عند صدور الطبعة الأولى من روايتي (انتحار تكتيكي) أرسل لي صاحب دار النشر صندوقا يحمل نسخي الخاصة من الرواية ،طبعا هذه النسخ عادة تكون إهداءات للأحبة والأصدقاء، أما العدد الكبير من نسخ الرواية يبقى ملك للدار تبيعه ،تشارك فيه بالمعارض المحلية والدولية.
فتحت الصندوق بنظرة حنان تشبه تلك النظرة التي إلقيها بعد الولادة على وجه مولودي حين يضعوه جنب سريري بعد أن أنهض من موت محقق بقدرة قادر ، كنت أحلم كأسد في قفص يحلم بالغابات والبراري والصيد، فإذا بالنسخ خليط من كتابي وكتاب كاتب آخر ،والنبسة الأكبر كانت للكاتب الآخر.
صعقت وأسقط في يدي، اتصلت بمدير الدار ،تحدثنا،أعتذر ووعد بتبديلها سريعا،لكن تلك ال (سريعا)لم تحدث سريعا .
بعد عدة أيام اقترح زوجي علي زيارة خفيفة وسريعة لشارع المتنبي ،كان نهار شتويا،لذا وافقت لأنني لاأحتمل صيف بغداد الجهنمي،اقتراحه ذاك كان بغرض الترفيه عني فهو يعلم عشقي للكتب لكني أحسست انه يخفي سببا إضافيا لتلك الرحلة لم يبينه ،فتظاهرت بال(عبط)،كانت تلك الجمعة تحمل تاريخ ٢/١٤ يوم عيد الحب .
وكما هي (سوالف )النسوان اقترحت عليه أن نحمل صندوق الكتب ال (كوكتيل )هذا لدار النشر مادمنا سنتجول في شارع المتنبي ،ودار النشر هناك ،وافق ،وصلنا ،ركنا السيارة في مكان بعيد قبل الجسر،لم يكن حينها قد فتح مرآب السيارات القريب هناك، وكان علينا أن نحمل صندوق البلاء هذا عبر الجسر وصولا لقيصرية حنش في المتنبي،نظر زوجي في وجهي للحظة ،قال حسنا سأحمله قليلا وبالتأكيد سنصادف عربة نقل خشبية لنقل الحاجيات الصغيرة ،لامشكلة ،احتضن الصندوق على صدره ومضينا،خطوات،نظرات بحث عن عربة ،ماهذا هل اختفت كل العربات من الدنيا اليوم تحديدا!!،
انظر لزوجي نظرة أرنب يبحث عن جحر ليختبئ فيه ،وأبتسم بلطافة،فأراه يخطو والصندوق البغيض يقطع أنفاسه، لكنه يلتفت لي بين حين وآخر وعلى ثغره نصف ابتسامة ،(يبدو لي أنه كان يشتم في سره ثم يبتسم).
،وصلنا حيث قيصرية حنش ،رمى زوجي صندوق الكوكتيل على أرضية مكتبة دار النشر رافعا كفه يجفف عرقا تصفد على جبهته مادا كفه الأخرى لمصافحة صديقنا صاحب الدار وصندوق البلوى هذا .
اعتذر الرجل مرة أخرى عن الخلط الذي حصل ،قدم لنا القهوة ووعد بإرسال النسخ الصحيحة هذه المرة (سريعا).
ودعناه وخرجنا وأنا أحمل عشرة نسخ في يدي لأصدقائي الذين ينتظرون مني الوفاء بوعدي ،لكن في باحة القيصرية استوقفني ثلاثة قراء ،ألقوا السلام بحب كبير ثم طلبوا تلك النسخ التي في يدي،قلت في سري لابأس عشرة تنقص ثلاث، لامشكلة فهم قرائي وأعزاء ،وقعتها وأهديتها لهم ،ودعوني شاكرين،بعد ثلاث خطوات في داخل القيصرية اعترضت طريقي شابة تحمل مكريفونا يرافقها مصور يحمل كاميرا احترافية تقف على ساقين سوداوين وقد فجرت في وجهي ضوء أعمى بصري ،قالت ،دكتورة من فضلك نحن قناة (..)الفضائية وتعلمين اليوم هو عيد الحب ،نريد منك كلمة للناس بهذه المناسبة ،نظرت خلسة لزوجي ففهم النظرة واومأ برأسه كإشارة تعني(موافق ،حسبي الله ونعم الوكيل،سأنتظر ولكن أكملي هذه الترهات بسرعة من فضلك).
عندها ثرثرت وتفلسفت لخمسة أو عشرة دقيقة أمام ذلك الضوء الوقح الذي منع عني الرؤيا، أخبرتهم، لنستغل فكرة عيد الحب الضيقة هذه وننشر ثقافة المحبة بيننا بدل الكراهية فللحب مفهوم وأفق واسع ،غير محدود أو معدود كالكون كالمجرات ، شكرتهم واتجهت صوب زوجي وأنا أؤكد له ألا مزيد من الوقفات سننهي جولتنا ونذهب لتناول السمك في مطعم على ضفاف دجلة الخير بعد قليل ،(كانت خطته جولة سريعة في المتنبي ثم غداء وسمك ونهر ).
أمسكت بكفه وسرنا وذراعي الأيمن يحتضن النسخ السبعة المتبقية .
