فى يوم الخميس قبل الماضى ـ 13 أكتوبر الجارى ـ قضت محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبى بحظر ارتداء الحجاب فى مقرات العمل بشكل عام، الحكومية والخاصة، وفى جميع بلدان الاتحاد، وأنهت بذلك الجدل حول ارتداء الحجاب الذى استمر لسنوات فى العديد من الدول الأوروبية، وأوضحت المحكمة أن قرارها لا يعد تمييزا ضد المحجبات، مبررة ذلك بأن لأصحاب الشركات الحق فى حظر الرموز الدينية أو الفلسفية أو الروحية، مادام التطبيق سيتم على جميع العاملين على قدم المساواة.
وفى الظاهر قد يبدو هذا التبرير مقنعا لمن لا يتابع معارك الحجاب فى أوروبا وغيرها من مناطق الاحتكاك الدينى والعرقى، لكنه فى الحقيقة يعبر عن وجه من وجوه ” الإسلاموفوبيا “، ولا يستهدف إلا الحجاب دون الرموز والعلامات الدينية الأخرى، فعمامة السيخ وطاقية اليهود منتشرة فى أماكن العمل، وكذلك الصلبان التى تزين الصدور، والوشوم البارزة على الأيادى، وكلها رموز دينية لم تستفز أحدا.
ثم إن الحجاب هو الوحيد الذى ظل محل جدل فى أوروبا لسنوات، خاصة فى فرنسا، ولم يحدث أن كانت العلامات المسيحية أو اليهودية أو البوذية أو غيرها موضوعا للنزاع على الإطلاق، والسيدات اللاتى لجأن إلى المحكمة لحمايتهن من التمييز والتعسف هن المسلمات المحجبات، ولم يحدث أن رفعت يهودية أو مسيحية دعوى من هذا النوع، ولذلك فإن الحجاب هو المستهدف من حكم المحكمة دون لف أو دوران، وقرارها قرار سياسي عنصرى بامتياز، ومن المؤكد أن ضغوطا من فرنسا وغيرها كانت وراءه.
ولا يعد هذا الحكم الصادر بشأن قضية فى بلجيكا هو الأول من نوعه ضد الحجاب، فقد أصدرت المحكمة ذاتها، وهى أعلى محكمة فى أوروبا، فتوى العام الماضى قالت فيها إن شركات الاتحاد الأوروبى بوسعها منع الموظفين من وضع غطاء للرأس فى ظل ظروف معينة، إذا كان يتعين عليها تقديم صورة حيادية للعملاء.
وفى ألمانيا أثار حظر الحجاب الجدل لسنوات، وكانت قضاياه تتعلق بسيدات مسلمات يتطلعن إلى العمل فى المدارس الحكومية، أو يلتحقن بالتدريب ليصعدن فى سلك القضاء، ولم يفرق الحظر بين المسلمات المهاجرات والألمانيات الأصل اللاتى أسلمن واخترن إرتداء الحجاب بإرادتهن، أما فرنسا التى توجد بها أكبر جالية إسلامية فى أوروبا فقد حظرت ارتداء الحجاب بالمدارس الحكومية منذ عام 2004.
و فى الهند كان للحجاب معارك مماثلة، حيث منعت إحدى ولاياتها دخول المحجبات إلى المدارس والكليات فى مطلع العام الحالى، مما أدى إلى مظاهرات احتجاجية للمسلمين فى العديد من المدن، وخروج مظاهرات مضادة من الهندوس، ووقعت اشتباكات بين الفريقين، ومازال القضاء هناك ينظر فى دعاوى المحجبات ضد حظرهن، الذى يعتبر ـ حسب رؤيتهن ـ مناقضا للدستور الهندى.
