كنت أنتظرُه يوميا، أراقبه من شرفة المنزل، اعتَدْتُ على ذلك – بشغف- اعتيادي تناول فنجان القهوة كل صباح. يُسابِق الزمن وصولا لمحطته الأخيرة، حيث أقطن على بعد أمتار منها. ألِفتُ صوته وشكله، كما ألفتُ
وجوه بعضِ ركابه، عِشتُ أحلامَهم من خلال عيونهم التي تُحَملِق في السماء، كما عشت همومَهم من خلال رؤوسهم المائلة على أيديهم. وإذا ما غاب أحدهم ساءلت نفسي: هل هو بخير؟ ، وإذا ما عاد فرِحتُ لعودته، أعرف أنه يسابق الزمن من أجل الحياة، لكنه في الحقيقة يعْدو تجاه محطته الأخيرة. مرت سنوات وسنوات ولم أغير عادتي في مراقبته وركابِه. وفي صباحٍ يومٍ مشرقٍ صافٍ أبصرته قادما من بعيد وكأني أراه لأول مرة، يأتي بصوته العالي، وضجيجه المعتاد وقد تغيرَ شكله، وتلاشت ألوانه، وصدأت جوانبه، وتهالكت شرفاته، وتهشمت بعض مقاعده، كما ظهرتْ تجاعيد الزمن على وجه أحد ركابه الذين كنت أراقبهم يوميا ولا أدري ما الذي دفعني أن أرى فيه نفسي؟ إنه يشبهني! فانقبض قلبي، وأخذتني قدماي سريعا إلى مرآة الغرفة، وبينما أُحَدِّقُ فيها، رأيت شخصا آخر غير الذي أعرفه- يشبه صاحبي الذي أراقبه- شاحب اللون، أبيض الرأس، كثير الثنايا في الوجه، تشكلت خطوط الزمن بشكل متوازٍ على جبهته وكأنها قضبان قطار – أهذا هو أنا؟ – لا لم أكن كذلك! إنه شخص آخر! – لا بد أنه صاحبي الذي أراقبه! وبينما أنا في حالةِ إنكار، سمعتُه يأتي من بعيد، أسرعت إلى الشرفة علَّني أرى صاحبي هذا الذي أجهده الزمن، وأرَّقَه الأمل، لكنه لم يأت، وجلس على مقعده شاب في مقتبل العمر. عُدت إلى المرآة، أرجعت البصر مرة تلو أخرى، وكانت المفاجأة! .. إنه صاحبي الذي أبحث عنه يواجهني في المرآة! لم يكن على مقعده! لماذا أتى إلي؟ وكيف وصل إلى بيتي؟ وهل كان يراقبني كما كنت أراقبه؟ وانسالت الأسئلة على لساني سيلان النهر الدافق ولكن دون إجابات شافية.. تذكرت ساعتها ملامحه وهو في مقتبل العمر يوم ان بدأتُ أراقبه. تمنيت حينها لو أن هناك كوابحٌ للزمن ككوابحِ القطار.