يقول الله تعالى في محكم تنزيله في سورة الإسراء: ( سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُو السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
والإسراء في اللغة : السير ليلاً ، وفي الاصطلاح : انتقال النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من الله تعالى، راكباً البراق، بصحبة أمين الوحي جبريل عليه السلام، ليلاً من المسجد الحرام (بمكة المكرمة) إلى المسجد الأقصى (بالقدس الشريف) .
وقد تمَّ الإسراء والمعراج بالروح والجسد معاً، والعجب كل العجب ممن زعم أن الإسراء كان مناماً، وليس بالروح والجسد ، لأن ذلك ينافي الحقيقة والمنطق ، فكفار قريش، وهم من هم ، أيقنوا أن رحلة الإسراء والمعراج تمت بالروح والجسد، ولو كانت بالمنام لما جحدوها، لأن أحدهم، وخاصة التجار، كان يرى فيما يرى النائم أنه ذهب في تجارة كبيرة إلى الشام أواليمن أو الحبشة؛ وعاد بمكاسب كبيرة، وأموال كثيرة.
ولكن حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرحلة المباركة ، أنكروها، وجحدتها أنفسهم ، لأنهم حكَّموا عقولهم الضيقة الأفق، ولو عادوا إلى الآية الكريمة بتأنٍ وروية، وعقلوا قول الله تعالى (أسرى بعبده) حيث لم يقل : سبحان الذي دعا عبده فسرى إليه بنفسه ، أي أن الفعل من الله تعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم لايقدر على ذلك باعتبار قدرته البشرية، إنما صاحبته العناية الإلهية ورافقته الرعاية الربانية.
يقول الشيخ الإمام محمد متولي الشعراوي : إن كل فعل يؤخذ بقوة فاعله، وهو ما يصور القدرة على الفعل من عدم قدرته، والحق جَلَّ شأنه نسب الإسراء لنفسه لا لرسوله، فقال: سبحان الذي أسرى بعبده، فالرسول كان محمولاً على قوانين خالقه، ولا يصح الاعتراض على الفعل بحكم قانون البشر .
يقول الشيخ الإمام عبدالله سراج الدين، في كتابه (محاضرات حول الإسراء والمعراج) : في قوله جَلَّ شأنه :(سبحان الذي أسرى بعبده) هذا التسبيح فيه تنزيه عن أن يكون إسراؤه بالنبي صلى الله عليه وسلم إليه قرب مكان ، إذ ليس هو سبحانه حالّاً في مكان ، أو في السموات حتى يُقَرِّب إليه رسوله قرب مكان؛ فهذا الإسراء بقطع المسافات الشاسعة بين مكة وبيت المقدس ، ثم ماهنالك إلى السموات السبع ، وسدرة المنتهى ومافوقها، في مدة قصيرة من الليل ، هذا لايقدر عليه أحدٌ غير الله ، الذي له القدرة التي لاتتناهى، فهذا التسبيح فيه معنى التعجب، وأقسم الحق سبحانه بالنجم إذا هوى، ولم يقسم بغير ذلك من الآيات الكبرى، ليعقل الإنسان ويتفكر ويتدبر مناسبة الآيات مع بعضها، وذلك ليبين الله تعالى أن الذي قدر على تسيير النجم – والمراد جنس النجوم السيارة- بالسرعة الزائدة ، مع ضخامة جسمها، وعدم تفتتها ، قدر أن يسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ويقطع به هذه الأجواء ويعرج به إلى سدرة المنتهى فما فوقها ، مع المحافظة على جسمه الشريف من التفتت وغير ذلك.
ونقل ابن إسحاق صاحب السيرة عن بعض من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم، كأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها ، وسيدنا معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه أن الرحلة بشقيها الأرضي والسماوي ، كانت للروح فقط، دون الجسد، وللردّ على ذلك نقول: أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، لم تكن قد دخلت بيت النبي صلى الله عليه وسلم زوجة له ، حيث تم الزواج في شوال من السنة الثانية للهجرة ، بينما كانت رحلة الإسراء والمعراج قبل الهجرة، وفي الأثر الذي نقله ابن إسحاق، قال: حدَّثني بعض آل أبي بكر ، أن السيدة عائشة ، كانت تقول: ما فُقِد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أسرى بروحه .
