بيني وبين القاهرة، (تأسست عام 969 م)، قصة عشق راسخة في أكرم أركان القلب، فقد ولدت في شبرا البلد، وقضيت صباي الأول في مدارس شبرا، ثم التحقت بكلية الفنون الجميلة بالزمالك عام 1979، أرقى أحياء القاهرة في ذلك الوقت،
ومنذ 1977 وأنا شبه مقيم في قلب القاهرة بجناحيها الأوروبي والإسلامي، أي ما يسمى بوسط البلد، الذي أسسه الخديو إسماعيل (1863/ 1879) ثم امتد شرقا وغربًا، وهذا هو الجناح الأوروبي،
أما الجناح الإسلامي، فيشمل أحياء الأزهر والحسين والحسينية وباب الشعرية والسيدة زينب والخليفة والدرب الأحمر والقلعة إلى آخره.
ولما قست القاهرة بشدة على شبابها في زمن مبارك، غضبت من تلك القسوة وكدت ألعنها، فلما سكت عني الغضب سامحتها، وانتهزت فرصة أن جاءتني دعوة للعمل في دبي فغادرت العاصمة العتيدة في يناير 1999، باحثا عن حياة أكرم في مدينة أخرى.
ومع ذلك لم تنقطع الأسباب لحظة بيني وبين معشوقتي المتفردة، فكان لا يمر أكثر من ثلاثة أشهر، إلا وقد لبيت نداء الحب، فحلقت عائدًا إلى الحبيبة الغالية، وقد امتلأ وجداني بأنهار الغرام للعاصمة الفريدة التي سكنت القلب والعقل والروح.
هكذا قضيت عدة أيام مؤخرًا في قاهرتي العزيزة، التقيت الأهل والأقارب والأصدقاء والأحباب والتلاميذ. سألت واستفسرت. سمعت منهم كثيرًا، وتحدثت إليهم قليلا.
تجولت وتأملت وفرحت، لكن لم تكن الفرحة صافية ولا نهرها عذبًا طوال الوقت، إذ لمست الهم يسكن جفون الناس، من فرط الغلاء المذل، وقلة الحيلة وانسداد الكثير من نوافذ الأمل.
عدت بذاكرتي إلى تاريخ القاهرة الحديث، منذ محمد علي باشا (1805/ 1848) حتى الآن. حاولت أن أعثر على لحظات تاريخية مرت بنا طوال أكثر من قرنين تشبه لحظتنا الراهنة بتناقضاتها وضبابها.
عثرت على بعضها، وتيقنت أن عبقرية المصريين تكمن في قدرتهم على هضم كل ما هو مشين وسلبي وبائس لفترات قليلة ثم سرعان ما يلفظونه بقوة.
وأدركت أيضًا أن الجور والضيم والهم… كل ذلك لن يتمكن من إفساد حياة الملايين، بل سينمي لديهم مهارات جديدة تعزز قدراتهم على تجاوز المحنة والانتصار للعدل والحرية والجمال.
في القاهرة أنت في حضرة المدينة الحديثة بكل معنى الكلمة… مدينة كاملة الأوصاف. إذا أردتها مدينة سياحية استجابت لك، فالآثار الباذخة متناثرة هنا وهناك. وإذا أردتها مدينة صناعية استجابت لك. وإذا أردتها مدينة تجارية استجابت لك، وإذا أردتها مدينة ثقافية وفنية استجابت لك.
أما إذا أردتها مدينة (الدم الخفيف) فهي الأولى في العالم، فلا يشبه خفة دمنا نحن المصريين أحد، لا قديمًا ولا حديثًا، والقاهرة مستودع خفة الظل في العالم كله، فلا يوجد مصري واحد إلا وله من خفة الدم نصيب،
ولعل ما يجري في عروقنا من أنهار (خفة الدم) هذه هي التي تجدد شباب القاهرة وأهلها، وهي التي تحميهم من بؤس الأيام وظلم لياليها.
بالقاهرة ومعها أنت في حضرة الجمال والتاريخ والبسمة المشرقة التي تضيء قلوب الناس، وما أرقها من قلوب.