إلي أين يتجه العالم.. مع هذا الكم والكيف من المستجدات والمتغيرات والتحديات المادية والنفسية.. وما هي ملامح مصير أبناء المعمورة في ظل عالم النفعية المطلقة، المجردة من المبادئ والقيم ومن مختلف القواعد الحاكمة التي تحدد أطر التعاون البناء ومحدداتالتعايش الإيجابي ؟!.وما موقع الكيانات العربية والإسلامية وسط هذا الزخم الكبير، وبين أطراف هذه المعادلة الصعبة، التي تزداد كل يوم تعقيدا وتشابكا وتداخلا مع قضايا وتحديات تنموية ومجتمعية وحضارية..
إنها تساؤلات حائرة ،وتستقبل كل يوم قائمة من التساؤلات الجديدة، تبحث جميعها عن إجابات شافية ومقنعة!.
وبالنظر للواقع بموضوعية ففي الأفق تلوح علامات ومؤشرات مظلمة وضبابية.. يكتنفها الغموض والقلق من المستقبل.. فالحقيقة علي المستوي الأممي أصبح لها وجوها كثيرة وسرديات الأحداث لها صور متعددة تحكمها التوجهات والقناعات..كما أن الأطر القيمية العامة والقواسم الإنسانية تتعرض للنحر المنظم يوما بعد يوم، في عالم يتجرد كل يوم من محصناته، ويخلع تدريجيا رداء الستر والعفاف!.
وبعيدا عن مقترحات المستشرق اليهود “برنارد لويس” وتوظيف وهم الديمقراطية للسيطرة علي دول الشرق الأوسط ونبوءات “كونداليزا رايس” لنشر الفوضي الخلاقة وإتمام مخطط تفتيت الدول وتدشين ملامح الشرق الأوسط الجديد.ومن القراءة المتفحصة للأحداث وتداعياتها وأبعادها علي كوكب الأرض خلال السنوات القليلة الماضية، فإن استراتيجية تغيير وجه العالم تقودها قوي متعددة الجنسيات لإحكام الهيمنة والسيطرة وتحديد مصير العالم، وفقا لأهوائها ومصالحها. وتعتمد علي تأجيج الصراعات بكافة صورها، وسلاحها الفعال إضعاف الكيانات الإقليمية، استنزاف الثروات والموارد والطاقات، وتمييع الهوية الوطنية، ونشر ثقافة التمرد علي القيم الدينية والمجتمعية، ورفع درجة التطلعات دون إنتاج فعلي مع تعزيز القيم الشرائية والاستهلاكية!.
وأصابع الاتهام تشير لتورط هذه القوي النفعية في التخطيط لهذا التغيير المقصود، والتقت مع طموحات قوي غربية للإبقاء علي ما بينها وبين الدول من مسافات حضارية.
وقد نالت استراتيجية تغيير وجه العالم مناطق عديدة في مختلف أرجاء المعمورة وكان النصيب الأكبر لها بدول الشرق الأوسط ومن أهم صورها:-صناعة أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية وصحية لها أبعاد دولية.-غرس التنظيمات الإرهابية والدينية واستنزاف جيوش منطقة الشرق الأوسط لإضعاف القوة العسكرية عبر توريطها في حروب مفتعلة وغير مجدية.-نشر الفوضي الخلاقة وإزكاء روح العداء.-إطالة أمد النزاعات الإقليمية كما هو حادث في أوكرانيا وفلسطين والسودان، وسوريا واليمن وغيرها.-ومن التأثيرات المؤلمة الإضرار بطرق مباشرة وغير مباشرة بالبيئة الطبيعية التي مزّقتها الحروب، ومخلفات العمليات العسكرية.
