لا تسهم السياسة المحلية في تحديد حوافز القادة التي تدفعهم إلى بدء الحروب فحسب، بل توجههم أيضاً لاتخاذ قرار بإنهائها. بالنسبة إلى بوتين، أدت الحرب في أوكرانيا إلى خلق صعوبات وتعقيدات كبيرة أمام قدرته على الحكم، لأسباب ليس أقلها أن الانتكاسات هناك قد أضرت بصورته كقائد مقتدر على نحو لا يمكن إصلاحه. والاستمرار في الحرب يفيد بوتين لأنه يجعله أكثر صموداً في مواجهة التحديات المحلية التي تصاعدت منذ الغزو.
بعد مرور أكثر من عام على الغزو الروسي لأوكرانيا، تجلت الحقيقة المرة: الحرب لن تنتهي قريباً. على رغم القتال العنيف داخل مدينة باخموت الشرقية وحولها وفي أجزاء أخرى من دونباس، فخطوط المواجهة لم تشهد أي تغيير جوهري منذ أشهر. ويبدو أن روسيا في صدد تنفيذ هجومها الذي طال انتظاره، بيد أن موسكو تفتقر إلى القدرات اللازمة لتحقيق أي مكاسب كبيرة.
في المقابل، تستعد أوكرانيا أيضاً لشن هجوم في فصل الربيع، لكن الخسائر البشرية والمادية التي تعانيها البلاد قد تحد من نجاحها. ولا يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مهتمان بالمفاوضات. وبالنظر إلى المأزق الواضح الذي يلوح في الأفق، فالسؤال المطروح هو إلى متى سيتمسك الزعيمان بخيار الحرب.
وهناك سبب واضح وراء استمرار زيلينسكي وبلاده في القتال: إذا لم يفعلا ذلك، ستختفي أوكرانيا من الوجود. وقد عبر القادة الغربيون عن هذا الرأي مراراً وتكراراً. وأشار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين إلى ذلك بعبارات واضحة وصريحة في سبتمبر (أيلول)، قائلاً، “إذا توقفت روسيا عن القتال، ستنتهي الحرب. أما إذا توقفت أوكرانيا عن القتال، فستنتهي أوكرانيا”.
وحتى لو سعى زيلينسكي إلى تسوية عن طريق التفاوض يتنازل فيها عن الأراضي لروسيا، فإن ذلك سيحمل في ثناياه خطر أن تستنتج موسكو أن الغلبة تكون دائماً للأقوى، فتشن هجوماً آخر في المستقبل. والجدير بالذكر أن زيلينسكي يواجه ما يسميه علماء السياسة مشكلة “التعهد الصادق”: فهو لا يستطيع أن يضمن أن بوتين لن يوافق ببساطة على تسوية اليوم، ثم يعيد تجميع صفوفه ويهاجم مرة أخرى في اليوم التالي. وإذا قبلت أوكرانيا بتسوية سياسية سلمية الآن، قد تجد نفسها في وضع أسوأ لاحقاً.
وبالاستناد إلى بيانات من عالمتي السياسة سارة كروكو وجيسيكا ويكس، وجدنا أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فإن نسبة الحكام المستبدين المتفردين الذين أطيحوا وسط صراع بين دولهم ودول أخرى، نشب واستمر في خلال فترة حكمهم، لم تتخط السبعة في المئة. وعلى نحو مماثل، تظهر بيانات أخرى أن القادة الذين بدأوا الحروب من المستبعد جداً إطاحتهم في خضمها.
بالنظر إلى أن دعم باكستان لحركة طالبان، والوكلاء الآخرين، أدّى إلى مقتل قرابة 3,500 من القوات الأمريكية وحلف الناتو وغيرهم من القوات الشريكة على مدى السنوات العشرين التي تلت عام 2001 -أي أكثر من عدد الأشخاص الذين قتلوا في هجمات 11 سبتمبر- كيف نفسِّر إخفاقَ الولايات المتحدة في مواجهةِ سياسة باكستان وتغييرها؟
ببساطة، فشلتِ الولايات المتحدة في رؤية الصورة الكلية. لقد سعَت السياسة الأمريكية باستمرار إلى إحداثِ تغيير تدريجي مع باكستان دون معالجة الحقائق الاستراتيجية. وعلى وجه الخصوص، أخفق النهج الأمريكي تجاه باكستان على ثلاثةِ مستويات:
(1) أنه قلل من شأن تصميم الجيش الباكستاني على إعادة طالبان إلى السلطة في أفغانستان؛
(2) لم يدرك على نحوٍ صحيح أن إنشاء حركة طالبان باكستان في أواخر عام 2007 وولاية خراسان التابعة لتنظيم داعش في عام 2014 كانت وسيلة لتحقيق هذه الغاية؛
(3) وأنه تجاهل تأثير مجموعة صغيرة من الجنرالات ذوي الالتزام الأيديولوجي.
