عجبا لأمة ترى مصارعها رأي العين وتقف مكتوفة الأيدي، غير قادرة حتى على أن تتساند وتتعاون لدرء المخاطر المحدقة بها في أحلك أزمانها!! أمة امتحنت في التاريخ ألف مرة لكنها لا تتعظ، وتصر على تكرار مآسيها الكبرى بالسير في طريق الهلاك وهي تعلم مصيرها المحتوم!! أمة خرجت من التاريخ وهاهي تخرج من الجغرافيا رويدا رويدا!!
هذه أمة كتبت نهايتها بيدها يوم وقفت تتفرج على حريق الأقصى ومذابح صابرا وشاتيلا وضرب المفاعل النووي العراقي والسوري وسقوط بغداد وإعدام صدام وحصار عرفات وتدمير غزة وغزو لبنان ثم اقتحام سوريا، ويوم استمرأت الصمت والكمون حين كان يمارس عليها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أسوأ ألوان الابتزاز والإهانة، وبينما كان العدو يسير في طريق التصعيد كانت هي تهبط وتتبعثر وتتشرذم، ولم تقرأ رسائل عدوها جيدا لتعرف أن الخطر الداهم قادم قادم، وأن العدو يستعد لالتهامها جميعا، الصامت قبل المقاوم، والجبان قبل الشجاع، لن يترك منها ثورا أسود ولا أبيض.
وتأتي النذر من إسرائيل وكفيلها الأمريكي محملة بدخان أسود فيه نار، والأمة سادرة في غيبوبة طويلة، قد انفرط عقدها، كل دولة تواجه نارها وحيدة منفردة، مع أنها لو اجتمعت على كلمة سواء وتشابكت أياديها، لكان في مقدورها تغيير واقعها البئيس، لكنها أمة لاهية ضائعة مشتتة.
في الأسبوع الماضي كانت رسالة نتنياهو حاسمة بأنه لا مكان لدولة فلسطينية على الإطلاق، وأن الدولة الفلسطينية فكرة سخيفة من الأساس، فإسرائيل لن تترك غزة، ستواصل احتلالها وستحكمها حكما عسكريا، ولن تسمح للسلطة الفلسطينية بأن تذهب إلى هناك، وستقضي تماما على حماس والمقاومة، وتنفذ رؤية الرئيس الأمريكي ترامب في تهجير سكان غزة.
وفي هذه الرسالة تذكير بأن الهدف الحقيقي للحركة الصهيونية هو تنفيذ التطهير العرقي والإبادة الجماعية، ليس في غزة وحدها، وإنما في الضفة الغربية أيضا وسائر الأراضي المحتلة، وتأكيد لكل القيادات الفلسطينية ولكل العرب أن إسرائيل لم تعد بحاجة إلى تجميل الكلام وإخفاء الأهداف، وعليكم أن تتحدوا في مواجهة هذا الخطر الداهم الذي لن يرحم أحدا، ومن يظن أن نتنياهو سيدمر المقاومة ثم يسمح للباقين بأن يعيشوا في سلام وأمان فهو واهم.
إسرائيل تعيش اليوم مرحلة الاستعلاء والهيمنة، وترى أن بمقدورها تغيير توازنات القوى في الشرق الأوسط، وتغيير الثوابت الجيوسياسية، لتكون لها الكلمة النافذة واليد الطولى في شئون المنطقة، ويتحدث نتنياهو عن الاتجاه إلى تجاوز الفلسطينيين وإقامة السلام مع الدول العربية بشكل مباشر، وعن التطبيع الكامل مع دول الاتفاقات الإبراهيمية وفق المصالح الاقتصادية المشتركة بعيدا عن تعقيدات المشكلات المتراكمة مع الفلسطينيين، وهو بذلك يريد أن يكون التطبيع على حساب القضية الفلسطينية، بما يضمن له تصفية القضية، فالسلام عنده يعني التحالف بين العرب وإسرائيل دون أي حديث عن الاحتلال والدولة الفلسطينية واللاجئين والمسجد الأقصى، والتطبيع عنده يعني التطبيع مع جرائم جيشه.
نتنياهو يتحدث بلسان عنصري متغطرس، يقول إن إسرائيل هي القوة الأكبر في المنطقة، ويتفاخر بأنه دمر 90 % من مقدرات الجيش السوري، وأنه يحضر لحرب على إيران كي يفكك قدراتها النووية حتى لو كانت لأغراض سلمية كما فعل مع العراق وسوريا، لتظل إسرائيل هي الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط .
ونشرت صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية يوم الخميس الماضي مقالا للكاتب آدم سكوت بيلوس قال فيه: “الآن يتحد اليهود والعرب، وترسم خريطة للشرق الأوسط الجديد على يد أولئك الذين اختاروا العقل على التعصب، والكرامة على دور الضحية الدائم، وهؤلاء يواجهون مجموعة من الأعداء أبرزها الحركات الإسلامية المتطرفة، سنية كانت أو شيعية، مثل حماس وحزب الله والحوثيين والإمبريالية العثمانية الجديدة في تركيا، لكن المنطقة تتميز الآن برؤية مشتركة بين إسرائيل ودول عربية تعطي أولوية للأمن على الأيديولوجية، والرخاء الاقتصادي على الفقر والظلم، وبناء المستقبل على هوس الماضي، هذه الرؤية وضعت على أساس الاتفاقات الإبراهيمية التي لم تكن نهاية المطاف بل كانت بداية، واليوم تقترب دول عربية أخرى من إضفاء الطابع الرسمي على علاقاتها مع إسرائيل، بعد أن تخلّت عن مطلبها القديم بإقامة دولة فلسطينية كشرط مسبق، وفي غضون ذلك تعمل القوات الإسرائيلية والخليجية والعربية بهدوء على دمج دفاعاتها الجوية، وتبادل المعلومات الإستخباراتية، والاستعداد للتهديدات الجماعية، وما يُطلق عليه البعض (حلف الناتو الشرق أوسطي) يُشار إليه الآن علنا من قبل القيادة الإسرائيلية باسم (تحالف إبراهام)، وفي هذا الهيكل الأمني الإقليمي الجديد سيكون الهجوم على إحدى دوله هجوما على الجميع، وهذا الهيكل لا يزال هشا ويواجه تحديات، أبرزها محاولات متوقعة من إيران وتركيا وبقايا الحركات الإسلامية لمقاومته، وسعى الدعاية المتطرفة إلى تأجيج المظالم القديمة، ولن تتلاشى الكوابيس المروعة بين عشية وضحاها، ولكن الشرق الأوسط الجديد لم يعد حلما بعد أن صار العرب واليهود في خندق واحد”.
هذا الكلام الخبيث لايمكن الوثوق به إجمالا، لكنه في النهاية رسالة يجري تمريرها لإثبات أن هناك من أبناء الأمة من يضع يده في يد العدو، ويتبرأ من قضيتها الأولى، متصورا أنه بذلك سيكون في منأى عن الخطر وما هو بمنأى عنه، فسرعان ما تدور عليه الدائرة، ويصيبه ما أصاب أشقاءه، وساعتها ـ للأسف ـ لن يجد من يقف معه وينقذه.
