العالم يسير من خلال قواعد علمية ممكن دراستها، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو حركة المجتمعات وظهور الدول واختفائها. وفي ذلك صدرت عدة نظريات على مستوى العالم، تدرس هذه الفرضية وتعززها، حتى أصبحت علماً يدرس في حقل العلوم السياسية في الجامعات المختلفة. فالدول تعتمد في قوتها على عدة جوانب، منها كثافة الموارد البشرية، ومستوى تعليمها، ونسبة سكان الحضر. ومنها الموارد الطبيعية، وقدرتها على تحويلها الى موارد اقتصادية وصناعية.
إن توازن القوى من أهم مرتكزات النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، حيث أنه فرصته في تحقيق الأمن في ظل نظام عالمي تغيب عنه السلطة المركزية الضابطة ، ويمكن توضيحه على أنه النظام الذي يخلق توازناً بين الفواعل الدوليين لمنعهم من انتهاك بعضهم حيث أنه اي خرق لأحد الفواعل بين دائرة التوازن يعتبر إخلالاً بتوازن القوى لذا يتوجب على جميع القوى المساهمة في ضبط التوازن.
منذ أن تفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة على النظام الدولي أصبح هناك اختلال بتوازن القوى ، باعتبار فاعل واحد فقط يسيطر على النظام الدولي، وهذا ما نجده في النظرية الواقعية بأن باقي القوى ستتسارع من أجل تغيير التوازن القائم والذي تسيطر فيه واشنطن.
فقد شهد العالم خلال السنوات الماضية تأرجح في توازن القوى الدولية ما بين الهيمنة الأمريكية وصعود الصين وتنامي روسيا مما أدى إلى تنافس فيما بينهم.
ويتضح تأرجح واشنطن من خلال أمرين:
الأول : الإصرار على الاستراتيجية الأمريكية التي ترتكز على بقاء التفوق الأمريكي عالمياً ، والأمر الثاني : صعوبة وزيادة تكلفة استمرار أمريكا في بقائها وتدخلاتها القوية في العالم، خاصة في وجود منافسين ل واشنطن، صعود بكين من جهة ، ومنافسة روسيا لأمريكا في الشرق الأوسط من جهة أخرى.
ثم الموارد العسكرية، وتشمل حجم القوات المسلحة، وحجم الأنفاق العسكري. ومن خلال دراسة التاريخ، اتضح ان سقوط الدول وبروزها يعتمدان على هذه الأمور وغيرها من موازين القوى، التي أخذت تتعدد مع الزمن، حيث دخل تماسك المواطنين، وتمسكهم بنظامهم السياسي، ودفاعهم عنه، والشحن الوطني والتزامهم به، ومدى تجانس القوميات المختلفة في البلد الواحد، والقدرة المتجددة على خوض التحديات التي تواجههم، بما فيها الحروب.
ومع وجود الدول النووية إيران وكوريا الشمالية ، جعل أمريكا ان تبدي رغبة واضحة في الانسحاب من الكثير من المناطق بشكل مدروس وتدريجي، فانسحاب أمريكا التدريجي من أفغانستان كان لصالح تدعيم قوتها في مناطق أخرى لشرق آسيا، ومن جهة أخرى، ظهر تنامي صعود التنين الصيني، سعياً لإعلاء الحضارة الصينية، على حساب الغربية .
فعلى المستوى العسكري يظهر تزايد واضح في الإنفاق العسكري الصيني لتحتل المرتبة الثانية على مستوى العالم في الإنفاق.
وقد ظهر ذلك واضحاً خلال 26 سنة الماضية من ارتفاع متسلسل من الزيادات على الإنفاق العسكري، حيث بلغ في العام الماضي 252 مليار دولار، وكما سجلت زيادة بلغت 6.8 % عن العام الماضي، اي ان القوة العسكرية ستتزايد بأضعاف خلال السنوات القادمة .
إن المجتمع الأمريكي يعتبر بكين هي المنافس الأول لأمريكا، حيث أنه في عهد الرئيس ترامب تزايدت فكرة الخطر الصيني مما جعله يخوض حرباً تجارية لوقف صعودها، وفي عهد الرئيس بايدن ظهر بوضوح الخوف من صعود الصين والقلق حول اختلال القوى لصالح بكين ، حيث وصفه الرئيس بايدن بأن الصين هي المنافس الأخطر وحذر أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي من الخطر الصيني وقال : ” إذا لم نتحرك سيهزموننا ”
ومع تنامي التنافس الاقتصادي بين أمريكا والصين، إلا أن روسيا كانت بعيدة عن ذلك التنافس، في حين أن حجم قوتها العسكرية يحتل المرتبة الثانية عالمياً ، وهذا ما جعلها في متنافس مع القوى العالمية محاولة منها قدر الامكان لإعادة ضبط توازن القوى المختل بهيمنة أمريكا.
