تتحدث مصادر أمريكية وإسرائيلية عن مبادرة جديدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب يجري الإعداد لها وراء الكواليس، تهدف لإدخال المعونات الغذائية والإنسانية إلى غزة وتوزيعها من خلال مؤسسات وشركات أمريكية لا تكون لإسرائيل سيطرة عليها، وتتضمن وقفا مؤقتا لإطلاق النار يستمر 72 يوما مع الإفراج عن 12 من الأسرى الإسرائيليين والأمريكيين مقابل الإفراج عن أعداد من المعتقلين الفلسطينيين في سجون إسرائيل، وخلال هذه المدة يتم الاتفاق على هدنة طويلة تمتد لسنوات، وإطلاق سراح ما تبقى من الأسرى الأحياء والأموات لدى فصائل المقاومة، وتشكيل لجنة فلسطينية من التكنوقراط لإدارة قطاع غزة بعدما يتم نزع سلاح المقاومة.
ومن المقرر أن تعلن هذه المبادرة باعتبارها إنجازا تاريخيا أثناء جولة ترامب في الشرق الأوسط التي تبدأ اليوم وتشمل السعودية وقطر والإمارات، لكنه لن يزور خلالها إسرائيل، ولن يلتقي برئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، في إشارة إلى فتور العلاقة بين الحليفين.
وتؤكد المصادر أن مبادرة ترامب ستكون أمريكية خالصة، ومستقلة تماما عن إسرائيل، ولن يكون نتنياهو شريكا فيها، وإنما ستبلغ له عند اكتمالها، وسيطلب منه إما قبولها أو المغامرة بالدخول في خلاف علني مع حليفه الأقوى قد يكلفه انهيار حكومته وفقدان منصبه، لكن المبادرة لن تتعرض لقضايا أساسية مثل إنهاء الحرب وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة وإعادة الإعمار ومستقبل الاحتلال وحل الدولتين والاستيطان وضم الضفة الغربية والاعتدءات المتكررة على القدس والمسجد الأقصى.
ويستند الذين يصدقون مبادرة ترامب (المستقلة) إلى تقارير صحفية عديدة تتحدث عن تهميش ترامب لصديقه نتنياهو وتجاهله حين أقدم على مبادرة (مستقلة) سابقة لإجراء مفاوضات مباشرة مع إيران حول برنامجها النووي، ومبادرة أخرى (مستقلة) مع الحوثيين في اليمن أسفرت عن اتفاق لوقف الضربات الأمريكية مقابل وقف استهداف القطع البحرية الأمريكية، وهو الاتفاق الذي قيل إنه “أوقف الإسناد الأمريكي لإسرائيل دون أن يوقف الإسناد اليمني لغزة”.
وتشير هذه التقارير الصحفية إلى غضب ترامب من نتنياهو لعدم قدرته على حسم الحرب في غزة وتحقيق النصر المطلق والقضاء على حماس واستعادة الأسرى بالضغط العسكري خلال المهلة التي أعطاها له منذ ثلاثة أسابيع حتى لا تعكر دماء الغزاويين صفو جولته الخليجية، وأيضا غضبه من اكتشاف اتصالات أجراها نتنياهو مع بعض النواب الجمهوريين في الكونجرس سرا كي يمارسوا نفوذهم على الرئيس ليخفف ضغوطه عليه، وهي اللعبة التي كان نتنياهو يتقنها مع الرؤساء الأمريكيين السابقين، خاصة جو بايدن وأوباما.
وقد أكد الكاتب الأمريكي اليهودي الشهير توماس فريدمان هذا الغضب الرئاسي في مقال بصحيفة (نيويورك تايمز) قال فيه إن “نتنياهو أثبت أنه ليس صديقا للولايات المتحدة، وحكومته المتطرفة ليست حليفة لنا، وتتصرف بطريقة تهدد المصالح الأساسية لواشنطن في الشرق الأوسط، وقد أحسن ترامب صنعا حين لم يسمح لنتنياهو بتجاوزه كما فعل مع رؤساء أمريكيين سابقين”.
كما أكد هذا الغضب تقرير نشرته صحيفة (إسرائيل هايوم) ذكرت فيه أن “ترامب صار يتعمد تهميش نتنياهو، وقطع الاتصالات معه في هذه المرحلة الدقيقة التي تجري فيها مناقشات محمومة خلف الكواليس مع حماس في الطريق إلى صفقة تكون فيها إسرائيل لاعبا ثانويا خارج الحدث، بينما يكون لأمريكا الدور الرئيس بالتعاون مع أطراف عربية”.
ومع الإقرار الكامل بصعوبة التنبؤ بسلوك ترامب ومفاجآته وتحولاته، فإن فكرة انقلابه على إسرائيل لصالح الحقوق الفلسطينية تبدو غير واقعية وغير قابلة للتصديق، ففي إمكانه أن ينقلب على أوكرانيا وكندا وبنما والمكسيك، وحتى على حلفائه الأوروبيين، لكن لايمكنه الانقلاب على إسرائيل لأسباب معروفة.
وأغلب الظن أن الرجل وفريقه الأشد تطرفا في صهيونيته من نتنياهو وبن غفير وسيموتريتش يحيك بمبادرته (المستقلة) مناورة تحفظ له ماء وجهه حين يأتي إلى الخليج، وتحيطه بزفة سياسية دعائية، وذلك بافتعال خلاف مع نتنياهو يتودد به إلى العرب، والعرب مجاملون كرماء بطبعهم، مما يتيح له أن يطلب منهم ما يشاء، ولا مانع لديه في سبيل ذلك من أن يرتدي زيهم ويشرب قهوتهم ويرقص معهم (العرضة)، حتى يحصل على ما يطلب من أموال واستثمارات وتسهيلات وتطبيع، ثم بعد أن يرجع إلى واشنطن يعود كل شيء إلى ما كان عليه.
ترامب سمسار كبير، لا يثبت على موقف، وليست له مصداقية، وسبق أن فتح قناة للتفاوض المباشر مع حماس، وبعد تصريحات مريحة للأعصاب قدم فريقه مبادرة اتضح أنها هي المبادرة نفسها التي يطرحها نتنياهو ليحقق بها ماعجز جيش الاحتلال عن تحقيقه على الأرض، فانتهت المفاوضات إلى لا شيء وأغلقت القناة، وعاد ترامب أكثر شراسة وسخافة، حتى فوجئنا، وفوجئ العالم أجمع، باقتراحه الهزلي لتهجير أهل غزة وفرض السيطرة الأمريكية عليها وتحويلها إلى (ريفييرا) الشرق الأوسط، ورأينا سفيره في تل أبيب يقوم مع زوجته بزيارة لمزرعة البقرات الحمر، ويقرأ أمام حائط المبكى التراتيل والدعوات التي كتبها الرئيس.
ترامب لا يختلف عن نتنياهو، وكل ما يشغله أن تنجح جولته الخليجية في جلب المزيد من المال، وتحريك المواقف العربية المتأرجحة نحو التطبيع، ولذلك كانت مسرحية الخلاف مع نتنياهو، وهي مسرحية مكشوفة ومجربة، والخداع فيها واضح لكل ذي عينين، وقد شبعنا من خداعه وتضليله، لذلك فإن الحديث معه يجب أن يركز على الحق الفلسطيني في الأرض والدولة المستقلة، والرهان أمامه يجب أن يكون على المقاومة، وعلى وحدة الأمة خلف أبطالها.
