تحرص الشركات التجارية علي تعزيز قدرتها التنافسية مع باقي الشركات وكسب مكانة مرموقة في السوق يتيح لها المحافظة علي عملائها وتعظيم أرباحها، وذلك من خلال تحسين مستوى الخدمات والمنتجات التي تقدمها للأسواق المحلية والعالمية، لذلك تعد المنافسة أمر بالغ الأهمية بالنسبة للشركات التجارية، وهي افضل حافز لزيادة الاستثمار هو الحالة القصوى أو الأعلى من الرأسمالية مع وجود بعض الاستثناءات، لكن تبقى فكرة وجود طرف أو موفر واحد فقط تقريبا لسلعة أو خدمة تجسيداً حقيقيا للفكر الرأسمالي الجشع، أو بمعنى آخر فإن الإحتكار يعني غياب المنافسة وانعدامها ومن ثم السيطرة على السوق وبسط الهيمنة التي تحاول الحكومات مقاومتها.
الاحتكار يفسح الطريق أمام شركة أو كيان بعينه إلى بسط هيمنته وفرض منتجه مهما كانت درجة جودته وبالسعر الذي يريده نظرا لعدم قدرة المنافسين على مواجهته، ومن ثم تتعاظم أرباح ذلك الكيان الذي قد ينافس نفسه في بعض الأحيان عن طريق شركات أخرى تعود ملكيتها له.
ولأن الإحتكار يهدد كيان الدولة فإن وضع القوانين الصارمة لمواجهته يعد أساسياً لخلق توازن في الأسواق وإبعاد فكرة السيطرة عن السوق وتضخم الثروات الفردية على حساب الطبقة الكادحة.
لكن رغم ذلك تبقى “منطقة رمادية” يتمكن البعض من الإفلات عن طريقها من سلطوية القوانين مع وجود فساد إداري في عمل ممارسات احتكارية للسلع والخدمات، حتى أن هذا المنحى وقعت فيه الدول المتقدمة ذاتها لكنه في النهاية لخدمة توجهاتها، ولما لا وهي حاضنة الرأسمالية ومروجة أفكارها.
فبراءات الاختراع على سبيل المثال تعني احتكارا بهدف تطوير منتج ما، وعلى الرغم من كونها حفظاً لحقوق أصحابها، بجانب منح المبدعين وقتاً لإسترداد تكاليف الأبحاث والتطوير إلا أن بيعها لشركات بعينها في النهاية يمثل احتكارا غالبا ما تتمتع به شركات غربية تتحكم عن طريقه ليس في سعر المنتج فقط، بل من سيشتريه أيضا مع دخول السياسة طرفاً في اللعبة.
احتكار العرض والطلب
ان عمليات الاندماج والتكتل الذي تقوم به شركات كبرى عابرة للقارات أو متعددة الجنسيات بهدف خدمة أغراضها التوسعية وهيمنتها أو حتى على المستوى المحلي نقلت الفكر الرأسمالي من مرحلة تشجيع المنافسة إلى تشجيع الإحتكار ولو بشكل غير مباشر.
إنها حرب تكسير العظام واكتساح الأسواق مع اعلاء فكر البقاء للأقوى عن طريق الاقتصاد لا السلاح والغزو ومن ثم صار هناك من يحكتر العرض وآخر يحتكر الطلب فما الفرق بينهما؟
احتكار العرض أو البيع يعني سيطرة من قبل شركة أو شخص أو مجموعة على انتاج سلعة ومن ثم التحكم في حركة سعرها في مواجهة المشترين، والعكس تماما فيما يخص احتكار البيع أو الطلب حيث ينفرد مشتري واحد فقط في مواجهة البائعين في طلب السلعة.
وهنا ينبغي الانتباه إلى ممارسة بعض الشركات أو الدول سياسة “الاغراق” في أسواق بلد آخر، حيث تبيع منتجها بسعر يقل عما هو موجود فعلا بالسوق المحلي، وما يتبع ذلك من أضرار واسعة باقتصاد الدول المستهدفة بالإغراق خصوصا فيما يخص تراجع أرباح الشركات المحلية أو افلاسها وتزايد نسبة البطالة مع تسريح عمال وغيره من الآثار السلبية.
لذا تقوم الحكومات بفرض رسوم اغراق بهدف تنظيم عملية تنافس المنتجات المستوردة والمحلية خصوصا اذا ثبت منح حكومة الدولة الأجنبية دعماً لشركاتها المصدرة.
