لقد تعبت من أجلك أيها القاريء الكريم في تحرير هٰذه الدراسة، فلتمنحها بعضاً من عَناء قراءتِكَ رغم إسهابِها الطويل.
لم أكد أفرغ من مراجعاتي لكُتب العقاد، وخاصّةً منها التي تُعين علىٰ ترجمة سيرته الشخصية بقلمه هو، لا بأقلام غيره ممن عاصروه أو تتلمذوا عليه، أو حتىٰ أولئك الذين اشتبكوا معه في المعارك الثقافية والسياسية الشرسة ـ التي اتسمَت بطابع السّموّ في المناجزة والتّرفّع في الاقتتال ـ وكان يخرج منها في كل مرةٍ منتصراً علىٰ خصومه ومناوئيه بالضربة القاضية، لم أكد أفرغ منها، حتى التمعَت ذاكرتي بحوادث موقعته الوحيدة التي لم يحسمها بانتصاره المعهود أو عزيمته المُضواء، وإنما خرجَ منها مُثخناً بالجروح والآلام، تنوشه الرماحُ وتعتمل في قلبه السهام والنبال!، ليستخلصَ لنا منها فلسفته في الحب ويودعها لطِلْبةِ العاشقين والمتأدبين في قواريرَ يستعصي زجاجُها علىٰ نوائبِ الزمن وحادثات الليالي والأيام.
هٰذهِ الموقعة الوحيدة التي هزّت العقاد ـ تلك التي تركَت أثرَها في قلبي غائراً كجُرحٍ قديم ـ جرت وقائعها علىٰ بلاط الحب مع المرأة التي أحبها وأحبته، واختلط فيها الهوىٰ بالهجر، والمواعداتُ بالمباعدات، والحُنوُّ بالقسوة، والتلذّذُ بالألم، واليقينُ بالشكُّ الذي لا قرار له.
هٰذا العملاق الذي اهتزّت له المنابر في الساحاتِ ذات يومٍ وارتجّت لفكرِهِ المحافلُ والمنتديات، هُوَ هُوَ نفسُهُ الذي اهتزّ في الميدان لسلطان الحب، واهتزّت معه فيه حبيبته ومبتغاه، ووقعا أسيفَين في معترك هواهُ ونجواه، ليخسرا بذلك النعيمَ الذي عاشا فيه، ونفوز نحن بأروع ما كُتب في مجال الحب وأبرع ما سُجّل من عجائب الهوىٰ وملَكاتِ العاطفة والشعور.
وحسبك من هٰذاٰ كله أن تقرأ قصة حبيبته "سارة"، التي يغلب فيها الطابع الفكريّ على الطابع القصصيّ، وقد جاشت صفحاتها بالاعترافات الصادمة والمواقف المثيرة، "سارة" أو "إليس داغر" كما هي معروفة باسمها الحقيقي في المحيط الثقافي، قاهرية من أصولٍ لبنانية، معروفة باهتمامها الأدبيّ والفنيّ، ملكَت عليه قلبَه وفكرَه وأقضَّت عليه مضاجعَهُ، فخلدها في يتيمته الشهيرة "سارة" التي أحدثَت دويّاً هائلاً إبّان صدورها في طبعتها الأولىٰ عام ١٩٤٢م،
في هٰذهِ الرواية يصف لنا العقادُ جوهرَ المرأة الذي يعرفه الجميع ولا يصرّحون به، فيقول:
( منذ الأزل وقفَت هٰذهِ الفتنة إلىٰ جانب، ووقف إلى الجانب المقابل لها حكماءُ الأرض وهُداتها ومشترعوها وأصحاب الدساتير فيها، وقالت هٰذهِ الفتنة كلمتَها، وقال الحكماءُ والهُداةُ كلمتَهم، . . . وأمامك الناس جميعاً فاسألهم واحداً واحداً : كم مرة سمعتم هٰذهِ وكم مرة سمعتم هٰؤلاء؟ وأنا الضمينُ لك أن في تاريخ كل إنسان مرةً واحدةً على الأقل، سمع فيها لهٰذه الفتنة ولم يسمع معها لحكمة الحكماء ولا لشيءٍ من الأشياء)
غير أن الذي يأخذ بمجامع أنفسنا ونحن نقرأ الرواية، هٰذهِ العاطفةُ الجائرة التي لا سبيل للرجال إلىٰ مقاومتها حين يتيقّظون علىٰ صوت الحبّ ويتنبهون إلىٰ نداء الطبيعة فنلقاهم لا حول لهم ولا طَول أمام تقلّبات الهوىٰ وتبدّل الأحوال فيه والغايات.
