أبى عام 2023 أن يرحل إلا بعد أن يترك لنا غصة جديدة ومرارة فى حلق الأطباء ويجعل العديد منهم يفكرون فى الهجرة للحاق بمن سبقوهم من الأطباء.
فقد حكمت محكمة أبو تشت الجزئية بالحبس خمس سنوات وتعويض “مؤقت” عشرة آلاف جنيه على ثلاثة أطباء كانت جهات التحقيق قد وجهت إليهم تهمة التسبب خطأ فى وفاة طفلة نتيجة الإهمال فى تشخيص حالتها.
.
وطبقا لما ورد من معلومات فإن طفلة يبلغ عمرها ثلاثة أشهر وصلت الى استقبال مستشفى أبوتشت المركزي وكانت تعاني من أعراض جفاف ونزلة معوية وبدأ الأطباء فى إعطاءها العلاج، وبسبب ضعف إمكانيات المستشفى وعدم وجود تجهيزات للتشخيص الدقيق، فقد تم إحالة المريضة لعمل فحوصات خارج المستشفى حيث اتضح أن الطفلة تعانى من عيب خلقي في الكليتين، فتم تحويل الطفلة إلى مستشفى سوهاج الجامعى حيث توفيت إلى رحمة الله، والجدير بالذكر أن هذا العيب الخلقى يتسبب فى وفاة نسبة غير قليلة من الأطفال فى شهور عمرهم الأولى.
.
فى الحقيقة إن استمرار التعامل مع الأطباء باعتبارهم مجرمين وتطبيق قانون العقوبات الجنائية عليهم فى قضايا ممارسة المهنة هو أمر لم يعد يحدث فى دول العالم الأخرى والتى تحرص على منظومتها الصحية، فهناك توجد قوانين خاصة للمحاسبة الطبية بأسلوب علمى وليس جنائى، لأن الغرض هو الحد من نسبة حدوث الأخطاء وحصول المريض على حقه ودون وقوع ظلم على الطبيب.
فكيف نساوى فى المعاملة القانونية بين طبيب كان يحاول إنقاذ مريض ولم ينجح سواء بسبب مضاعفات المرض أو العلاج أو حتى بسبب خطأ بشرى، وبين بلطجى قتل مواطنا بالسكين أثناء مشاجرة فى الشارع!؟
إن عمل الطبيب مثل عمل القاضى أو رجل الإطفاء أو منقذ الشاطىء، فإن أصدر القاضى حكما أضر بمواطن وتبين لاحقا أن هذا الحكم خاطىء فهل سيتم حبس القاضى، وإذا فشل رجل الإطفاء فى إنقاذ مواطن من حريق فهل سيتم معاقبته بتهمة القتل الخطأ، وإذا لم يتمكن المنقذ من إنقاذ الغريق فهل سيتم سجنه، بالطبع لا لأن المجتمع إذا قبل بذلك فلن يجد من يقبل بوظيفة قاضى أو رجل إطفاء أو منقذ للشاطىء.
.
وفى الحقيقة إن امتناع مجلس النواب حتى الآن عن إقرار قانون علمى للمسئولية الطبية، على الرغم من قيام نقابة الأطباء منذ سنوات بتقديم مشروع قانون متكامل لذلك أسوة بالدول الأخرى لهو أمر عجيب، ويساهم فى ازدياد وتيرة هجرة الأطباء للخارج إلى دول بها قوانين تكفل لهم الحماية العلمية لممارسة مهنتهم، بل ويفتح الباب أمام بعض الأطباء للإتجاه لما نسميه الطب الدفاعى وذلك بالإبتعاد عن علاج الحالات المعقدة مما سيزيد من معاناة المرضى إن حدث ذلك.
.
أما قول البعض بأن ما يمنع مجلس النواب من إقرار القانون هو وجود لشبهات لعدم الدستورية فى مشروع القانون نظرا لطرح العقوبات السالبة للحرية مما يعد تمييزا بين المواطنين، فان فقهاء القانون يعلمون أن هذا الرأى فى غير محله حيث أنه لا يوجد أى تمييز، لأن التمييز الذى يعنيه الدستور يقوم على أساس عدم التمييز بين المواطنين الذين تتساوى مراكزهم القانونية، وبالطبع فأن المراكز القانونية تختلف بين الإصابة والقتل الخطأ نتيجة تدخل طبى كان يسعى بالضرورة لنفع الإنسان، ويبن الإصابة والقتل الخطأ نتيجة أى سبب آخر (مشاجرة – إنهيار منزل … وخلافه )
والدليل على ذلك أن المحكمة الدستورية العليا قد قضت بأن مبدأ المساواة أمام القانون لا يعنى معاملة فئات المواطنين على ما بينها من تفاوت فى مراكزها القانونية معاملة قانونية متكافئة. ( القضية رقم 19 لسنة 8 قضائية دستورية لسنة 1992).
.
وإذا تحدثنا عن وجوب إصدار قانون للمسئولية الطبية يمنع الحبس فى حالات الأخطاء الطبية، فهل نعنى بذلك إطلاق العنان للأطباء المهملين دون عقاب أو ترك المريض فريسة للأخطاء الطبية دون أن يحصل على حقه، بالطبع لا حيث أن ذات القوانين العلمية الموجودة بالبلاد الأخرى والتى ننتظر صدور قانون مماثل لها فى بلدنا، إنما تضع تقسيما واضحا لمشكلات ممارسة مهنة الطب، فمضاعفات المرض نفسه ليس عليها أى عقوبات، والأخطاء الوارد حدوثها فى ممارسة المهنة طبقا لنوع الحالة المرضية فيكون للمريض أو ورثته حق بالتعويض من جهات التأمين طبقا لحجم الخطأ والضرر، أما الإهمال الجسيم مثل العمل دون ترخيص أو تجربة طريقة علاج غير موصى بها علميا أو اللجوء لممارسة طبية تمنعها قوانين الدولة فهذه هى التى يطبق عليها قوانين العقوبات وقد يسجن فيها الطبيب.
.
فى النهاية هذا هو حكم محكمة أول درجة، وبالطبع سوف يقوم محاموا النقابة والأطباء المتهمين بتقديم استئناف لإعادة المحاكمة والطعن القانونى على هذا الحكم.