مع تزايد المجموعات المسلحة من غير الدول وكثرة النزاعات المسلحة غير الدولية المعاصرة، يمارس عدد كبير من المجموعات المسلحة سيطرةً فعلية على الأراضي والأشخاص الذين يعيشون فيها. وقد تتخذ هذه السيطرة صورًا مختلفة. ففي بعض السياقات، تمارس المجموعات المسلحة سيطرتها العسكرية على الأراضي بينما تبقى أجهزة الدولة حاضرةً وتقدم خدمات معينة – مثل الرعاية الصحية أو التعليم وغيرها.
وفي سياقات أخرى، تمارس المجموعات المسلحة من غير الدول سيطرة فعلية على الأراضي بينما تختفي القوات أو الأجهزة الحكومية. في هذه الحالات، لا سيما إذا كانت السيطرة الإقليمية ممتدة، فقد تُطور بعض المجموعات المسلحة من غير الدول قدرات شبيهة بقدرات الدولة وتقدم خدمات للسكان.
بالنسبة للسكان المدنيين، فإن العيش في ظل السيطرة الفعلية لمجموعة مسلحة من غير الدول يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الاحتياجات وجوانب الضعف الموجودة مسبقًا، أو خلق احتياجات جديدة، أو – في حالات أخرى – خلق درجة من الاستقرار في البيئات التي تمزقها النزاعات.
وبغض النظر عما إذا كان المدنيون يعيشون تحت سيطرة دولة أو طرف من غير الدول مشارك في نزاع، فإن شواغلهم الأساسية تظل كما هي، فهم يحتاجون إلى الأمن والعمل وسبل كسب العيش، واحترام حقوقهم الأساسية، وتعليم أطفالهم.
وخلافًا للنزاع المسلح الدولي، لا يوجد قانون احتلال ينظم النزاعات المسلحة غير الدولية، ما يعني عدم وجود قواعد للقانون الدولي الإنساني مصممة صراحة لتنظيم العلاقة بين المجموعات المسلحة من غير الدول والأشخاص الذين يعيشون تحت سيطرتها. ويمكن أن يخلِّف هذا الوضع انطباعًا بأن القانون الدولي إنما يَدَعُ يدَ المجموعات المسلحة من غير الدول دون قيود في هذه الحالات.
غير أن القانون الدولي الإنساني يقدِّم، في الواقع، قواعد إنسانية أساسية تحمي المدنيين في النزاعات المسلحة. أما خارج هذه القواعد، فهناك جدل حول تطبيق قانون حقوق الإنسان على المجموعات المسلحة من غير الدول. متى يُسقط القانون الدولي الإنساني الحماية عن المدنيين؟ وهل هناك شروط خاصة تعين صفة المدني في النزاعات المسلحة؟ وهل تسقط حماية القانون عن المدنيين المنخرطين في أعمال المقاومة المنظمة أو الهبات الجماعية؟ وكيف نقيّم ما يدعوه القانون بالأضرار الجانبية؟ هذا المقال الذي يعرض بالتفصيل لهذه الإشكاليات يخلص كاتبه إلى أن التطور في أساليب ووسائل القتال لم يغير من مبادئ الحرب، بما يدعونا إلى الدفاع عن المبادئ الإنسانية التي تشكل جوهر القانون الدولي الإنساني.
حدد القانون الدولي الإنساني وضعين فيما يتعلق بالتوصيف القانوني للأشخاص أثناء النزاعات المسلحة الدولية وهما:
أ) المقاتل: وهو لا يتمتع بالحماية إلا إذا أصبح “خارج القتال” أي توقف عن المشاركة في العمليات الحربية. المقاتل من حيث المبدأ هو عنصر القوات المسلحة باستثناء رجال الخدمات الطبية والدينية.
ب) غير المقاتل: (أو مدني) وهو شخص يتمتع أساسًا بالحماية بصفته هذه.
إلا أنه بالمقابل أجاز القانون للمدني في حالات محددة حصرًا التخلي عن صفته المدنية واكتساب صفة المقاتل بما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات. وأهمها بالطبع سقوط الحماية عنه. وهاتان الحالتان هما:
– أفراد المليشيات الأخرى والوحدات المتطوعة الأخرى، بمن فيهم أعضاء حركات المقاومة المنظمة، الذين ينتمون إلى أحد أطراف النزاع على أن تتوفر فيهم شروط محددة. (اتفاقية جنيف الثالثة المادة 4/أ، (2)).
– سكان الأراضي غير المحتلة في حالة الهبة الجماعية (اتفاقية جنيف الأولى المادة 13 (6)).
وغني عن التذكير هنا بأن وجود شخص محمي داخل أو في جوار هدف عسكري مشروع لا يغير من طبيعة الهدف نفسه، وعلى هذا الشخص تحمل مسؤولية خطر تواجده داخل أو في جوار هدف مشروع. غير أن القانون الدولي الإنساني يضع شروطًا ويفرض تدابير محددة يتعين على أي طرف في النزاع أن يتقيد بها عند شن هجوم على مثل هذا الهدف. وقد عرّف القانون الدولي الإنساني الأضرار الناتجة عن هذا الهجوم في صفوف الأشخاص والأعيان المحمية “بالأضرار الجانبية” أي أنها من الناحية القانونية لا تشكل انتهاكًا للقانون. ولكن، إذا كانت النصوص الواردة أعلاه تبدو واضحة، إلا أن المشكلة في الإجابة على السؤال المطروح في مقدمة بحثنا هذا إنما تكمن في البروتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقيات جنيف، المادة 51 الفقرة 3 (ب ج 1، 51/3) والتي تنص على ما يلي: “يتمتع الأشخاص المدنيون بالحماية التي يوفرها هذا القسم ما لم يقوموا بدور مباشر في الأعمال العدائية وعلى مدى الوقت الذي يقومون خلاله بهذا الدور“.
