أيه! سألتي عن أحوالي وكيف أحيا وهل أنا بخير .
كيف نحيا؟!!
نحن لانحيا هنا بل نهرم ونسمن ونتدهور .
أي خير هذا أي خير!!
هذا ماقاله أنطون تشيخوف على لسان بطل روايته (ابوينتش) الطبيب الشاب للمرأة التي غرق في عشقها كما يغرق نهر بنعومة في مياه المحيط، والتي طعنته في كبرياءه برفضها ذلك الحب الكبير بسخرية وراحت تهرول خلف أحلامها بأن تصبح موسيقية مشهورة فتحلم بما لن يتحقق كما تحلم البراغيث بشراء كلب.
حين عادت نادمة بعد أربعة سنوات درست فيها الموسيقى وضربت على البيانو حتى تورمت أناملها جاءته تبحث في عينيه عن بواقي حب خنقته بيديها يوما وسألت تقول:
_ كيف حالك وكيف تحيا؟ أمازلت تحبني؟
يا أبوينتش العزيز قد خدعت نفسي ، لم أكن مميزة ، لست سوى واحدة من بين آلاف العازفين العاديين.
فأجابها بقوله ذاك ثم تركها ورحل.
هذا مايحدث لنا بعد أن يتم اغتيال أحلامنا.
فقد تحول الطبيب الشاب المفعم بالحماس والحب إلى رجل قاس يلتهم الكثير من الطعام ويدمن العمل ويجمع المال ويصرخ في وجه مرضاه :
_(لاتسألوا أجيبوا عن السؤال فقط )
يسمن ويترهل ويقسو ويهرم .
وفي الجانب الآخر تحولت الحبيبة النادمة من صبية متوردة كأنها لون الربيع إلى امرأة صموت تمرض وتهرم في جذوة صباها.
بالفعل ما أسهل أن نصبح عقلاء بعد فوات الأوان ، فندرك قيمة ماضيعناه ونحن نلاحق سراب في بيداء.
بعد ضياع الأحلام ،بعد الطعنات ننكسر نتهشم إلى أشلاء ،تغدو الروح مشوهة ، فنصبح شيء آخر لايشبهنا.
ندور برتابة كحبات ساعة رملية بينما يتسرب الوقت من حولنا لاتوقظ أرواحنا الراكدة دفء شمس ربيعية ولا رذاذ مساءات تشرين الناعمة.
يغدو الفرح غريبا عنا ،نشاز ،كطلقة مسدس في حفل موسيقي كما قال ستاندل في (صومعة بورما)
لذا نضع أيدينا على أفواهنا ساعة الضحك كعرف متوارث ونحن نردد (ضحكة خير إن شاء الله)
نخشى أن يتسرب الفرح إلى الجسد المهزوم.
فالتجربة مدرس صارم يجري الإمتحان أولا ثم يشرح الدرس.
لكن يمكن سحق الإنسان ولايمكن هزيمته كما يقول همنغواي.
أن تجمع أشلاءك المتناثرة بعد الإنكسار فتلصقها ببعضها بشرف وشموخ مابعد التجربة كما يفعل اليابانيون حين يرممون أناء خزفيا ثمينا بعد الكسر بفن الكنتسوجي kintsugi بملأ الفراغات بمسحوق الذهب الخالص محولين أناء خزفيا عاديا إلى أناء خزفي ثمين مطعم بالذهب أغلى وأبهى عما كان قبل أن يكسر .
إن رممت روحك بذهب التجربة بدل أن ترميها في سلة مهملات الحياة كإناء خزفي رخيص ومكسور ،هذا يعني أنك تجاوزت مرحلة الإنكسار ، لن تكسر بعدها أبدا.
حين نصح الشاعر الأمريكي إرنستون صديقه الشاعر والكاتب الأرجنتيني البصير العظيم لويس بورخيس وكاتب سيرته من أن ينتبه للدرجات وهو ينزل سلم عمارة قديمة في بوينس آيرس خوفا من التعثر والسقوط رد عليه بورخيس بفلسفة عظيمة وهو يرمي لما هو أبعد من السقوط من درجات سلم فقال:
(لاتقلق ،فقد تجاوزت المرحلة التي أنكسر فيها).
_