أنواع الاحتكار
الدولة نفسها قد تمارس الاحتكار وهنا يطلق عليه احتكار عاما مثل شركات الكهرباء والمياه وتقوم بهذا الدور في مرحلة ما للحفاظ على تقديم خدمات بأسعار مناسبة حتى لا تتضرر فئات المجتمع المتوسطة وما دونها أو لتضمن كفاءة واستمرار الخدمات، كما يوجد احتكار خاص متى انفرد به شخص أو مجموعة محددة.
ويوجد أيضا احتكارا مطلقاً يتحكم من خلاله شخص واحد فقط في انتاج وسعر سلعة أو خدمة واحدة، والذي ينبثق منه أو يتشابه معه احتكار القلة عندما يتفق مجموعة محددة من البائعين على تنسيق انتاج سلعة ومن ثم توجيه تحرك سعرها ، حيث يؤثر قرارهم بشكل كبير على السوق مثلما تفعل قرارات “أوبك” على سبيل المثال في سوق النفط. كما يوجد أيضا نوع من الاحتكار “القانوني” الذي يطلق عليه حق الامتياز أحيانا، حيث يعطي قانون الدولة لشركة أو كيان الحق في تقديم خدمة أو انتاج سلعة مثل حق لنقل ركاب بالقطارات، توزيع مياه، نقل كهرباء.
مسالب الاحتكار
-يساهم في تعظيم حجم ثروة المحتكر بشكل كبير وفي زمن قياسي مع تحكمه في الأسعار.
-يؤدي إلى ضعف المنافسة وانعدام وجود حافز مع عدم الاهتمام بجودة المنتج المقدم أو الخدمة.
-التحكم في حركة الأسعار يؤثر سلبا على التضخم ومن ثم القوة الشرائية للنقود وترك آثار سلبية على انفاق الفئات الكادحة.
-ضعف أداء القطاع الذي يعمل به المحتكر وامكانية حصوله هلى استثمارات جديدة تساهم في دعم الاقتصاد.
-ضعف دور الجهات الرقابية والمساعدة في انتشار الفساد الاداري والرشاوي ضمانا لبقاء “المنتج الأوحد” مسيطرا على السوق.
وتبقى الاشارة إلى أن الاسلام نبذ الاحتكار وحرمه فلا يعقل أن يستأثر شخص أو شركة بالتحكم فيما سيأكله الناس أو ما هو ضروري لحياتهم، وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قال في الحديث الذي رواه ابن ماجه: من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس.
وجعل الشركات تهتم بالاحتياجات الفعلية للعملاء ورغباتهم ومطالبهم وتجعلها أكثر اهتماماً بخدمتهم بشكل أفضل من الشركات الأخرى وبأسعار أقل. وعلي نقيض ذلك، يعد احتكار السوق احدي العوائق التي تواجهها الشركات والمستهلكين، وهو السيطرة علي مخزون معين أو سلعة معينة من قبل الشركات بغرض الحصول على أكبر حصة من السوق تزيد علي 25% في صناعة معينة، وأحداث تأثير فعال في الأسعار لعدم وجود بديل لهذه الخدمات، مما يعرقل من قدرة الشركات علي التنافس العادل ويؤدي الي اضطراب السوق ورفع الأسعار علي المستهلكين.
ولذلك صدر القانون رقم 3 لسنة 2005 بشأن قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية والذي يطبق من خلال “جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية” ويحرص القانون علي ان تكون ممارسة النشاط الاقتصادي علي النحو الذي لا يؤدي الي منع حرية المنافسة أو تقييدها أو الأضرار بها ورفع وتعزيز ثقافة المنافسة في السوق.
ووفقاً للمادة 5، تسري أحكام هذا القانون علي الأفعال التي ترتكب بالخارج اذ ترتب عليها منع حرية المنافسة او تقييدها في مصر والتي تشكل جرائم طبقاً لهذا القانون
ويحظر قانون حماية المنافسة الأعمال التالية:
- الاتفاقيات بين الأشخاص المتنافسة في السوق المعنية
- الاتفاقيات بين شخص ومورديه أو عملائه اذا كان من شأنه الحد من المنافسة
- الممارسات التي يحظر علي الشخص المسيطر إتيانها
ولا تسري أحكام هذا القانون علي المرافق العامة التي تديرها الدولة ولا على الاتفاقيات التي تعقدها الحكومة لتحديد سعر سلعة أساسية واحدة أو أكثر بناءً على مرسوم من مجلس الوزراء، كما يجوز للجهاز بناءً علي طلب من ذوي الشأن ان يخرج من الحظر بعض الشركات الخاضعة لأحكام القانون الخاص اذا كان من شأن ذلك تحقيق المصلحة العامة أو منافع للمستهلك تفوق أثار الحد من حرية المنافسة وفقاً للوائح والإجراءات التي تحددها اللائحة التنفيذية لهذا القانون.