يقول العقاد مُصوّراً انقضاض المفاجأة عليه حين صادفته حبيبته في الطريق بغتةً بعد القطيعة التي ضربها بها على امتداد خمسة شهور كاملة:
(فلما عبر الشارعَ المهجور تلك الليلة مُطرقاً كعادته، سمع من جانبه صوتاً يناديه، صوتاً يعرفه بين ألف صوت، بل بين جميع ما خلق اللـه من الأصوات والأصداء، صوتها هي بعينها يهتف به:
ـ أهوَ أنت ؟
أهوَ أنت ؟ سمع هاتين الكلمتين فأحسّ لهما صدىً كانفغار الهاوية تحت السفينة في البحر اللجيّ من أثر عاصفةٍ أو زلزال، وقبل أن يجيب عن ذلك السؤال الذي لا يحتاج إلىٰ جواب، وفي أقل من رجع الصدىٰ،. . . . هجم علىٰ نفسه طوفانٌ من الدوافع والهواجس التي لا يوجد لها اسمٌ في اللغات الإنسانية، لأن اللغات الإنسانية لا تستطيع أن تضع اسماً لألوفٍ من النقائض والمفاجآت)
لم يقوَ العقاد على الرد عليها، فقد أُخِذ علىٰ حين غِرة كما قال، فوقف هنيهةً لا يدري ما بقول، ووقفَت هي أيضاً لا تدري ما تقول، وكأنما ندمَت على الكلمة التي لم تسمع لها الجواب السريع، فأشارت إلىٰ عربة خيول كانت واقفة، فإذا بهما يسيران معاً إليها، فتجلس فيها، ويجلس هو إلىٰ جانبها، وتنطلق بهما المركبة إلىٰ غير جهة، لأنه ردّ على الحوذي بقوله : سر بنا إلىٰ حيث تشاء!
يقول العقاد :
(. . . . فجلسَت صامتةً، وجلسَ كذلك صامتاً، وطال الصمتُ لا لأنه كان يريده، ولكن لأنه كان يفتش عن كل كلامٍ في الدنيا فإذا هو يهرب أو يستعصي ولا ينقاد !)
ثم لا يلبث هٰذا الصمت أن يسفرَ عن ابتدائها هي بالكلام، غير أنها تفشل في أن يجاريها صاحبنا بالمناجاة المعهودة، فتبادره قائلةً:
( ـ ما بالك لا تنطق ؟ أمعقود اللسان أنت ؟ وأنت لك لسانٌ كالثعبان)
وباستثناء كلماتٍ مقتضبة يجيب بها العقاد في شروده، نرىٰ “سارة” وهي تميل إليه لتبدّد عنه هٰذا الشرود وتهمس له بأنفاسها قائلةً:
( ـ ألا ألقاك غداً في المنزل في الموعد القديم؟ ، غداً في الساعة الخامسة ؟ ، أسمعت ؟)
ولكنه لا يجيب، فتستوقف هي العربة وتهم بالنزول، ويصف العقاد لنا هٰذا المشهد الأليم قائلاً :
(. . . . وإنها لتنزل من المركبة إذ تعمدت أن تدنوَ بوجهها من وجهه وتزمّ شفتيها وتغمض جفونها قليلاً وهي تنظر إليه أو تنظر إلىٰ غير وِجهة، فقبّلها كأنه أداةٌ كهربية دِيس علىٰ مِفتاحها . . . . وشعر بنفسه في تلك اللحظة غريقاً بعيداً كما يشعر بالجسد الغريق الهامد يراه في أعماق الأقيانوس الهدّار، وقال:
ـ غداً في المنزل.
قالت : في الساعة الخامسة، موعدنا القديم.
قال : موعدنا القديم
وافترقا علىٰ موعد اللقاء)
ويزيدنا العقاد من شجواه وأساه فيستأنف قائلاً:
( وكأنما كانت كلمة الموعد “القديم” وحدها طلسماً ساحراً نقله من حالةٍ إلىٰ حالة، وأخرجه من الحذر والتردّد إلى الراحة والاستبشار، فاحتجبت عنه صفحة الشكوك والآلام والمنغّصات، ولم ير أمامه إلا “الموعد القديم” بل “المواعيد القديمة” وما كانت تحتويه من سرور ومتعة وصفاء، وذكريات لا تزال مرتسمةً في الذهن، ساريةً في الجوارح كأنها وظيفةٌ من وظائف الأعضاء.)
ويبدو من هٰذا السياق ـ للوهلة الأولىٰ ـ أن العقاد حسم الأمر لصالح وِصالِ حبيبته، لا لقطيعتها، غير أنه لا يلبث أن يشدنا معه في دوامة التمزّق بين الوصل والقطيعة في مشاهد يبلغ فيها الحزن والألم حدَّ الأمواج المتلاطمة التي لا تصمد لها حوافّ اليابسة فضلاً عن رهافة الوجدان.
ويجيءُ اليوم المرتقب ويلتزم العقاد بيته والرغبةُ العارمة في استقبال حبيبته تستبقيه، والرغبة المغايرة في عدم استقباله لها تناديه،!
