ما كانَ الحَنينُ لنصر حُنَينٍ، ولا الغِبطة بيوم مؤتة وفتح مكة، ولا نصراً مصبوغاً بالفخر هو أعظم من يوم بدر .. ذلك يومُ الفرقان .. ويومُ الرجحان .. فيه انتصر المسلمون نصراً مجيداً، وأبادوا خضراء المشركين جميعاً، فآواهم القرآن بين سطوره، واصطفاهم المجد في أسبق وأدق وأليق عنوان عبر دهوره، وزكاهم رمضان في كل شهوره …..
إنني وحينما أستشعر لوعة وروعة نصر بدر، أسعى بكل ما امتّلكتُ من فخيم العبارة وجميل زخرفها، لأطوق بها هذه الذكرى في ثوب لغوي قشيب، زهيد ثمنه، فاقع لونه، يسر البلغاء الحاذقين والتائقين …
فيوم كيوم بدر لا يجاوزه في الفضل يوماً آخر، كأنه نسيج وحده في كل شيء آسر .. ولن أعدو على القرآن الذي وصفه بالفرقان…. فقد كان حقاً يوم فرقان في كل شيء بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان …
لقد فرق الله في هذا اليوم بين الحق والباطل، وكأنّ بنصر المسلمين يوم بدر، قد استبانت ناصية المستقبل بشروق الإسلام ولا غروبه،..
لاجَرّم أن الفريقين يوم بدر كانا في أحم وأعم سباق، يبغي كل منهما الغلبة على الآخر، فتلك هي الجولة الأولى بين أهل التوحيد وأهل الشرك… منذ ظهور الإسلام على أيدي خير الأنام….
كرس النصر الإسلامي يوم بدر باكورة إرهاصات لانتصارات إسلامية خالدة تالدة في جوف المستقبل، فأذَنّ نصر المسلمين يوم بدر ، بنصر متبوع في حمراء الأسد، وعلى بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع، وعلى الأحزاب، ثم فتح مبارك لمكة أم القرى، ثم استئصال خصراء المشركين والمرتدين جميعاً في حروب الردة… ثم محق الفرس والروم على السواء…
وعلى تماهي النصر الإسلامي البدري الرمضاني، تعاقبت ملاحم الانتصارات الإسلامية في نسيج رمضان، منذ غرته إلى نهايته….
ففُتحت مكة في نفحات رمضان، وفُتحت الأندلس في نسائم رمضان، وانتصر المسلمون في القادسية على إيقاع رمضان، ويشهد رمضان على نصر المسلمين في عين جالوت، وكذلك في حطين…
وأعطت ملحمة النصر الإسلامي في غزوة بدر دروساً مجيدة لن تُمحى ريب المنون….
كانوا الأقل عدداً وعدة، ومكنهم الله من النصر ( ولقَد نَصَرَكُم اللهُ ببَدرٍ وأنتُم أذلة فَاتقُوا اللهَ لعلكُم تَشكُرُون ) آل عمران 123 أي الأقل عدداً من المشركين… فصرتم بقدرة الله منتصرين….
فكان درس التوكل على الله يوم بدر دافعاً لجمة انتصارات إسلامية على ذات المنوال، عزائم عالية لا يصيبها فتور ولا مسكنة… وإن كانوا قلة فهم الأعلون لأنهم مؤمنون.. وبضرب المثال يتضح المقال :
يوم مؤتة، وفي تبوك، وفي اليرموك، وفي القادسية، وفي نهاوند ، وفي وادي لكة، وفي ملاذكرد ، وفي حطين …
ودرس المشورة قبل وأثناء وبعد المعركة ناصع البيان… فالقائد الأكبر صلى الله عليه وسلم يصغى لرأي الحباب بن المنذر بإمعان، ثم يستشير أبابكر وعمر رضي الله عنهما في أسرى المشركين….
ونضارة القلوب الإسلامية المقاتلة، التي نبأ بها حديث البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ” كأن الله اطلع على أهل بدر فقال ” اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم “
وأما أعظم الدوس حقاً، فهو تأييد السماء لتعضيد نصرة المسلمين على عدوهم، بجنودٍ لم تُرَ رأي العين ( إذ يُوحِي ربُكَ إلى المَلائكةِ أَني معَكُم فثَبتُوا الذينَ آمنُوا سألقِي في قُلوبِ الذينَ كَفَرُوا الرُعبَ فاضرِبُوا فَوقَ الأعنَاقِ واضربُوا لهُم كُلَ بَنان ) الأنفال 12