تقزمت الخطابة العربية في حاضرنا المرئي أيما تقزم، وتناحت عليها سبائك الأحرف في أوجع مأتم، وانحدر البيان الجمعي في ضِحضاح يُؤثم، وبدا الوجوم والوجل على عزوب مجد الضاد من ثالثة الأثافي، سياسي متبختر يتمتم، ودبلوماسي متجهور يتلعثم، ونَشؤٌ ريعاني انبطح للرطن المُطلسم …
ومن صحائف الماضي المُشرق، جئتكم بقبسٍ من عبقٍ يغدق، هذا الصيب الخطابي البلاغي الوابل، لذاك اللوذعي الأحوذي سُحبان بن وائل ….
غريبٌ هذا الرجل عند الذكر وعن المسامع، والأغرب كذلك اسمه نسيج وحده في سواد المجامع…
سُحبان بن وائل أورده ابن حجر العسقلاني في كتابه الإصابة في معرفة الصحابة، كواحد من المخضرمين الذين أسلموا في حياة النبي ولم يروه…
أدرك الرعيل الأول من عهد بني أمية، وبينما كان هذا الرجل خطيباً فائق الفصاحة والتفوه، أراد يوماً أن يُبرهن لمعاوية رضي الله عنه أنه أخطب العرب قولاً وفعلاً…
فأمسك بعصا منذ وقت الظهر ، وأخذ يستمطر سحائب بلاغته، يُطنب ويُسهب، ويسجع ويترصع، ويتبحر في أعماق الضاد ويتقعر… فلا يتتعتع ولا يتضعضع، ولا يتلعثم ولا يتغمغم.. حتى بلغ بمراد خطبته مرامها عند آذان العصر .. فنكسَ له معاوية رأسه، وقال له أنت أخطب العرب، فلم تروقه هذه القلادة، ليقول لمعاوية بل أخطب الإنس والجن، فيُرغم معاوية أن يتوجه بأخطب الإنس والجن …
سُميت هذه الخطبة بالشوهاء، وأخذت هذا الوسم في عمق وطول التراث، وهو مصطلح يحمل ضدين معنى حسن وآخر قبيح، فأدرج البلغاء هذا الخطبة موضع الحسن،، واعتبروها إحدى أشهر ثلاث خطب في التراث العربي قاطبة.. وإن كانت هي أنضرهم فصاحة، وملاحة… قبل خطبة ( العجوز ) لآل رقبة، والخطبة ( العذراء ) لقيس بن خارجة …
كم كان للعرب صولات وجولات، وأمجاد وبطولات، قبل أن ينجرفوا في الذلات، وينحدروا في الآفات..