اعتاد صديقي الذي يشغل وظيفة مرموق أن يوجه الدعوة لأصدقائه وتلامذته للقاء به في مكتبه كل فترة زمنية ، وجميعهم يعلم أنه يستقبلهم بعد إنتهاء فترة عمله . وفي الموعد المعتاد انتظر الصديق ضيوفه بلهفة ، ولم يأت أحد . انتظر طوال فترة اللقاء المعتادة والتي تبلغ حوالي 3 ساعات ولكن لم يحضر أحد.
شعر الصديق بالضيق ، واستعاد ذاكرة الزمن “اللي فات” حيث كان الكبار والصغار يتسابقون لحضور لقاءاته حتى أن بعضهم كان يأتي قبل الموعد المحدد للاستفاد من علمه وخبراته التي كان لا يبخل بها على أحد ، لأنه كان يؤمن بأهمية توريث الأفكارخاصة للشباب كي يحصنهم ضد غوايات الشيطان وأعوانه من البشر . ويحرص بعضهم وخاصة الشباب على اختلاس دقائق معه على انفراد بعد اللقاء العام ، كي تباهى أمام الأخرين بانه تربطه علاقة خاصة مع الأستاذ. والحق يقال فصديقي يتمتع بصفات نادرة في زماننا وفي مقدمتها التواضع رغم علو مكانته الوظيفية والفكرية ، ويتمتع بنظافة اليد واستقامة الفكر ، ويرفض التزلف والنفاق، مما جعله موضع احترام وتقدير جميع من حوله حتى مخالفيه في الرأي. والكثير من معارفه يتعمد ذكر اسمه عندما يتواجد في أي مكان كي يحظى باحترام المتواجدين فيه .
يروى صديقي انه بعد دقائق من تذكر الماضي ( اللي فات ) عاد ليعيش الزمن الحاضر . وانطلاقا من طبيعته المتسامحة التمس العذر للشباب ، فمشاغل الحياة وصعوباتها تشغل كل أوقاتهم ، خاصة من يريد منهم الزواج وتكوين أسرة، لأن العادات المستحدثة ( المبتدعة) في المجتمع ومقدمتها البحث عن المظهر وتجاهل الجوهر ، التشبث بتقليد الأخرين جعلت الزواج مكلفا جدا. وتتوزع تكاليف الزواج المرتفع بين المبالغة في الجهاز ، وجميعنا يسمع ويرى بدعة ” زفة العفش ” بعشرات العربات ليستعرض أهل العروسة جهاز ابنتهم الذي لا يقل عن جهاز “بنات الأكابر” . وبينها الاصرار على الزفاف في قاعة ، وللأسف انتقلت تلك العدوى من المدن إلى القرى ، ولا بد أن تكون قاعة فخمة ( تليق بالمقام ) زي أبناء الجيران أو أبناء الأقارب ، وان تكون مجهز بآلة الضجيج العالي ( الدي جي ) . ويسبق دخول قاعة الزفاف زيارة الكوافير ، ويتم حجزها مسبقا، وتقضي فيها العروس حوالي 6 ساعات على الأقل من أجل الزينة التي تتكلف بضع الاف وتستمر فقط بضع ساعات ، وأيضا جلسة التصوير بالصوت والصورة والتي اصبح لها حدائق خاص تسمى ( سيشن ).
والصعوبات أكثر لمن تزوج ويعول أبناء ، فنظرا لتكاليف المعيشة الباهظة بسبب الأزمة الاقتصادية، وضعف الرواتب يضطر عائل الأسرة للعمل ليلا ونهارا كي يوفر فقط الضروريات لأسرته ، ثم يرجع مرهقا يبحث عن السرير كي يرتاح عدة ساعات ليبدأ رحلة الشقاء اليومي من جديد، وليس لديه دقائق قليل يقضيها مع زوجته وأولاده. وتضطره ظروف المعيشة لعدم الجلوس مع زوجته واولاده للاستماع اليهم وتوجيههم. ويغفل الغالبية عن تخصيص وقت لاسرته رغم أهميته لان التربية الصحيحة ليست توفير الملبس والمأكل مصاريف المدارس فقط ، فالجوانب المعنوية لا تقل أهمية.
والتمس الصديق أيضا العذر للكبار ، فنظرا لتجاو أعمارهم سن الستين فهم معرضون للإصابة بوعكة صحية في أي وقت، كما يحدث له أحيانا بعض الوعكات . والبعض منهم يضطر للعمل حتى بعد سن المعاش كي يوفر العلاج لنفسه والغذاء والكساء لمن يعولهم. فمصر الدولة الوحيد في العالم التي يخسر فيها المواطن حوالي 70 % من دخله عند تقاعده . رغم أن تكاليف الحياة تزيد بعد تقاعده في مقدمتها العلاج الشهري الذي يلتهم حوالي ثلث معاشه القليل ، ويكون الابناء والبنات في سن الزواج ، والكل يعلم تكاليف الزواج . ويزيد الطين بلة أبنائه الذين تخرجوا من الجامعات ولا يجدون عملا أي عمل .
وبعد فترة من التفكير الهادئ قرر أن يتصل بصديقين يعلم مدى حرصهما على لقائه كي يطمئن عليهما . فتحدث مع الأول واعتذر بأن زوجته مريضة وانه أصبح الممرض الوحيد لها بسبب انشغال الأبناء خارج المنزل ، ووعد بحضور اللقاء القادم مهما كانت الظروف . وعندما حان موعد اللقاء لم يحضر ، ولم يفكر الصديق الاتصال به فهو يعرف مقدما سبب عدم حضوره وهو مرض زوجته المزمن لانها مريضة قلب.
واتصل صديقي بصديقه الثاني وهو يحمل له مودة خاص لأنه تعرف عليه في فترة عملهما بالسعودية ( حيث دخل العمل الواحد يكفي لمعيشة اسرية جيد ) ،وكان يوجد وقت معقول بعد انتهاء العمل لحضور الندوات والمحاضرات والدورس وأداء معظم اوقات الصلاة بالمساجد. والتنزه أسريا في الحدائق الكبيرة التي تنتشر بالسعودية رغم أنها بلد صحراوية . وتوثقت روابطهما القلبية ، ووثقها اكثر تقاربها في الفكر والفهم .
فاعتذر الصديق الثاني بالوعكة الصحية ، وتحادثا معا عن تعرضهما لوعكات صحية متكررة لأرتباطها بالتقدم في السن . وكان من الطبيعي ان يتطرق حديثهما عن قرب الرحيل من هذه الدنيا ، وأخذ كل منهما يوصى الأخر باكيا بالاستعداد لما بعد الرحيل ليوم الحساب ( الزمن اللي آت ) حيث يقول الله سبحانه ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ) سورة الحاقة. ووسط الدموع الساخنة تعاهدا على أن من يكرمه الله ويدخله الجنة أن يشفع لصديقه عند الله كي يزحزحه من النار ويلتقي مع صديقه في الجنة . فالصديق يشفع لصديقة يوم القيامة كما فسر المفسرون قول الله تعالي ( فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِین * وَلَا صَدِیقٍ حَمِیمࣲ ) سورة الشعراء .فقد جاء في تفسير الطبري نقلا عن أبو قتادة : ”أن الصديق إذا كان صالحا نفع، وأن الحميم إذا كان صالحا شفع”
وجاء في تفسير القرطبي نقلاعن الزمخشري ” كان علي رضي الله عنه يقول : عليكم بالإخوان فإنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة ; ألا تسمع إلى قول أهل النار : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم “. :.
Aboalaa_n@yahoo.com