لا أبالغ إذا قلت إنه لا يمر يوم دون أن أسمع أم كلثوم وأنتشي بصوتها الساحر وأدائها المعجز وإحساسها الخلاب،
والفضل في هذا الافتتان بصاحبة أنصع سمعة في تاريخ الغناء العربي يعود في المقام الأول إلى الوالد العظيم المرحوم عبدالفتاح عراق،
فقد وهبته المقادير فضيلة التذوق الفني بشكل مدهش، فكان يتقن الاستقبال الودود والانفعال الجميل بالشعر والغناء والموسيقى والرواية والفيلم والمسرحية واللوحة المرسومة والتمثال المتفرد، وقد ورثت عنه الكثير في هذا المجال والحمد لله.
من هنا صارت أم كلثوم، مع مرور الأيام وارتفاع معدلات التذوق من عام إلى آخر جزءًا رئيسًا في تشكيل وجداني الفني إذا جاز القول،
ومن هنا أيضًا بدأت انتبه إلى ردود أفعال الجمهور الذي كان يحضر حفلاتها الغنائية في الأيام الخوالي حين كانت تقدم تلك الحفلات في الخميس الأول من كل شهر.
استمتع هذا الجمهور القديم بالجلوس في صالة المسرح، حيث لا تحول بينه وبين السيدة أم كلثوم أية حواجز، فهو يراها ويتأملها بشحمها ولحمها وفستانها وزينتها ومنديلها الشهير،
بعكس من يستمع إليها عبر الراديو أو جهاز التسجيل، حيث لن يحظى من أم كلثوم إلا بالصوت المذهل فقط.
لذا يغدو جمهور المسرح في حالة استعداد تام لاستقبل أية حركة أو همسة من صاحبة (رق الحبيب) تزيد أداءها اشتعالا، علاوة أن هذا الجمهور المحظوظ يتمتع بفضيلة الإصغاء التام نظرًا لتواجده في حضرة السيدة الجليلة،
الأمر الذي يوفر له فرصة ذهبية لالتقاط الانفعالات المتنوعة في أدائها مع ما يتناسب مع مناخ الأغنية التي تترنم بها.
خذ، على سبيل المثال،
في قصيدة (الأطلال/ 1965) ينفجر الجمهور مهللا حين تصيح: (أعطني حريتي أطلق يديا)، وفي (يا طول عذابي 1938) ينفعل الجمهور بشدة مع بحّة صوتها فيهلل من فرط الطرب عندما تقول بدلال: (ساعة) في المقطع التالي:
(وقلت أصور له هنايا ساعة ما أشوفه ويايا)، إذ تنطلق فجأة عصافير الفرحة من الحنجرة الذهبية مع كلمة (ساعة) هذه.
أما في (حبيبي يسعد أوقاته 1944) فيصل ذكاء الجمهور وتمتعه بكل إشارة من كوكب الشرق إلى مستوى غير مسبوق،
ولعل جملة (الليلة عيد… عالدنيا سعيد) تكشف حجم انتشاء الجمهور وذوبانه في النهر العذب لأداء أم كلثوم.
وفي (جددت حبك ليه 1952) يبدو الجمهور على أتم استعداد للتجاوب مع الانفعالات الشعورية المتناقضة لأم كلثوم، ولعلك لاحظت مدى السرور الذي يغمر الجمهور وأم كلثوم في وقت واحد وهي تهتف (أنت ظالمني وأنا راضي)، أو (حبك شباب على طول).
الأمثلة كثيرة جدًا ومتنوعة، وكلها توضح حجم النشوة التي اكتست جمهور حفلات أم كلثوم الذي (انطرب) بغير حساب. لذا دعني أذكرك ببعض أغنياتها لتتأكد مما أقول:
(هلت ليالي القمر/ سهران لوحدي/ أهل الهوى/ دليلي احتار/ يا اللي كان يشجيك أنيني/ حلم/ الحب كده/ عودت عيني/ غني لي شوي شوي، الحفلة وليست الفيلم/ سلوا قلبي/ فكروني/ سيرة الحب) والقائمة ثرية وممتدة.
لاريب، فإن الأداء المذهل لأم كلثوم لم يكن يصل إلى ما وصل إليه من سمو ورقي وعبقرية، لولا الاستجابة الفورية من الجمهور اليقظ اللماح،
بمعنى أنه كلما توهج أداؤها تهلل الجمهور وغمرها بامتنانه وصيحاته، الأمر الذي يجعلها تبلغ مدى أعمق وأجمل في الجملة التالية أو إعادة الجملة نفسها.
هكذا اتسمت العلاقة الجدلية التي تغذيها حرارة التواصل بين صاحبة الحنجرة الفذة وبين جمهور ذواقة أنعم عليه الزمان بحضور حفلاتها الحية.
صحيح أن المقادير حرمتني من حضور أية حفلة لها، إذ كنت صبيًا صغيرًا عند رحيلها، إلا أنني أجد لذة كبرى حين أنصت إليها، فأترحم على الوالد الجليل، وأنتبه إلى ردود أفعال جمهور ذلك الزمان… وأتساءل متعجبًا:
كيف احتمل هذا الجمهور المحظوظ كل هذه النشوة وكل ذاك الطرب في حفلة واحدة؟..