فلا هو يركن إلى البقاء في انتظارها ولا هو ينشط للإفلات من هٰذا الانتطار، وتهجم عليه ذكرياته الهنيّة معها في مواعيدها “القديمة” وتحاصره مَشاهدُ الحب معها والحُنوّ والعاطفة الماثلة أمامه في كل ركنٍ من أركان البيت، فيقول مخاطباً نفسه:
( كيف لا تنتظرها ؟ أتعطي سيدةً موعداً ولا تنتظرها فيه؟ أهٰذا يليق برجل؟)
ثم لا يلبث أن تداهمه صورُ التكدير ومَشاهدُ المغاضبة والتنغيص، فيعود إلىٰ العزم علىٰ عدم استقبالها، والوقت يتقدم نحو الخامسة، فيعود وينكص عن هٰذه العزيمة، فلا إرادة تستبقيه لانتظارها ولا قرار يدفعه إلى عدم انتظارها، فأين عزيمته التي ملأ بها الدنيا وشغل الناس؟
يقول:
(عزيمتي؟ وأين هي عزيمتي إن كانت لا تنجدني في هٰذا النزاع العنيف؟)
ويظل علىٰ هٰذه الحال والوقت يتقدم نحو الخامسة، حتىٰ أزفت النهاية التي كان لابد منها وإن جاءت علىٰ غير حسبان، يقول:
(وتعاقبتِ الساعات ولا قرار، وتناول صاحبنا غداءه ولا قرار، وجاءت الساعة الرابعة ولا قرار، غير أن الذي حدث بعد ذلك يدلّ دلالة لا شك فيها علىٰ أن الإنسان يقرر ما ينويه وهو لا يشعر ولا يعترف بشعوره، ففي الساعة الرابعة وبضع دقائق وجد صاحبُنا أنه يلبس ملابس الخروج ويفتح باب حجرته، وينحدر على الدَرج إلىٰ حيث لا يعلم إلا أنه خارجٌ من المنزل . . . . فماذا عساه أن يصنع، لا تسل فكرَهُ، ولا تسل قلبه ولا تسل ضميره، بل سل كلَّ وشيجةٍ من وشائج لحمه ودمه وأعصابه التي عزمَت عزمها بغير اكتراثٍ لفكرِهِ أو لقلبه أو لضميره، واستقلت بإرادتها . . . . فطلبت النجاة بالبداهة المرتجلة وهي لا تعي ولا تفقه إلىٰ أين تسير، ولا لوم على من يطلب النجاة، فإنما هٰكذاٰ تُطلب النجاة)
هٰذهِ إضاءة أدبية لفصلين اثنين من الفصول الستة عشر التي اشتملت عليها تجرِبة العقاد الأسيفة مع “إليس داغر” فأثمرت لنا هٰذهِ الرواية الطويلة الخالدة “سارة”، لنجنيَ نحن منها دُرراً من الفكر الناصع في ماهيّة الحب ولآليءَ من الجوهر النادر في دوافع الهوىٰ، تُعجز صيارفةَ الجواهر ودهاقنةَ الأحجار الكريمة عن الوقوف عليها إلا في صهاريج العقاد نفسه وفي مختبراته العامرة بالدوارق الذهبية والبُوتقات، لتحليل فكرِه وشعره وأدبه وتراجمه الخالدة علىٰ مر الزمان.
ولعلنا لا نذهب بعيداً حين نستعرض بمناسبة “سارة” بعضاً من فلسفة العقاد في الحب من خلال الفقرات التالية التي وردت متناثرةً في بعض كتبه خاصةً في كتابه الشهير “أنا”:
يقول العقاد :
(وما الحبُّ إلاٰ أنه بدلٌ من الخلودِ فما أغلاهُ مِن بدل)
( نحن لا نحب حين تختار، ولا نختار حين نحب، وإننا مع القضاء والقدر حين نولد وحين نحب وحين نموت)
(وليس الحب بالرحمة، لأن المحب قد يعذّب حبيبه عامداً أو غير عامد، وقد يقبل العذاب مع الاقتراب ولا يقبل منه الرحمة مع الفراق)
(في الحب شيءٌ من الخداع، لأن المرأة الواحدة تكون أفضلَ المخلوقات في عين هٰذا الرجل، وتكون شيئاً مهملاً لا يستحق الالتفات في عين ذاك)
(وفي الحب شيء من العداوة، لأن المُحبّ مُكرهٌ على البقاء في أسر الحب، عاجز عن الإفلات من قيوده)
(وفي الحب شيء من الغرور، ولولا ذلك لما اعتقد الإنسان أن إنساناً آخر يهمل الألوف من أمثاله ليخصّه وحده بتفضيله وإيثاره)
(والحب عواطف كثيرة وليس بعاطفةٍ واحدة، ففيه من حنان الأبوّة، ومن مودة الصديق، ومن يقظة الساهر، ومن الأثَرة والإيثار، ومن الغرور والهوان، ومن الرجاء والقنوط، ومن اللذة والعذاب)
(ليس الحب بالانتقاء والاختيار لأن الإنسان قد يحب قبل أن يشعر بأنه أحب)
(بعض الخشونة أدلّ على الحب والإخلاص من بعض المجاملة)
ولد عباس محمود العقاد في أسوان في ٢٨-٦-١٨٨٩م وتُوفيَ في القاهرة ودُفن في أسوان في ١٤-٣-١٩٦٤م
فولاذ عبدالله الأنور
.