ان تدهور الأمن الاقتصادي يؤثر على الأمن القومي بالسلب، ويحتاج الى وقفة لدراسة التحديات التي تقابل الاقتصاد المصري وبالتالي الأمن القومي، حيث أن الأمن الاقتصادى مفتقد لدى شريحة كبيرة من المواطنين بسبب الفقر وانخفاض الدخل، فقد تراكمت المشكلات التي يواجهها المجتمع المصري على مدار العقود الأربعة الماضية وكانت سببا لقيام ثورة 25 يناير 2011.
في كتاب "الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي" الذي سعى فيه صمويل هنتنجنتون لتفسير أسباب موجة التحول الديمقراطي حول العالم بعد تفكك الاتحاد السوفيتى، ذكر أن ارتفاع معدلات النمو الإقتصادي قد يكون محفزا لحدوث الثورات. وقد استنتج ذلك من خلال الربط بين ارتفاع معدلات نصيب الفرد من إجمال الدخل القومي وعملية التحول الديمقراطي، وكانت فكرته أن ذلك يسمح بظهور طبقات وسطى متعلمة أكثر وعياً بحقوقها المدنية والسياسية. لكن يبدو أن اندفاع الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي جاء متأخرا الى تونس ومصر وليبيا وغيرها، ربما بتأثير فواعل خارجية وداخلية.
ويعتبر غياب العدالة الاجتماعية أحد أسباب الحراك الاجتماعي الثوري الذي تشهده مصر وبعض الدول العربية. فمبدأ المساواة وعدم التمييز، وتكافؤ الفرص الذي يمثل حجر الأساس في العدالة الاجتماعية، جرى اهداره على مدى عقود، شهدت تغيرات محلية واقليمية وعالمية. ان العدالة الاجتماعية الناتجة عن التوزيع العادل للدخل هي من أهم اركان السلام الاجتماعي.
والنظريات الحديثة فى التنمية وربطها بالحرية دحضت الادعاء القائل بان تركيز الثروات في ايدي قلة قليلة من النخبة تزيد كفاءة الانتاج، بل على العكس وجد ان الحرية والديموقراطية مع التوزيع العادل للدخل قد زود الانتاج بعامل مهم وضح تاثيره الايجابي على النمو الاقتصادي والتنمية في تجارب العديد من الدول الصاعدة في العالم . كما ان اهمية السلام الاجتماعي تاتي بترتيب عالي في هرم الاحتياجات الاجتماعية ربما قبل الحاجة الى الغذاء والدواء .
وهناك علاقة وثيقة بين الأمن القومى والأمن الاقتصادى. فالتهديدات التي تؤثر على الأمن القومي لاتأتي من الخارج فقط، بل قد تنبع من الداخل نتيجة لسوء السياسات التي تؤثر على الغذاء والصحة والتعليم والصناعة، وجميع المجالات الاقتصادية التي تؤدي بدورها لرفع نسب البطالة التي تمثل مشكلة ذات حدين اجتماعية واقتصادية.
ان الفيصل فى تأثير التهديدات الخارجية والداخلية هو ما يُسمى “حد الخطر”، الذي تتحول بعده مشكلة عادية إلى مشكلة أمنية، وبالنظر الى الأعوام المنصرمة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي 2011، نرى تطبيقا فعليا لهذه المهددات الخارجية والداخلية التي أدت فجرت قضايا العدالة الاجتماعية والحرية والسلام الاجتماعى.
وأخيراً، تسعي الدولة الي تحقيق مناخ اقتصادي سليم يقوم على المنافسة العادلة ومبادئ السوق الحر حيث ان تعزيز المنافسة في السوق يعتبر ضمانة أساسية لزيادة الاستثمار وتحقيق الكفاءة الاقتصادية وأهداف التنمية المستدامة.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان