ربما ألف الخاطر الأمر؛ بات يقتحم مهجع قلبه أنَّا شاء، فعلها
مرة أخرى، وعلى نحوٍ أقوى، تلازم حضوره -كالعادة- صور،
يراها في عينيه المغمضتين، كأن باطن جفونه تحول إلى شاشة عرض سينمائي..
يرى -هذه المرة- عقل ما يغوص في ضباب رقيق، رابط هلامي يخرج منه ويمتد ليلتحم بكتلة ضباب قاتمة، ورابط آخر أشد قتامة وغلظة يغادرها ويمتد بعيدًا، والخاطر يخبره بوجوب
قطع الرابط، كررها عدة مرات.
يتعقب الرابط الآخر، الصورة تتسارع، يشعر بقوة هائلة تجذبه إلى… إلى… شهق بقوة وفتح عينه، طفق يلهث، رحل الخاطر وتركه لعقله المجهد.
تذكر أول مرة جاءه، حين أخبره بأمر كتلة الضباب، والتي تلازمه في كل أحواله منذ انعقدت فوق رأسه، في سكناته وحله وترحاله، مما جعله يواصل النظر إلى أعلى في حيرة؛ يترقب رؤيتها، لكنها -كما أخبره- لا تُُرى..
كانت تبدو صورتها في عينيه كغمامة فاحمة، تصيبه بوابل من قطرات داجنة؛ يُأَزِّل صدره، ويشوش رؤيته، يجهد عقله ويضعف ذاكرته، أو تُلقي بالعتمة عليه، حتى صار لا يُرى ظله.
جالت فكرة بعقله: “ربما صار هو نفسه ظل، يحيى في عالم الظلال حيث توارى جسده المنهك”، لكنها مجرد فكرة وليست خاطرًا..
يتسائل بينه وبين نفسه عن ماهية الرابط وكنهة الغيمة وكينونة ذلك الشيء الذي أصابه بالهلع..
انقبض صدره عندما تذكر صورته، دائرة غبرة هائلة الحجم، ودوامة حالكة السواد تَموُج بداخلها..
علا صوته:
- لكن أي رابط منهما يجب أن أقطعه، كيف؟
كان يسير شارد الذهن في طريق خالية، يشعر بالضعف، يجر قدميه جرا، يتطلع إلى أعلى كعادته؛ لربما يراها، أو يرى الرابط، لربما يعلم كيف يقطعه.. و.. و..
أخيرًا، يرى رابط يخرج من رأسه يلتحم بغمامة، ورابط أغلظ
منه يغادر الغمامة ويمتد إلى العدم..
يرمي بصره بعيدًا محاولًا رؤية الدائرة، أصابته الدهشة؛ هناك روابط عديدة تنتشر هنا وهناك، وتمتد هي الأخرى إلى العدم..
فجأة، اقتحم أحدهم المشهد، يحمل في يده سيفًا عظيمًا، كانت المرة الأولى التي يراه فيها، لكنه عرفه، إنه خاطره..
طوح الخاطر السيف وقطع الرابط الذي يربط بين رأسه
والغيمة، وزال الأمر كأنه لم يكن..
انقشعت الغيمة، انشرح صدره وصفى عقله، وتعافى جسده.
اضجع في فراشه، أغمض عينيه فلم يرى شيء، ولم يأتيه
الخاطر، مما جعله يشعر بالسرور، ثم تذكر أمرًأ ما..
في تلك الصورة، حيث العقل يغوص في الضباب، لقد كان
الضباب نفسه يخرج من العقل، ثم يكون الرابط، ويصعد
ليكون الغمامة التي تلتحم بأحد الروابط الغليظة الممتدة إلى دائرة العدم السوداء..
زوى ما بين عينيه لحظات، ثم ما لبث أن تهللت أساريره وطرد الأمر من رأسه، محدثًا نفسه بأن الأمر قد انتهى وعَادَتِ الأَوضاع إِلَى طبيعتها.