ومن مفارقات السياسة أن يأتى قرار محكمة العدل الأوروبية الأخير فى وقت يقف الغرب فيه بقوة للدفاع عن حرية خلع الحجاب فى بعض الدول الإسلامية، والترويج الإعلامى للاحتجاجات النسوية فى هذا الشأن وتضخيمها لتبدو ثورة سياسية شاملة، فى حين جرى التعتيم على قرار حظر الحجاب ليمر فى هدوء، كأن من حق المرأة أن تخلع الحجاب لكن ليس من حقها أن ترتديه، وهكذا اعتدنا من الغرب الذى يدعى أنه مصدر الحريات، بينما هو فى الواقع يكيل بمكاييل متعددة، ومعاييره مزدوجة.
لم تعد حرية المعتقد وحقوق الإنسان مقدسة عندهم كما كانوا يزعمون، فقد تراجعوا عنها بسبب الحضور الإسلامى فى ديارهم، وهذا يدل على حقيقة تاريخية ينساها الكثيرون، هى أن شعارات الحرية طرحت لخدمة الأوروبيين أنفسهم، تحل مشاكلهم المذهبية، وتيسرتسللهم إلى البلدان الأخرى بالغزو والتبشير، فى ذلك الوقت لم يكن هناك خوف على أوروبا من الإسلام، أما وقد أصبح المسلمون كتلة كبيرة فى أوروبا فإن هذه الشعارات لم تعد نافعة، لقد اتفقوا على الحريات، واليوم يتفقون على إلغائها.
منذ أيام عرض العالم المصرى الكندى، الصديق د. محمد إبراهيم المصرى، عبر صفحته على اليوتيوب كتاب ” الحريات الدينية فى خطر ” للمؤلفة الكندية ميلانى أدريان أستاذة القانون فى جامعة كارلتون، تسجل فيه نتائج دراستها الميدانية حول الحريات الدينية فى فرنسا،عندما كانت تعمل هناك فى بداية حياتها العملية مدرسة للغة الإنجليزية بإحدى مدارس المناطق القريبة من باريس، فى أعقاب قرار الحكومة الفرنسية بمنع الطالبات المسلمات من ارتداء الحجاب فى المدارس عام 2004.
تقول أدريان إنها تواصلت مع العديد من الطالبات المسلمات، المحجبات وغير المحجبات، ومع آبائهن وأمهاتهن، المحجبات أيضا وغير المحجبات، ولمست عن قرب مدى القهر والإحباط والتمييز الذى تعانى منه الأسر المسلمة فى فرنسا بسبب إصرار الحكومة الفرنسية على شيطنة المحجبات، وتحويل الحجاب إلى رمز سياسى، فهم يخافون من المستقبل، ولا يشعرون بالأمان، ولم تعد لديهم ثقة فى مبادئ الحرية التى أرستها الجمهورية الفرنسية.
وتؤكد المؤلفة أن منع الحجاب مخالفة صريحة للدستور الفرنسى، رغم أن المحاكم هى التى أعطت الضوء الأخضر للحكومة فى هذا الصدد، وتوضح أن هناك 3 مجموعات تغذى الإسلاموفوبيا وتشجع على الصدام الدائم مع الجالية المسلمة: المجموعة الأولى هم الصهاينة الذين يعادون الإسلام سياسيا بسبب قضية فلسطين، والثانية هم المسيحيون المتطرفون الذين يكرهون الإسلام على أسس دينية، ويعتبرون انتشار الإسلام جاء خصما من مسيحيتهم، والثالثة هم المسلمون المرتدون والملحدون الذين يكرهون أصولهم.
ومما يؤسف له أن هذه المجموعات الثلاث هى التى تطارد الإسلام وتحرض ضد الحجاب فى أنحاء العالم، حتى فى موطن الإسلام وبلاد المسلمين، لكن مسعاهم يبوء دائما بالخيبة، فأقصى ما يستطيعونه تعطيل الإسلام لفترة، ثم ينهض من جديد لينتصر وينتشر ويرتقى، ” وكان حقا علينا نصر المؤمنين “.