ما نراه يوميا من مشاهد القتل الجماعي لأهل غزة صار فوق قدرة الإنسان السوي على الاحتمال، كأنما اجتمعت على هؤلاء الصابرين المحتسبين ضباع الأرض، لا تحكمهم شرائع سماوية ولا ضمائر إنسانية ولا قوانين دولية ولا أعراف حضارية، فقد أمنوا الحساب والعقاب ، بعد أن وضعتهم قوى الاستكبار العالمى فوق القانون الدولي، ولم تجعل لمؤسسات الأمم المتحدة عليهم سبيلا كباقي الشعوب والدول.
وعندما رفعت المندوبة الأمريكية يدها بالفيتو في مجلس الأمن الأسبوع الماضي لإبطال مشروع قرار بوقف الحرب فى غزة للمرة الثالثة منذ بدء العدوان، كانت في الواقع تعطي لهذه الضباع المسعورة الضوء الأخضر كي ترتكب مزيدا من القتل والتدمير، ثم تستخف بالعقول فتزعم أن هذا القرار لو صدر من المجلس سيلحق الضرر بالجهود التي تبذل للتوصل إلى اتفاق عن طريق المفاوضات.
وعندما وقف المندوب البريطاني يدلي بشهادته أمام محكمة العدل الدولية حول العواقب القانونية للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، قال هو الآخر كلاما يستخف بالعقول، انتهى فيه إلى ما انتهى إليه المندوب الأمريكي الذي سبقه بشهادته أمام المحكمة، وما انتهت إليه المندوبة الأمريكية فى مجلس الأمن، وخلاصته أن أي قرار، أو حتى رأي استشاري، سيقوض حل الدولتين، الذي يجب أن يأتى عن طريق المفاوضات المباشرة بين الطرفين المتنازعين، الفلسطينيين والإسرائيليين، وليس من الصواب، ولا من المفيد، تدخل مجلس الأمن أو محكمة العدل فى هذا النزاع، أي اتركوا الفريسة للضباع.
ورغم أن هناك حوالي 50 دولة أخرى غير الولايات المتحدة وبريطانيا قدمت وستقدم إفادتها أمام المحكمة، إلا أن منطق القوة سيجعل الكلمة في النهاية للدولتين ومن شايعهما، كثيرون يتحدثون ويتحمسون، لكن القرار فى النهاية سيكون في يد أمريكا الملطخة بالدماء، وتابعتها بريطانيا، راسمة الخريطة وواضعة الخطة، وهما فى الحقيقة عقل واحد (أنجلوساكسوني).
إن ما يحدث للشعب الفلسطينى واضح لكل ذي عينين، وليس في حاجة إلى كل هذه الجلسات والشهادات في مجلس الأمن ومحكمة العدل، لو أن المعتدي طرف آخر غير إسرائيل المدللة، وما تعرضه الشاشات يوميا عن الحصار والمستوطنات والاجتياحات والتهجير والقتل وتخريب الزراعات والاعتداءات على المسجد الأقصى والمدارس والمستشفيات والتمييز العنصري لا يخفى على أحد، ولا يحتاج إلى أدلة وشهود، لكنها لعبة الأمم التى تسوغ للمجرم أن يقتل القتيل ويمشى في جنازته، ولا مانع لديه من أن يقيم سرادقا كبيرا على نفقته لتلقى العزاء والبكاء على المرحوم.
وبالفعل نجحت قوى الاستكبار العالمي فى تحويل مؤسسات الأمم المتحدة إلى مجرد (حائط مبكى دولي)، تبكي عنده الشعوب المستضعفة، وتشكو ما تتعرض له من مظالم، لكنها مؤسسات مكبلة، لا ترد حقوقا، ولا تنصف مظلوما، لأن قرارها فى النهاية بيد القوى العظمى، هي صاحبة الحل والعقد، تعرف متى تفعل دورها، ومتى تبطل هذا الدور، حسبما تريد وحسبما تقضي مصالحها.
وما أكثر ما سمعنا من كلام معسول لأمين عام الأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، لكن ماذا فعلت الأمم المتحدة فى المحرقة المنصوبة للشعب الفلسطينى فى غزة؟ ماذا فعلت الجمعية العامة ومجلس الأمن ومحكمة العدل والمحكمة الجنائية ووكالة غوث اللاجئين (الأونروا) واليونيسيف واليونسكو وغيرها؟
فى عام 2022 فشل مجلس الأمن ـ كالعادة ـ فى اتخاذ قرار يمنع السلطات الإسرائيلية من مصارة منازل الفلسطينيين وهدم أحياء بكاملها حول القدس لإقامة مستوطنات مكانها، فأحيل الملف إلى الجمعية العامة على أمل أن يصدر منها قرار يوقف هذه الجرائم بعيدا عن الفيتو الأمريكي، ولكن بعد مناقشات صاخبة صدر قرار من الجمعية فى ديسمبر 2022 يطلب من محكمة العدل الدولية أن تصدر رأيا استشاريا (مجرد فتوى قانونية) حول الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الفلسطينيين فى تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية منذ عام 1967 واستيطانها وضمها إليها، وتغيير التركيبة الديموجرافية لمدينة القدس وطابعها ووضعها، وسن قوانين تمييزية ضد الشعب الفلسطيني.
ورغم أن الرأي المطلوب من المحكمة غير ملزم للجمعية العامة، ولا لأي جهة أخرى، إلا أن الأمر استغرق أكثر من عام لكي تبدأ المحكمة جلساتها للاستماع إلى شهادات أكثر من خمسين دولة ومنظمة الأسبوع الماضي فقط، والله وحده يعلم كم ستأخذ المحكمة من وقت لاستكمال سماع الشهادات، وكم ستأخذ من وقت للتداول، ثم صياغة الرأي النهائي الذي ليس هناك ما يوحي بأنه سيأتى قاطعا في نصرة الحق، فالمقدمات لا تبشر بالخير.
ووفقا لما أعلنه خبراء القانون الدولي في وسائل الإعلام العالمية فإن جلسات الاستماع الحالية للمحكمة لن يكون لها تأثير مباشر على قرارها بشأن القضية المرفوعة من قبل دولة جنوب إفريقيا، التي تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية وتمييز عنصري ضد الفلسطينيين ، والتي قد يستمر البحث في حيثياتها لسنوات، فهما مساران منفصلان.
وقد سبق للمحكمة أن أصدرت فى يوليو 2004 قرارا بأن الجدار العازل الذى تقيمه إسرائيل في الضفة الغربية ينتهك القانون الدولي ويجب تفكيكه، ورغم ذلك استمرت إسرائيل في بنائه، والتوسع فيه، وما زال قائما حتى اليوم.
لذلك لن يأتي الحل ـ يقينا ـ من حائط المبكى الدولي، فقد بكى الفلسطينيون بما فيه الكفاية، ولا من مفاوضات الذئب والغنم، فقد تفاوض الفلسطينيون لأكثر من 30 عاما بلا طائل، وإنما سيأتي من امتلاك أسباب القوة، وتوحيد الصف الفلسطيني والعربي والإسلامي وراء أعدل قضية، وانتخاب قيادة تجمع شتات هذا الشعب المناضل، وتعبر تعبيرا حقيقيا عن تشوقه إلى الحرية والاستقلال، وتجمع بين يديها سلاحين متكاملين، المقاومة والتفاوض السياسي، والله سبحانه لا يضيع عمل المخلصين، المهم أن تتوافر الإرادة والقدرة، وقد قال من سبقونا: “ماحك جلدك مثل ظفرك”.