اربعة خطوات أخرى واستوقفنا صديق إعلامي،سلام،كلام،أريد نسخة،إهداء ،شكرا،واستأنفنا المسير ،خمس خطوات، ثم ثلاثة شباب بعمر ولدي البكر من أصدقائي القراء ،مفاجأة رائعة دكتورة ،لم نرك منذ زمن،اهاا هذه رواية جديدة ،بالتأكيد هذه نسخ لنا؟ ،وقعت إهداء ،شكرتهم شكروني ،وسرنا ،لم يتبق لي سوى ثلاث نسخ ،ولاأعرف متى سيأتي ذلك المد ال (سريع)لبقية نسخي من دار النشر .
زوجي ينظر لساعة يده ،يقول لقد بدأت معدتي تطحن جدرانها،هيا أسرعي لقد جعت،أبتسم له وانظر لعينيه نظرة استعطاف وأخبره بطلبي لوقفة قصيرة أمام مكتبة كذا ،أريد شراء بعض الكتب ،يتأمل في وجهي والحيرة تطوف على محياه ثم يقول:
(ماقصتك ! ستكتسح الكتب غرفة نومنا ولن نجد مكانا لننام فيه بعد اليوم ،متى ستقرأين كل تلك الصفحات ياكارثتي الجميلة).
اتظاهر بالبراءة وأنسى جريمتي قبل قليل حين ورطته بحمل صندوق ثقيل من (كوكتيل كتب) جثم على صدره لربع ساعة تقريبا وأهمس بنعومة القطة (خمسة كتب فقط ،لن اتأخر فأنا أعرف عما أبحث ،ثق بي)
أدخل المكتبة أختار أربعة كتب لم أخطط لشرائها أساسا ،ثم تقودني قدماي لحشر نفسي في مكتبة ثانية وثالثة أصحابها أصدقاؤنا ،سلام،ثرثرة،أشتري عناوين متفرقة لم تكن على لائحتي التي خططت لها .
(هكذا نحن النساء ندخل السوق وقرارنا هو شراء فستان ضروري لسهرة قريبة مع قميصان وسترة (ملابس رسمية ) للعمل ،وبعد ساعة دوران مكوكية نخرج بأكياس تضم حقيبة تسمرنا أمامها وحذاء عشقناه من أول نظرة وعطر كنا نبحث عنه طويلا ،ثم نعد أنفسنا بزيارة ثانية للسوق لنشتري ماأتينا ابتداء لشراءه)
اخرج من المكتبة أحمل كيسا كبيرا تنحشر فيه كتبا يغريني عطر أوراقها، أشمه كالمدمنة على المخدرات، ،زوجي ينظر لحملي الثقيل ولساعة يده ،الساعة شارفت على الواحدة والنصف من بعد الظهر،بطنه عصافيرها نزقزق ،معدته تهضم عصارتها،وعليه أن يحمل عني أكياس الكتب الثقيلة التي ورطت نفسي فيها ،ثم علينا أن نقطع الجسر سيرا على الأقدام حيث ركنا سيارتنا .
نعم رياضة المشي جميلة لكن بعد حمل صندوق بوزن ثمانية كيلوغرامات أو أكثر وصعود سلالم مثلمة الدرجات وتجوال ودخول مكتبات وخروج منها وثرثرات وبطن خاوية و(سمك مسكوف) علينا أن ننتظر ساعة أو اكثر حتى يجهز وقبل هذا علينا أن نسافر في رحلة زحام نحو المطعم الموعود ،عندها سحب زوجي الأكياس من يدي ،شزرني بنظرة غريبة ،ابتسمت كأرنب بريئ لطيف،سار أمامي ولم ينتظرني ولم يأخذ كفي في كفه كما تعودنا أثناء سيرنا في الشوارع ،تبعته وقد خيل ألي أنه يصفر ويدندن بأغنية أحمد سعد
(اختياراتي مدمرة حياتي اختياراتي مدمرة حياتي كدة ليييه)
حضر السمك أخيرا ،بدأ زوجي يتناول لقيماته ويختلس النظر إلي وهو يعلم أنني لاأجيد (تفليس)السمك جيدا وغالبا اضع اللقمة في فمي ثم أبدأ باستخرج عظام دقيقة جدا من لقمتي ولحسن شكي في نفسي لرقد العظم في حلقي ومت مختنقة ،لذا اضطر زوجي لسحب العظام من السمك ووضع كومة من اللحم الآمن في طبقي ليتخلص من مأزق وقصة حزينة بعنوان (موت زوجة في يوم عيد الحب مختنقة بعظام سمكة)
سفر آخر في زحام شوارع بغداد ثم عدنا لمنزلنا بسلام نحو الخامسة عصرا ،رمى زوجي جسده المنهك على السرير ، جلست بجانبه وقد أخرجت دفتر هلوساتي ورحت أخط فيه كلمات غزل شفافة كخاطرة ثم قلت :
(شوف كتبت عنك أحلى خاطرة ،اااه ما أجمل أن تعشقك كاتبة).
نظر في الدفتر ،قرأ ،قال ،خاطرة سيئة ،ولن أحمل صندوق كتبك مرة أخرى ،وحذار أن تشتري كتبا جديدة ،هيا ناميييييي)
وأدار ظهره لي واستغرق في قيلولة عميقة .
نظرت إلى السقف بعينين دامعتين ،قلت، لقد كان زوجا حنونا في الصباح فلماذا صار عنيفا بعد رحلة خمس ساعات في شارع المتنبي !!،
فرحت أنا الأخرى اردد بهمس أغنية احمد سعد كي لايسمع زوجي صوتي ويستيقظ ، وانا أشعر بظلم كبير وإجحاف واضح ،أنا الزوجة اللطيفة المسكينة (هو أنا مكتوب على وشي ،تعالى أجرحني وامشي،اختياراتي مدمرة حياتي اختيارتي مدمرة حياتي كده لييه)