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة ولا تغلوا واصلحوا واحسنوا إن الله يحب المحسنين.. وكان قد نهى أن يقتلوا زارعاً فى مزرعته ولا كاهناً فى معبده وألا يقتلوا إلا من قاتلهم، ولقد أبان الله فى القرآن الكريم وجوب الوفاء بالعهد عند عقد المعاهدات وقال فى سورة التوبة عن العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين قال: »إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين« وقال:»فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين«.
وعند نقض العهد أخبر القرآن بإعلامهم قال تعالى: »وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء« وهكذا سنجد أن الحرب فى أصلها دعوة سلمية إلى الايمان بالله عز وجل وأن بدءها وانتهاءها فى العلاقات المحيطة بها بسياج عظيم من الاخلاق التى تليق بهذا الدين العظيم الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
»إنما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق ــ أو لصالح الأخلاق«.