كلما حلت أيام الحج المباركة, نتذكر مسار “المحمل” المصرى, كيف كان يقطع شوارع القاهرة من “دار الكسوة” التى عكف أهلها على العمل طوال أكثر من مائة عام منذ أسسها محمد على باشا عام 1818 بشارع “الخرنفش”!
ونتساءل أيضا: كيف كانت رحلة هذا المحمل تبدأ وسط حراسة مهيبة تليق بالعطية الكريمة, والمعطى إليه, والعاطى؟ وكيف كان أهل مصر يرسلون مع المحمل سلامهم وأشواقهم إلى بيت الله الحرام, طالبين الإذن بالزيارة يوما ما؟, وكيف كان الفنان المصرى يقطع رحلة أخرى قبلها بشهور فى صناعة وتزيين الكسوة؟
هذه الأيام- التى مرت آخر أيامها فى الستينيات, وحكاياتها باقية ولايصح أن تضيع- تستحق إحياء وتقدير ووصل ماانقطع من حرف ومعارف يكاد ينساها من تبقى من أهلها, وهى الأولى بالحفاظ عليها وتوريثها, ففنون إعداد المحمل والكسوة شكلت تجربة فريدة وخاصة لإبداعات المصرى فى فنون الخط, والتذهيب, والتطريز وغيرها, ولايفترض أن تتبدد وكأنها لم تكن, أو فى أفضل الأحوال تبقى آثارها كمعروضات فى زاوية متحفية تضيق على هذا التاريخ مهما كبرت.
أقصد ضرورة إحياء مسار المحمل الذى كان يقطع شوارع القاهرة القديمة طوال ثلاثة أيام, وحسن إعداد محطاته, لتعكس جمال ودقة العملية الإبداعية لإعداد الكسوة, وبقية التفاصيل-التى قد تبدو ثانوية وهى محورية جدا- مثل تفنن القدامى فى إعداد وتدريب “الجمال” التى كانت تتولى نقل الهدية المصرية, وأقصد أيضا إعادة التعريف بدور رموز أهل الحكم, وأهل الفن الذين كانوا وراء هذه الرحلة الفريدة, مما يفتح بابا جديدا للسياحة الداخلية والعربية وربما العالمية.
يوم التاسع من شهرذى الحجة يقف الحجاج على جبل عرفة الذى يعد أهم أركان الحج, واختلف العلماء فى سبب تسمية جبل عرفات بهذا الإسم, حيث وردت عدة أسباب منها أن آدم وحواء حينما أنزلهما الله إلى الأرض, أنزلهما فى مكانين مختلفين, فكان موقع جبل عرفات هو المكان الذى التقيا وتعارفا فيه, كما ورد أن جبريل كان يطوف ابراهيم عليه السلام ويعلمه المناسك, وكان يطوف به فى الجبل , ويردد له قوله:”أعرفت أعرفت”, وكان يرد عليه بقوله:” عرفت عرفت”, وقيل أن الناس يجتمعون فى يوم عرفة على صعيد الجبل, ويتعارفون على بعضهم البعض وعلى ربهم, فهو يوم تتنزل فيه الرحمات, وتعتق فيه الرقاب, وهو من خير الأيام التى يستحب فيها عمل الخير, وصيام ذلك اليوم يكفر سنة ماضية وأخرى آتية لصاحبه, كما تعنى كلمة عرفة المشعر الأقصى من مشاعر الحج, وهو المشعر الوحيد الذى يقع خارج حدود الحرم, وقيل سمى بذلك لأن الناس يعترفون فيه بذنوبهم ويطلبون من الله أن يغفرها لهم, وأن يعفو عنهم, وفى هذا اليوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الدعاء دعاء يوم عرفة, وخير ماقلت أنا والنبيون من قبلى لاإله إلا الله وحده لاشريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شىء قدير, ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا, ولاتحملنا مالاطاقة لنا به, واعف عنا ,واغفر لنا وارحمنا, أنت مولانا, فانصرنا على القوم الظالمين, ربنا وتقبل منا إنك السميع العليم.
ذكر الله فى كتابه الكريم فى قوله تعالى:” وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا إسم الله فى أيام معلومات على مارزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير”, فما هى هذه المنافع؟ لقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه المنافع فى قوله جل وعلا فى سورة الحج بعدما أمر نبيه وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام ببناء البيت الحرام, وذكر بعض المفسرين رحمهم الله المنافع التى تحصل للحجاج دنيوية وأخروية, فمن المنافع الدنيوية التى يلمسها الناس البيع والشراء, ومكاسب أصحاب الحرف التى تتعلق بالحجاج, والحركة المستمرة فى وسائل النقل المختلفة, وفائدة الفقراء مما يدفع لهم من صدقات أو يقدم من ذبائح الهدى والضحايا والكفارات عن كل محظور يرتكبه المحرم, وتسويق البضائع والأنعام إلى غير ذلك, وما فى الحج من التعارف فيما بين المسلمين, أما المنافع الدينية التى تعود على الحجيج بالخير الجزيل من أعمال الآخرة, فمنها التفقه فى الدين, والاهتمام بشؤون المسلمين عموما, والتعاون على البر والتقوى, والدعوة إلى الله سبحانه, والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, والاستكثار من الصلاة, والطواف, وذكر الله عز وجل, والصلاة والسلام على نبيه الكريم, والفوز بما وعد الله به الحجاج والعمار, من تكفير السيئات, والفوز بالجنة, وتنزل الرحمة على عباد الله فى هذه المشاعر العظيمة, وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:” مامن يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة, وإنه ليدنو فيباهى بهم ملائكته فيقول: ماأراد هؤلاء؟رواه مسلم من حديث عائشة رضى الله عنها, وقال عليه الصلاة والسلام:”العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما, والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”(الحج المبرور يعنى لوجه الله بعيدا عن أى مصالح دنيوية), وفى البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:” من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه”.
من الأخطاء الشائعة فى يوم عرفة: النزول خارج حدود عرفة, وبقاؤهم فى أماكن نزولهم حتى تغرب الشمس, ثم ينصرفون إلى مزدلفة, ومن فعل هذا فلا حج له – الانصراف من عرفة قبل غروب الشمس, وهذا غير جائز لأنه مخالف لفعل النبى صلى الله عليه وسلم – التزاحم والتدافع من أجل الصعود إلى جبل عرفة, والوصول إلى قمته والتمسح به والصلاة فيه, وهذا من البدع التى لاأصلة لها فى الشرع, إضافة لما يترتب على ذلك من أضرار صحية وبدنية – استقبال جبل عرفات فى الدعاء, والصح هو استقبال القبلة عند الدعاء.
فى ينايرعام 1937 ميلادية – 1356ذو الحجةهجرية كان المصريون يحجون بالبواخر, ويشحنون معهم سياراتهم, وترافقهم بعثة سينمائية لتصوير مناسك الحج, بينما أغلب أهالى الخليج والجزيرة العربية فى ذلك الوقت يحجون بقوافل على ظهور الجمال, وتلك الأيام نداولها بين الناس!
