عزلة الفيلسوف فريدريك نيتشه مرت في مرحلتين كان أولهما الانعزال الجزئي، لا يقابل إلا القليل جداً من الأصدقاء في فتراتٍ متباعدة، والغريب أنه يرغب بأن تستمر انعزاليته إلى ما بعد الحياة، ففي مقدمة فليكس فارس من كتاب هكذا تكلم زرادشت ذكر أن نيتشه حين مرض في عام ١٨٧٩ أرسل لأخته إليزابيث «إذا مت فلا يقف حول جثماني إلا الأصدقاء، ولا يزورني إنسان فضولي» فعاش حياته مؤمناً بهذا المبدأ
ولكن كانت العزلة الحقيقية -وهي المرحلة الثانية- التي أصبح بها وحيداً تماماً، حدثت في عام ١٨٨٦ حين تزوجت أخته إليزابيث وذهب الإنسان الذي كان يتحدث معه ويؤمن به كصديق ومؤنس وحدته، فحاول أن يعوض هذا الأمر في الزواج وتأسيس العائلة واختار (لو سالومي) كخليلةً له، ولكنها رفضته لتتزوج (تشارلز أندرياس) فأصبح وحيداً تماماً حينها، وما أتعس الإنسان حين لا يجد من يشاركه كوب قهوته أو منجزاً أنجزه أو أمراً محرجاً حدث له، يدور الحديث في صدره ولا يجد له أذناً تصغي إليه ولا عينًا ترقبه وهو يشكو مما يقاسيه
وذهب الكثير من الباحثين إلى أن جنون نيتشه كان المسبب له هو الوحدة الشديدة التي كان يعيشها «ذكر كولن ولسن في حديثه عن وليام بلايك إن زوجته كانت تملأ حياته، وكانت تؤمن به وبعظمته، ولو وجد نيتشه امرأةً تؤمن به حتى النهاية لأنقذته من الجنون»
ولكن الجنون والاضطرابات والعزلة في حياة نيتشه لم تكن تدمره، بل أنها صنعت منه نيتشه الذي نعرفه، كان يحيا في قلاقل لا تنقطع، إضافة لمرضه منذ مراهقته، ومن ثم رفض النساء له، كل هذه الأسباب منحته ثيمة (رفض) أو عدميَّة ما، فالجنون والعزلة والاضطرابات المختلفة التي كان يحياها نيتشه ما هي إلا لمسة جمالية تضاف على نصه، وقال فؤاد زكريا من كتابه (نيتشه) «إن العزلة القاتلة التي عاش فيها نيتشه قد صبغت أسلوبه بصبغة خاصة، وشعوره بالوحدة قد أضفى على كتاباته نوعاً من الترفع والتعالي»