وكانت النتيجة عودة طالبان المفاجئة إلى السلطة، والانهيار السريع للنفوذ الأمريكي والديمقراطي في كابول، وأزمة إنسانية وسياسية وأمنية تلوح في الأفق. كيف عادت أفغانستان بهذه السرعة إلى هذا الحضيض؟
التخطيط للغزو
أولًا، لم تأخذ الولايات المتحدة وحلفاؤها في اعتبارهم بالكامل أهداف الجيش الباكستاني الرئيسة. وفي أواخر عام 2001 وأوائل عام 2002، استقبلت الاستخبارات الباكستانية العسكرية والعامة مقاتلي طالبان والقاعدة الفارين من أفغانستان في معسكراتٍ قائمة من قبل أقيمت لـ “جيش محمد”، و”عسكر طيبة”، و”عسكر جهنكوي”، وحركة المجاهدين، وجماعات إرهابية أخرى.
وبعد مكالمة من الرئيس الباكستاني آنذاك، الجنرال برويز مشرف، إلى الرئيس جورج دبليو بوش بعد سقوط كابول في 14 نوفمبر 2001، نُقل أكثر من ألف مقاتل من طالبان، مع ضباط من الاستخبارات الباكستانية العسكرية وموظفي الدعم، جوًا من قندوز في شمال أفغانستان إلى باكستان.
وفي ظلِّ توسيع نطاق الحملة العسكرية الأمريكية في أفغانستان، رسّخت باكستان اعتماد الولايات المتحدة على خطوط الاتصال البرية والجوية التي تمر عبر أراضيها وأجوائها، لا سيما نقل البضائع المنقولة بحرًا التي تم تفريغها في ميناء كراتشي. وعلى مدى العقدين التاليين،
كلما ازدادت الضغوط الأمريكية “لبذل المزيد” ضد عناصر طالبان أو شبكة حقاني أو القاعدة، ذكّرت باكستان واشنطن ببراعة بأن العمليات العسكرية الأمريكية في أفغانستان تعتمد على خطوط الاتصال البرية والجوية هذه.
في أوكرانيا، في كل أسبوع يمرّ يبدو أنّ الولايات المتحدة حريصة في النهاية على تضخيم مشاركتها في الحرب مع روسيا، ممّا يزيد من توسيع الخط الرفيع الذي يفصل بين الحرب بالوكالة وبين المواجهة المباشرة بين القوّتين العسكريتين العظميين على كوكب الأرض. على الرغم من أنّ الاستراتيجية التي تهدف إلى تجنب هذه المواجهة المباشرة لا تزال سارية المفعول فإنّ أشكال الدعم لأوكرانيا التي كانت من التابوهات بالأمس القريب أصبحت تحظى اليوم بالقبول أكثر فأكثر بمرور الوقت.
منذ بداية آذار (مارس) خصّصت الولايات المتحدة، وهي واحدة من بين أكثر من 50 دولة تقدم شكلاً من أشكال الدعم لأوكرانيا، في 33 مناسبة، مساعدات لهذا البلد، بمبلغ إجمالي يزيد عن 113 مليار دولار في شكل مساعدات إنسانية وعسكرية ومالية. في الوقت نفسه وافقت إدارة بايدن على توفير المزيد من الأسلحة الأكثر فتكاً، بما في ذلك مركبات برادلي القتالية، وبطاريات صواريخ باتريوت ودبابات أبرامز، في حين يزداد الضغط أكثر فأكثر للحصول على أسلحة أقوى، مثل أنظمة الصواريخ التكتيكية للجيش (ATACM) و F-16 . وكما أشار إليه تقرير حديث صادر عن مجلس العلاقات الخارجية فإنّ مساعدة واشنطن لأوكرانيا “تتجاوز بكثير” مساعدة أي دولة أخرى.
في الأسابيع الأخيرة امتدّ مسرح التوترات مع روسيا إلى ما وراء أوكرانيا، لا سيما في القطب الشمالي حيث يرى بعض الخبراء في هذا التوسع إمكانية نشوب صراع مباشر بين روسيا والولايات المتحدة، إذ يصفون هذه المنطقة بـ “نقطة ساخنة قادمة”. علاوة على ذلك أثار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً إمكانية تخزين الأسلحة النووية التكتيكية في البلد المجاور، بيلاروسيا، والتي قد تكون حركة استفزازية أكثر منها لفتة مهمّة، لكنها تظل نقطة توتر جديدة بين البلدين.
وبصرف النظر عن أوكرانيا فإنّ للصين وزنَها الثقيل عندما يتعلق الأمر بالتنبؤ بحرب محتملة مع واشنطن. ففي مناسبات عديدة صرّح جو بايدن علنًا أنّ الولايات المتحدة لن تظل مكتوفة الأيدي في حال شنّت الصين غزواً لجزيرة تايوان. ومن المهم الإشارة إلى أنّ المبادرات الرامية إلى تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ قد تكثفت في الأشهر الأخيرة.