كيف يمكننا إذًا تفسير هذه المادة (فيما يتعلق بسقوط الحماية عن المدني) في ظل المواقف المختلفة والمتناقضة أحيانًا تجاهها، وأخطرها مثلًا اعتبار أن المدني الذي شارك مباشرة في عمل عدائي يمكن استهدافه لاحقًا في أي مكان وطيلة مدة النزاع المسلح، في الوقت الذي تبقى المعايير الخاصة بتعريف الأعمال العدائية والدور المباشر فيها خاضعة- للأسف- لاعتبارات غير موضوعية؟
بداية، أود توضيح أن محاولة تفسيري للمادة المذكورة أعلاه سوف تعتمد على صياغات وتعريفات واردة في اتفاقيات جنيف وبروتوكولها الإضافي الأول (بصفتها تشكل القاعدة الصلبة للقانون الدولي الإنساني) ووضعها في إطار عملياتي وقانوني حتى تكون قابلة للتطبيق من قبل كافة الأطراف المشاركة في النزاع المسلح. بحيث تأتي الإجابة على السؤال المطروح منطقية، عملية، وقبل كل شيء ترد على البعد الإنساني للقانون الدولي الإنساني. يوضح ارتفاع عدد القتلى المدنيين في نزاعات اليوم مدى ضآلة ما يقدمه النظام القانوني الدولي للمدنيين المعرضين للخطر. مع ذلك، فإن كلاً من القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان يؤسسان سلسلة من الحقوق التي تهدف – من الناحية النظرية على الأقل – إلى حماية المدنيين. لكن ما هو القانون أو القوانين التي تنفذ في حالة معينة وما هي العوائق التي تحول دون تنفيذها؟ وكيف يمكن للقانون أن يساعد المدنيين المصابين بأساليب الحرب الجديدة، مثل ضربات الطائرات بدون طيار، أو المستهدفين من قبل أشكال جديدة من التنظيم العسكري مثل الجماعات المسلحة العابرة للحدود؟ وكيف يمكن تجاوز العقبات العملية التي تمنع المدنيين حاليًا من المطالبة بحقوقهم؟
في حين أن رصد الانتهاكات وتوثيقها هي خطوة بالغة الأهمية، لكنها ليست كافية في حد ذاتها لتوفير حماية حقيقية لحقوق المدنيين.
حماية حقوق المدنيين في “الجراي زون”
أشار مؤتمر الدول الذي عقدته مؤخراً اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى وجود فراغ مؤسسي في مجال تطبيق القانون الدولي الإنساني. فهل يمكن سد تلك الفجوة من خلال الاستخدام المتزايد – والمثير للجدل في بعض الأحيان – لمحاكم حقوق الإنسان لمعالجة انتهاكات قوانين النزاع المسلح، أو من خلال اقترح أدوات أو آليات جديدة لحماية المدنيين قانونيًا؟
“الجراي زون: حماية المدنيين بين حقوق الإنسان وقوانين الحرب“ هي دراسة قانونية أساسية تم تحريرها من قبل سيسفاير، حيث جمعت مساهمات 20 جهة بارزة من حقوقيين وقانونيين دوليين حول المسائل القانونية الرئيسية لحقوق المدنيين في “الجراي زون” بين حقوق الإنسان وقوانين الحرب. وتتضمن هذه الدراسة التزامات الدولة بالتحقيق في الخسائر في صفوف المدنيين وتحديد غير المقاتلين وتقديم الضمانات القانونية بشأن القتل والاحتجاز وكذلك تقييم الحلول الحالية وتحليل المقترحات الخاصة بالأليات الجديدة لحماية المدنيين قانونيًا. قدّمت مواضيع للجراي زون في منشورة استضيفت على مدونة “العدالة في الصراع” بعنوان: هل القانون الدولي صالح لحماية المدنيين؟
إن الفجوة الأكبر تكمن في التنفيذ الفعلي لاتفاقيات جنيف وغيرها من معاهدات القانون الدولي الإنساني. في سيسفاير نعمل على دعم حقوق المدنيين بموجب القانون الدولي الإنساني وتوسيع الفهم العملي للحماية القانونية. ويشمل ذلك القيود القانونية على عمليات الحصار العسكري والتي تعتبر أحد أكثر أشكال الحرب تدميرًا التي تمارس اليوم.
تتمثل الخطوة الأولى لتفعيل الحماية القانونية للمدنيين في اجراء التحقيق المناسب للانتهاكات. هنا يكتب مدير مركز سيسفاير لمدونة المجلة الأوروبية للقانون الدولي حول وجب التحقيق في الوفيات المدنية في النزاعات المسلحة.