لم تكن تلك هي المرة الأولي التى أشم فيها رائحة الموت قريبة ،
فقد فقدنا جدي لأبي ثم جدي لأمي منذ سنوات قليلة .
لم تمنحني سنوات عمري التي لاتتعدي أصابع اليد الواحدة وقتها براح استقبال ذلك الزائر الغامض ، ولكنني كنت على يقين أن هناك حدثآ جللا، تتغير من أجله قوانين الحياة .
أقترب بحرص من حجرة جدتي الدافئة التي طالما شهدت تلك الإجتماعات المنفردة و شديدة الخصوصية لها وافراد الأسرة
كيف تحولت تلك الضحكات لصراخ وعويل ؟
ويلقي ملك الموت ظلاله عليها فيطفىء ماحرصت على إنارته طيلة عمرها ، نساء عائلتي اتشحن بالسواد كراهبات سئمن تكاليف الحياة، وتحولت الأعين لسرادق والدموع لآلاف المعزيين ..
أشحت بوجهي عنهن وجلة لتقع عيناي علي أبي المكلوم غارقا فى أحزانه ورفضه .
لطالما أسعدني بنعته لي بلقب ( أم لأبيها ). لما أكن أدرك فحواه حينها ولكني كنت أشعر معه بالفخر ذلك لإحساسي بذلك الركن المهيب الذي لم تحتله سوي جدتي الحبيبة ، ثم أنا .
ربما هذا ما جعلني أستشعر ذلك القرب والحميمية بيننا .
عصف كل ذلك بذهني وأنا مازلت بمكاني قرب حجرتها بيد أنني لم اعد أسمع صوت دعواتها الطيبة ولا همهماتها الساخطة.
مالذي يخيفني من الاقتراب والدخول هي هي جدتي التي طالما سكنت مابين كتفيها راحة وأمان ؟! مالفارق بين جسد فارغ وجسد تسكنه روح ؟!
كيف للروح أن تعبث بالجسد كل هذا العبث؟
كيف لها أن تتركه يحيا طيلة حياته واهما أنه متسيد الموقف وتتركه يلهث ليصبح أكثر وسامة . …رشاقة .. مرونة ليقول ها أنا ذا
وفجاة تتركه صاعدةلخالقها فإذا به سراب بقيعة ..
الإقتراب منه صعب إحتضانه صعب، لمسه صعب رؤيته صعب
كم كنت واهما مدعيا أيها الجسد ، وكم كنت أنيقة، هادئة ،تعملين فى صمت أيتها الروح .
لتتجلي الحقائق ،فهو بدونك كهف من الخوف والقلق إكرامه أن نسرع به لتبتلعه طبقات الأرض بلهفة وسرعة وألم ورهبة .
لم يصنع سدا لشلال أفكاري سوي صوت عمي الأصغر منتحبا ملتاعا يصرخ بقوة: أمي أمي فقيدة قلبي وروحي
متجها صوب تلك الحجرة الباردة التي لايزال ذلك الجسد الذي برئت منه روح جدتي الحنونة يقطنها .
توجه عمي وجسده مرتجا مرتعدا
اقتربت أكثر من ذلك المشهد في حين ابتعد الجميع ليتركوا تلك المساحة الفارغة جدا والممتدة أيضا جدا مابين عمي- المهاجر منذ سنوات عدة للدراسة والعمل – و بين جدتي- أمه- التي طالما سمعتها تدعو متمنية هذه اللحظة حتي وإن فارقت بعدها الحياة .
ياإلهي كيف فعلتها قبل إتمام عمي لوعده برؤيتها ، كيف لم يتمهل ملك الموت لتحقيق أمنياتهما معا؟!
صوت عمي يصك أذني:
أمي تعلمين أنك معشوقتي وأنا صغيرك المدلل ..ها أنا أمامك بشحمي ولحمي .
كل عام أقطع عهدا على نفسي أن احضر إلي مصر لأنهل من قسمات وجهك وتفاصيلك… فكثيرا ماسمعتها منك معاتبة :
تفتكر يايحيي لما بشوفك في كاميرا الموبايل دى بشبع؟ يابني عاوزه اخدك فى حضنى محتاجه ابرد بيك قلبي .
أقسم لك يا حبيبة الروح كنت أنتويها كل عام سحقا للعمل والمال والمنصب وكل تروس الحياة .
لماذا لم تنتظريني لأبرد قلبك ؟
أحكي لك تفاصيل حرماني من محراب أمانك وشوقي إليك ؟ لماذا لماذا ياامي ؟
لم يخطر ببالي قط أنك ستغادرين يوما ! ولو انتبهت لتركت العالم وانتويتك قبلتي ورحابي .
إبتعدت مسرعة مسندة قلبي بكف يدي الصغيرة
مرددة : اه ياعمي المسكين ثمة أشياء لاتنتظر ولن يشفع معها أعذار الكون وإن إجتمعت و إن علت .
برودة شديدة تسري في جسدي ويغتالني وحش كاسر إسمه الخوف ولج بقسوة وسرعة لجسدي المنهك علي نحو لم أستطع معه مقاومته
منهارة القوي أنا ، أراه بعينيه الباردتين الزجاجيتين يبني قلعته بتكاويني دون أدني مقاومة مني .
لأكمل سنوات عمري أحمل بتجاويفي ذلك الخوف المقيت من الفقد – جميعنا يخشاه – ولكنني أهابه وأرتعد لمجرد تراقص حروفه بمخيلتي ….
لم تفارقني لحظات موت جدتي التي طواها الزمن منذ قرابة ثلاثة عقود …ولم يفارقني خوفي الأكبر من ( فوات الأوان ) ومشهد عمي القاسي محاولا العودة بالزمن للوراء ولو لساعات قليلة .
ذلك الخوف الذي لا زلت أسدد ضريبته من حسابات روحي وسعادتي.
أخشي أن أصرح بغضبي لحبيب ربما نفترق بعدها ولانلتقي ، أخشي أن أقسو، أن أتمرد ، ان أرفض فأفقد أغلي الناس قبل أن تعود مياهنا فتصفو وأندم بعد ( فوات الأوان)
رائحة الموت لاتغادر الأمكنة فستظل هي الحقيقة المؤكدة ، لاينكرها إلا شقي
استمرت الأرواح في صعودها كاشفة عن زيف وادعاء الأجساد …
فتوالي فقدي لغوالي الروح والقلب لينمو الوحش الكامن منذ عقود أكثر وأكثر واستمر خوفي من ( الأوان) فعظم ظلمي لنفسي وضغطي عليها أكثر وأكثر
….
لا انكر أن مخاوفي كثيرة ( الأماكن المغلقة ، المرتفعة ، الحيوانات ، ) ولكنني استطعت المقاومة بتحدي النفس والممارسة وووووو
أما خوفي من ( الفقد ) و( فوات الأوان) لازالت رايتي البيضاء أرفعها لهما ، ولازال جسدي منهك بفقد أحبة رحلوا والخوف من فقد أحبة حضور .