**ينسى الإنسان في بعض مراحل حياته أنه حيوان اجتماعي لا يستطيع الاستمرار في العيش وحيدا حتى لو فرضت عليه تجربة الغربة والوحدة بعيدا عن الأهل والأصحاب ،نجد بداخله تحديا للبحث عن رفاق الماضي وإذا أصابه اليأس يلجأ إلى صندوق الذكريات.
**”شعرة معاوية” حل عربي قديم يضمن الحد الأدنى من التواصل بين الناس ولا يكلف من الجهد الكثير وهذه دعوة لاستعادتها حتى نستطيع عبور مخاطر الوحدة والفراغ التي تهاجمنا فجأة من غير موعد ولكنها تترك من الآثار السلبية الكثير وهذا مقالي في مجلة حريتي الغراء أطرحه للنقاش مع الأصدقاء.
** يذكر التاريخ عن الخليفة معاوية بن أبى سفيان.. أول خليفة للدولة الأموية والتى جعلت من دمشق الفيحاء.. عاصمة لها.. عبارة مهمة لخص فيها سياسته المقبلة بعد نجاحه فى تأسيس الدولة واعتماد خطة الفتوحات والتوسعات.. ما معناه أنه يحتفظ بشعرة تربطه بجميع الفئات.. يلجأ إلى شدها لو ارتخت فى ايديهم.. ويجذبها إذا ارتخت.. ويبطيء وقتها إذا اشتدت.
**العبارة قد تبدو ميكافيلية المنهج.. كما لمسنا مثيلاتها فى كتب السياسة وتاريخ الحروب.. ولكنها اثبتت من حيث المبدأ صلاحيتها لمن يسعى لعلاقة مريحة وآمنة وفعالة فى تعامله مع الآخرين.. واصبحت منارة مضيئة لمن يعتمد الطريق الأوسط فى حياته وتعاملاته.. اقترابًا من القول «لا ضرر ولا ضرار».
**عدت لتأمل حكمة شعرة معاوية ذات ليلة وأنا أفكر فى مصير معرفة وصداقة وزمالة وسلوكيات ومواقف خلال مشوار الحياة.. مع أناس اعزاء.. أو عرفتهم بالمصادفة.. خلال هذا الوقت الطويل وسجلت أسماءهم فى دليل التليفون الشخصى (كبير الحجم.. أو الصغير) حسب الترتيب الابجدي.. كما جاء المحمول العجيب.. ليتيح القاعدة ذاتها تحت اسم جهات الاتصال.. ويسمح لصاحب التليفون باشارات موجزة لمن يراهم اشخاصًا مفضلين.. أو مميزين.. حسب نسبة مساهمتهم فى أحوال المرء وظروفه وصعوبات اتخاذ القرار أو تجاوز الأزمات.. وغيرها فى مجال مفتوح.. لم ولن يغلق..
**مع تطور الزمن وتشابك المصالح.. فمازال الإنسان يريد شيئًا من الآخر.. بالمصادفة أو التأكيد. والدليل على ذلك عندما تتاح الفرصة لتصفح قائمة الاتصال.. تتجسد المناسبة.. بكل تفاصيلها من دفء أو جليد.. متفردة أو مع جمع رشيد.. وتهتف الذاكرة من سكونها.. تتحدى الزهايمر والنسيان.. يتصاعد منها الاحساس بالاشتياق أو الندم.. لا فارق.. لانه غالبًا ما يكون مصحوبًا برغبة طارئة فى إعادة الاتصال.. والاطمئنان على الشخص أين وكيف اصبح فى دنيا المشاغل.. والعقبات والظروف المعاكسة.. وربما تكون العلاقة التى كانت متوهجة يومًا.. إلى دائرة الذوبان.
** هؤلاء الذين سجلتهم دفاترنا.. من الصعب حصرها أو حصارها.. وقياس عاطفة الحب أو الكراهية.. أو الاعتراف بالجميل.. وحتى النسيان.. لأنها تختلف حسب مشوار الشخص.. مجال عمله.. حياته الاجتماعية.. المكان الذى يسكن فيه.. التعليم الثروة.. إلــخ.. وبداخلنا مغناطيس يجذب الطرف الآخر.. للحديث والعلاقة.. وبعدها شراكة التحديد لمسار الاستمرار.. هناك زملاء الدراسة والعمل والاقارب وأبناء الحي.. وكثيرون دفعهم القدر فى طريقنا.. لنقدم خدمة.. أو نقدم العون.. ناهيك عن الكيمياء الجاذبة لكل من الآخر.. ومعرفة الصدفة.. وما تحمل من تأثير.
** يظل الود موصولا.. شعرة معاوية سليمة.. التوزان.. والاتزان.. حتى لحظة التقاعد والوهن.. والتخلى التدريجى عن طلب الهاتف أو انتظار مقابلة من صديق.. فالبعض قد رحل عن الحياة أو انقطعت اخباره.. أو تليفونه خارج الخدمة.. أو أجبرته الظروف والمتغيرات على نسيان الارتباط و الاحتفاظ به فى خزانة الذكريات.. والمشكلة مستمرة فى عالم الفضاء الالكتروني.. وتكاد تقترب من الكارثة الشخصية أو الأزمة النفسية.. حيث اتاحت وسائل الاتصال الاجتماعى امكانات اضافية متاحة بسهولة فائقة السرعة.. لمن يريد الاتصال أو الاطمئنان بقوائم الاتصال ويفخر اصحاب الصفحات والمواقع بالمتابعين والمترددين والاصدقاء.. بالآلاف.. ولكنهم يقتصرون فى علاقات الود والاطمئنان والإعتناء باعياد الميلاد.. وعزاء الراحلين.. فقط بالعشرات لتظل حاجة الجميع قائمة لشعرة معاوية.. نبع من الحكمة لمن يريد الاستفادة واستعادة الذكريات.
صالح إبراهيم