كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية،،!
في وطنٍ باتت الفوضى فيه صوتًا يعلو على صوت العقل، لم تعد الضوضاء مجرد مشكلة بيئية أو سمعية، بل تحوّلت إلى عنوان عام لحالة اختلال شاملة في الوعي والسلوك والمشهد العام. من مكبرات الصوت التي تغزو الأحياء دون إذن، إلى حملات انتخابية أقرب إلى الموالد الشعبية، تتجلى صورة مجتمع غارق في صخب بلا وجهة، وبلا مشروع جامع.
الضوضاء.. مظهر أم مرض…؟
في حقيقة الأمر، لا تنفصل الضوضاء التي تلوث شوارعنا عن الضجيج السياسي والاجتماعي الذي يعكر صفو حياتنا العامة. كلاهما نتاج غياب الضبط، وتآكل سلطة القانون، وتراجع قيمة “الصوت العاقل” في مقابل هيمنة “الصوت العالي”. ما نراه ونسمعه اليوم هو نتاج سنوات من الفوضى الناعمة التي تغلغلت في تفاصيل حياتنا، حتى بات الصمت ضرورة، لا خيارًا.
الانتخابات.. فرصة لإعادة ترميم الوعي
وسط هذه الفوضى، يطل الاستحقاق الانتخابي، لا كحدث ديمقراطي فقط، بل كمحطة فاصلة يمكن من خلالها إعادة ترميم الوعي العام، وبناء عقد اجتماعي جديد. غير أن الخطر الحقيقي يكمن في تفريغ هذا الاستحقاق من مضمونه، وتحويله إلى مشهد موسمي للوجاهة، لا إلى معركة وطنية لصناعة التغيير ومحاسبة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية.
إن توحيد الصف الوطني لا يعني فرض رأي واحد، بل يعني الاتفاق على مبدأ الدولة، وعلى أولوية المصلحة العامة، بعيدًا عن الولاءات الهشة والانقسامات المصنوعة.
في ظل الزلازل الإقليمية: نحتاج برلمانًا لا ديكورًا
تمر منطقتنا اليوم بمرحلة شديدة الخطورة، حيث تتقاطع فيها المصالح الدولية، وتتفاقم الصراعات الجيوسياسية، وتُعاد فيها صياغة الخرائط والولاءات. وسط هذا المشهد المعقّد، لا يليق بمصر ــ الدولة المحورية ــ أن تدخل هذه المرحلة الحاسمة ببرلمان صوري أو نخب ضعيفة. نحتاج إلى برلمان وطني قوي، يقوم بدوره في التشريع والرقابة، ويحمي المواطن من التغوّل، ويرفع صوته دفاعًا عن الحق والمصلحة العليا.
إن العضوية النيابية ليست بابًا للوجاهة أو منصة لحضور المناسبات، بل مسؤولية تاريخية أمام شعب يئن من الأزمات، وأمة على حافة التحول الجذري. علينا أن نستفيق قبل أن يصل قطار الغفلة إلى محطة الارتطام.
الضبط المجتمعي يبدأ من الضبط الأخلاقي
لا يكفي أن نُطالب بضبط الضوضاء في الشارع، دون أن نضبط الفوضى في السلوك العام، والانفلات في الخطاب، والتراخي في تنفيذ القانون. المجتمع السليم لا يبنى على القوانين فقط، بل على ضمير جمعي حيّ، يؤمن بأن النظام ليس قيدًا، بل شرطٌ للحضارة.
نداء الوعي في زمن الاضطراب
إن اللحظة الراهنة تفرض علينا أن نرتقي فوق الضجيج، ونصنع من هذا الاستحقاق فرصة لإعادة الاعتبار للسياسة كممارسة نبيلة، وللبرلمان كأداة لحماية الناس لا لتزيين المشهد. فلنوحّد صفوفنا خلف مشروع وطني عقلاني، يواجه التحديات بالإرادة، لا بالتنازلات، ويؤمن بأن الشعوب لا تنهض بالشعارات، بل بوعي ناضج، ومؤسسات حقيقية، وقيادات مسؤولة.
نحتاج أن نصحو، لا فقط من ضوضاء الشارع، بل من غفلتنا الكبرى، وأن نستعيد صوتنا قبل أن تبتلعنا الفوضى، أو يمضي القطار دون عودة.,,!!
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية،،!!saadadhm976@gmail.com