وقد اختلفت نسخ الكتب في لفظ هذا الأثر ففي بعضها : مافَقدتُ ” بتاء المتكلم ، وفي بعضها الآخر بالمبني للمجهول : مافُقِد ، واللفظ الأول (مافَقدتُ)أدَلُّ على أنه كذب ؛ لأن الإسراء والمعراج قبل الهجرة ، وزواجها ، كان بعد الهجرة.
وبخصوص الأثر الذي رواه ابن إسحاق أيضاً عن سيدنا معاوية ، الذي لم يكن قد أسلم بعد ، حيث أسلم في السنة الثامنة للهجرة ، علاوة على أن ناقل الأثر، هو يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي ، وهو لم يدرك سيدنا معاوية، الذي مات سنة (60) هجرية؛ بل كان يروي عن التابعين ومات سنة (128) هجرية.
ونحن نرى الآن بعض الجاحدين من هذه الأمة ، ينكرون رحلة الإسراء والمعراج ؛ وبعضهم يقول إنها كانت بالمنام ، وبعضهم يقول بأنها كانت بالروح دون الجسد ، وهذه والله فرية كبرى؛ لأنهم بذلك ينكرون فرضية الصلاة تبعاً لذلك.
لقد أراد الله جلَّ وعلا في هذه الرحلة المباركة، أن يربط بين المسجدين، المسجد الحرام الذي ابتدأ منه الإسراء، والمسجد الأقصى الذي انتهى إليه الإسراء، ليرتبط في وجدان المسلمين هذين المسجدين، ووصف الله المسجد الأقصى بالبركة، فأراد الله أن يوطد هذا المعنى، ويثبته في عقول الأمة وفي أفئدتها، حتى لا يفَرِّطوا في أحد المسجدين، فمن فَرَّط في المسجد الأقصى، أوشك أن يفَرِّط في المسجد الحرام.
والحكمة من رحلة الإسراء والمعراج كانت ليطلع الله تعالى، النبيَ صلى الله عليه وسلم على بعض آياته وعجائب قدرته، وهذا تكريم للنبي صلى الله عليه وسلم من قبل ربه تبارك وتعالى، وبيان لعلو قدره ومقامه ومكانته ودرجته عند الله تعالى، وهو ما يجب أن ندركه نحن المسلمين، فنقَدِّر النبي صلى الله عليه وسلم حق قدره ، ونضعه في مقامه الذي يستحقه، فنقول حين ذكره، أو التحدُّث عنه (سيدنا محمد) ونقول : اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وصحبه الكرام، ونبتعد عن تلك اللوحات المُعَدَّة مسبقاً مثل :(صلوا على محمد وآل محمد) وكأن الحبيبَ الأعظم صلى الله عليه وسلم واحدٌ من أصدقائهم أو رفقاء دربهم ؛ نقول لهم: أفيقوا أيها المغيبون، إنه صاحب المقام المحمود ، الذي لم يصل ولن يصل إليه أي مخلوق، إنه خير الخلق وحبيب الحق نبينا وحبيبنا وقرة أعيننا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وبهذه المناسبة العطرة ، وهذه الرحلة المباركة، وهذه الذكرى الغالية – على نفوس المسلمين جميعاً ، التي فيها فرضت الصلاة التي هي عماد الدين ، وفيها نال الحبيب صلى الله عليه وسلم أعلى درجات القرب ، فحين وصل سيدنا جبريل بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لهذا المقام الرفيع تقهقر جبريل ، فتساءل الحبيب صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال الأمين جبريل : أنا إن تقدمتُ احترقتُ ، وأنتَ إن تقدمتَ اخترقتَ – يجب أن نجتهد في غرس حب المصطفى صلى الله عليه وسلم في النفوس، ونزرعه في القلوب ، وأن نعمق حب الأقصى المبارك، مسرى الحبيب صلى الله عليه وسلم في قلوب المسلمين جميعاً؛ وخاصة الناشئة واليافعين ، وأن نضع نصب أعينهم تلك القضية الجوهرية (تحرير الأقصى الجريح ) الذي يئن تحت نير الاحتلال ؛ ونذكرهم دائماً بالناصر صلاح الدين مُحَرِّرِ القدس الشريف، وقاهر الصليبين، وفي الختام نسأل الله نصره الذي وعد.