من الْمُتَعَارَفِ عَلَيْهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ غذاءُ الرُّوحِ ، وَأَنَّهَا البوابةُ السِّحريةُ التي تَنْقلُ الإنسانَ مِن عَالمِهِ الْمَحْدودِ إِلَى عَوالِم أُخْرَى خفيةً أكثر تشويقًا وإمتاعًا ، فيتَخَطَّى بِهَا حُدُودَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وتُضيفُ إِلى عُمرهِ أَعْمَارًا أُخْرَى لِأناس آخَرِينَ سَبَقُوه بِالْخِبرةِ والتَّجْربةِ ،فَتَذهبُ بِهِ فِي أَعْمَاقِ التَّارِيخِ , وَتَجْعله يُشَارِكُ أَبطالَ الأساطيرِ فِي مُغَامَراتِهم، فَيُسَرُّ عِنْدَمَا تَقَعُ عَيناهُ على مَواضِع الْفَرح ويَختنق بِالعَبرات الْحَارَّةِ عِنْدَمَا يَمُر بِمَوَاضِع التَّرح ؛ لِذا كَانت تَقول الكاتبةُ الأمريكية “جويس كارول” :”القراءةُ هي الوسيلةُ الوحيدةُ التي تُعطينَا حَياةَ الآخَرِين ، وَتعُطِينا أَصْوَاتَهم وتُسْكِنُنَا أَرْوَاحَهم” .
نَعَم يَا سَادَة إنَّها القراءةُ الَّتي رَفَعت شُعُوبا مِن مَدَارك الاِنْحِطَاط الفِكْرِي وَالثَّقافي وجَعلتْهُم سَادة الأُمَم، بَينما نَحْنُ هُنَا وَلَكَ أَنْ تَتَصوَّرَ أَنْ مُعَدَّلَ القِرَاءةِ السَّنوِّيَة لَنَا فِي الْوَطَنِ الْعَرَبِيِّ هُوَ سِتُّ دَقاَئِق فَقَط..! أَيُعْقَلُ هَذَا فِي أُمَّةِ اِقْرَأ ؟!!
وَلَعَلَّ مَا يُحْزِنُنِي أَكْثَر هُو مَا تَعَرَّضَتْ لَهُ القِرَاءَةُ فِي الْعُقودِ الْأخِيرَةِ مِن ظُلْم وإجْحَافٍ في ظِّل هَيْمَنَةِ الْعَوْلَمَة ، وَالتَّطَور التُّكنُولُوجي الْمُسْتَمِر ، وَ ولَادَة تَطْبيقات التَّوَاصُلِ الْاجْتِمَاعِي مِثْل : الْفِيسبُوك و تُويتر التي ثبت بمرور الزمن أَنَّها لَا تَمُتُّ لِلتَّواصُل بِصِلَة ، بَلْ أَصْبَحَتْ هَذِهِ التَّطبِيقاَت منصَّةً لِلشَّائِعاتِ واسْتِقْطَاب الشَّبَاب والفَتيَات ؛ وَذَلِكَ لِلتَّرْوِيجِ لِأفْكارٍ دَخِيلَة عَلَى مُجْتَمَعَاتِنَا الْعَرَبية وقِيَمنا السَّامِية وَفَتَحَت لَهُم الْبَابَ عَلَى مِصْرَاعَيْه فَخَلَقت لَهم قُدوَات مُزَيَّفَة فِي كُلِّ الْمَجَالَاتْ.
وَلَيْسَ غَرِيبًا أَنْ يُضَافَ بِالتَّأْكِيدِ إِلَى كُلِّ مَا سَبَق الْفوْضَى الدِّرَامِية التِّي تَمَيَّزَت بِغَزَارَةِ الْإنْتَاجِ وَسَطْحِيَّة الْمَضْمُون وَتَفَاهَتِهِ ، فَلَمْ تَعُدْ السَّاحَةُ خَالِيَة لِكِتَابٍ أَنِيسٍ تَفُوحُ مِنْهُ تِلْكَ الرَّائِحةُ التي أَدْمَنَها سَابِقًا مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِم ” دُودُ الْكُتُب” .
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَقْطَتِعُونَ مِنْ أَقْوَاتِهم وَلُحُومِهِم كَي يمْلَؤُونَ عُقُولِهِم حِكْمَةً وَ أَدَبًا وعِلْمًا .
وَلَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّنَا فِي الْعَالَم الْعَرَبِي نَنْشُر حَوَالي ( 6500 ) كِتَابٍ فِي الْعَام، مُقَارَنةً بِمَا يُنْشَر فِي الْوِلَايَاتِ المُتَّحِدة الْأَمْريكية ُوَ الَّذِي يُقَدَّرُ بـ ( 100,000 ) كِتَابٍ سَنَويًّا، كَمَا يُوجَد فِي الْعَالَم الْعَرَبِيِّ كِتَابٌ وَاحِدٌ مُتَرجَم إِلَى اللُّغةِ العربيةِ لِكُلِّ مِليون ، وَيَسْتَهْلِكُ الْعَرَبُ مَا ِيُعَادِلُ 1% فَقَط مِن كُتُبِ الْعَالَم .
وَمِنْ العَجِيبِ أَن تَعْلَمَ أَنَّ مَا تَمَّ تَرْجَمَتُهُ إِلَى اللُّغَة الْعَرَبِيةِ مُنْذ عَهْدِ الْخَلِيفَة الْمَأَمُون حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا بَلَغَ (10000) كِتَابٍ وَالْأَعْجَب أَنَّ هَذَا الْعَدَد هو مَا تَقُومُ إسبانيا بِتَرْجَمَتِهِ إِلَى لُغَتِهَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَة !!
وَالْأَعْجَب وَالْأَعْجَب أَنَّ هَذَا النَّمَط الْقِرَائِي الْمُتَمَيِّز- الْإِسْبَانِي – تَوَارَثَهُ
الْقَوْمُ مِنْ أَسْلَافِهِم … مَاذَا ؟ ……. أَسْلَافهم ؟
الإجابة ” نَعَم ” تِلْكَ الرُّوح الْعَرَبِيَّة المتّلّهِفَة إِلَى الْقِرَاءة بِنَهَم شَدِيد حَتَّى قِيلَ أَنَّ ” قُرْطُبُة ” كَانَت أَكْثَر الْمُدُن كُتُبًا .
تَمَسَّكَ الْقَوْمُ بِمَا يَنْفَعهم ، وَتَرَكُونَا نَتَمَسَّك بِحَضَارَةٍ زَائِفَةٍ شِعَارُهَا الْفَضَاء الْأَزْرَقْ وَاللَّهْو اللَّا أَخْلَاقِي .
وَهُنَا ينْبَغِي أَنْ نَقُولَ أَنَّ الْمُبَادَرَات الْحُكُومية يَجِب أَن تَتَوَجَّه نَحْو عَوْدَةِ الْاهْتِمَامِ بِالْقِرَاءة ، وَلنا فِي مَشْرُوع ” مكتبة الأسرة ” الذي دُشِّنَ في مَطْلعِ تِسْعينيات الْقَرْن الْمَاضِي ، وَتَحْدِيدًا فِي عَام 1994 ، والَّذِي بَدَأَ بِداية قوية ، حيث تم إِعَادة طَبع “موسوعة مصر القديمة” لِلْعَالِم المصري ” سليم حسن ” في (16) جزء
بسِعرٍ زَهيد ، حَيث كَان ثَمنُ الجزء الواحد الذِي تَرَاوحت أَوْراقه مَا بَين (700 : 800 ) وَرَقة (خمسة جنيهات فقط) .
والاهتمام يَجِب أن يشمل أيضًا دَعم الموهوبين ، وتسليط الضوء عليهم بشكل كبير في كافة مدارسنا العربية ، وَتَوسيع نِطاق المسابقات ذات الجماهيرية الكبيرة مِثل ما تُبهر به دَولةُ الإمَارات العربية المتحدة الشَّقيقة الْعالمَ في
مُسابقة ” تَحَدي الْقِرَاءَة الْعربي ” ، وهُو الْمَشْروعُ الذِي أطْلقهُ سُمُو الشَّيخ ” محمد بن راشد آل مكتوم ” ، لِفتحِ الْمَجَال أمَامَ كَافة الأعمار من الْجِنسين بِشكل حضاري يعكس عمقنا وَتاريخنا العربي ، وَ وَعينا بقيمة الِقراءة أمام العالم.
قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ : مَا جَدْوَى أَنْ تَكْتُبَ عَنِ الْقِرَاءةِ وَأَوْضَاعُنا الاجْتِمَاعيَّة والاقتِصَادية لَيْسَتْ فِي وَضعِهَا الْأَمْثَل ؟!
والْإجَابة عَزِيزِي الْقَارئ أن الْمَعْرِفَة قُوة وَثَرَاء .
وأضْعَفُ الْأمَم وَأفْقَرُهُا هِيَ أمَّةٌ لَا تَقْرَأُ .. يَا أمَّة اقرأ .