واختلال التوازن قاد علماء السياسة الى نظرية أخرى هي نظرية التحول في ميزان القوى، التي أدت تاريخيا، كما يرى البعض، الى الحرب العالمية الاولى. بينما أنشأ علماء آخرون نظريتهم، التي اعتمدوا فيها على اهمية «تعارض المصالح بين الدول»، ومدى قدرة الدولة على التكيف والتوازن بين مصالحها وتغيير المصالح الدولية. التنافس بين القوى العالمية الثلاث أدى لدخول العالم في ترقب حول المرحلة الحالية الفاصلة بتحول النظام الدولي .
مع ظهور السلاح النووي تغيرت استراتيجية الصراع بين القوى الثلاث ، فلا رادع لذلك السلاح إلا بوجود قوة نووية قادرة على الرد بضربة نووية، حيث مع التطور التكنولوجي والاستراتيجيات العسكرية أصبحت الدولة قادرة على الضربة الثانية( الردع النووي ) من خلال وضع صواريخ محملة برؤوس نووية، في مناطق لا يعرفها الخصم في مناطق خارج حدودها وفي أعماق البحار.
وهذا يعني أن خوض حرب ما بين قوى نووية لديها القدرة على الردع النووي، من وقوع الطرفين في خطر الدمار ليصبح من الصعب خوض حروب مباشرة بين الدول النووية .
لقد بات العالم مترابط اقتصادياً بوجود السوق المفتوحة والتي أتاحت فرصة الحصول على الموارد المحدودة بسهولة ، وبظهور العولمة الإقتصادية، فإن ضرر اي دولة في العالم سيؤثر بشكل نسبي على جميع الدول ، فالإستقرار الدولي يعزز من انتعاش السوق المفتوح فالتبادلات الإقتصادية بين القوى العظمى الثلاث الصين وأمريكا وروسيا ضخم جدا، فالحرب التجارية التي خاضها دونالد ترامب على الصين قد أثرت بشكل كبير على اقتصاد بكين و واشنطن وعلى الإقتصاد العالمي أيضا.
فالترابط الإقتصادي بين العمالقة الثلاث كبير جدا، حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بين واشنطن وبكين عام 2019 ما يقارب 634.8 مليار دولار، وفي الربع الأول من العام 2021 زادت بنسبة 73.1%
أما التبادل التجاري الأمريكي – الروسي فقد بلغ عام 2019 ما يقارب 34.9 مليار دولار.
إن النظام الدولي يتجه نحو تقبل أمريكا التعددية القطبية، حيث أن أمريكا لا تستطيع إيقاف الصعود المتسارع للصين، لذا تتجه أمريكا للمحافظة على تفوقها اقتصاديا وتكنولوجيا، ما نجده من تغيير استراتيجيتها نحو كثير من المناطق، فالتدخل العسكري الذي كانت تراهن عليه للسيطرة عالميا، أصبح ضاربا للتنافس الاقتصادي والتكنولوجي مع الصين نتيجة أنفاقها المليارات في تدخلاتها العسكرية بلا فائدة حقيقية.
والعالم اليوم، الذي تقوده الامم المتحدة، يعتمد على ما يحدث للدول الكبرى الخمس، التي تمسك بقرارات مجلس الامن. هذه الدول العظمى، التي تعي جيدا كيف تعمل هذه النظريات السياسية، وهي تتوافق في سياساتها وقراراتها العالمية، التي يصدرها مجلس الامن، مع هذه النظريات وتفاعلاتها الدولية. لذا، من المهم لنا كعرب دراسة التاريخ السياسي والتحولات الاقليمية المؤثرة بدرجة او أخرى في مسار الاحداث في دولنا العربية،
فالعالم لن يلبي مطالب غير واقعية، اذا اخذ بتطبيق هذه النظريات السياسية. وهذا يتطلب منا دراسات مكثفة حول ما نتخذه من قرارات، وما نتبناه من سياسات في أفق هذا العالم المتغير بسرعة في هذا الزمان. لذا اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية لموائمة مصالحها في تعزيز التفوق الإقتصادي والتكنولوجي مع مصالحها الجيوبلتيكية.
لذا أعتقد بأن النظام الدولي أمام سيناريو سقوط الأحادية القطبية الأمريكية بشكل سلمي خلال فترة متوسطة نتيجة إصرار بكين وموسكو على تعديل اختلال توازن القوى الدولي
وصدق الله سبحانه اذ يقول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140(
01277691834