ويحدث الخلل والتمهيد التدريجي لهدم الاوطان من الداخل مع طغيان القيم المادية وتعزيز روافدها في مقابل إضعاف القيم الروحانية والمعنوية.ولعل هذا ما ألمح إليه الفيلسوف اليونانى “أرسطو” منذ عهد الحضارة الإغريقية وبجانب ما دشنه من مجالات معرفية مهمة، فإنه جعل من الأخلاق «Ethica» علما مهما، ثم انطلق إلى تدشين علم المنطق «Logic» ليضعهما تاجا فوق رؤوس كل مجالات وأدوات المعرفة الأخرى، مثل علم الطبيعة «Physica»، وما بعد الطبيعة «Metaphysica»، وعلم النفس «Psychologia»، والسياسة «Politica»، إلى آخر هذه العلوم. ومقصد “أرسطو”، ودعاة الإصلاح والتكامل الحضاري أن منظومة القيم والأخلاق والمبادئ وما يتفق مع العقل والمنطق فضائل جوهرية تتأسس عليهما كل أدوات ومجالات العلوم والتقدم والازدهار، ومن دونهم لن تكون هناك حضارة تترسخ وتتجذر فى عمق التاريخ، وإنما بديلها الفوضى والخراب والدمار.فإذا ما أراد الأعداء والخونة والمتآمرين هدم وطن من الداخل، فما عليهم إلا تدمير القيم الأخلاقية، وتخريب الضمائر، وهو ما أكده “توماس شومان”، عميل جهاز المخابرات السوفيتى السابق «كى جى بى»، الذى شرح بالتفصيل خطوات تخريب المجتمعات، موضحا أن المجتمع المستهدف تخريبه وتدميره، حتى ولو كان متمتعا بديمقراطية راسخة، يبدأ الأعداء فى البحث عن عديمى الضمير والقيم الأخلاقية، ومتعددى الولاءات، وعن المجرمين البسطاء، والمختلفين سياسيا وأيديولوجيا مع الدولة، وبعض المضطربين نفسيا المعادين لكل شىء، علاوة على مجموعات صغيرة من عملاء الدول الأجنبية، يتم تجميعهم فى بوتقة واحدة، وتحريكهم فى اتجاه واحد، وبقوة دفع واحدة، وما هو إلا وقت قليل، حتى يبدأ المجتمع فى الانزلاق التدريجى فى مستنقع الفوضى. وعندها يبدأ المغرضون فى الترتيب لبدء مراحل التخريب، وأبرزها كما يشرح عميل المخابرات الروسى “توماس شومان” «مرحلة تدمير الأخلاق» بمنح الضوء الأخضر للمجموعات السابقة، للسير عكس كل القيم الأخلاقية، وانتهاك شرف المنطق والحكمة، ولا يعلو صوت فوق أصوات الاخلاق القبيحة والشتائم البذيئة، وتخريب الذمم والضمائر.وإضافة لهذا لن يتسنى نجاح تدمير القيم الأخلاقية، إلا بتشويه وتدمير القيم الدينية، والتشكيك في ثوابتها واحياء النعرات الطائفية، وإشعال نار الفتنة بينها، ثم يتم الدفع بجماعات وتنظيمات ترتكب من الخطايا ما يسهم بشكل فاعل فى تشويه الدين، والنفور منه، وتشويه الكيانات الدينية الراسخة المنوطة بالدفاع عن صحيح وجوهر الدين.
ومن أسوأ مقابح وآفات هذه الموجات تسليم الكثيرين للأمر الواقع، واستعدادهم لتقليد هؤلاء النفعيين والمرجفين تحت شعار مواكبة العصر و”خليك مع الموجه..هو انت هتصلح الكون”!.
ومع أهمية الوعي بخيوط المؤامرة الكونية لتغيير خريطة العالم والعبث بمقدراته المادية والبشرية وإهدار ثرواته، تأتي فكرة التحصن وإصلاح النفس، وإعلاء القيم الفردية باعتبارها المرتكز الأساسي لبناء القيم الجمعية الإيجابية.
وفي محاولات للتحصن من مغبة الانزلاق في مستنقع اللاقيم ظهرت دعوات جادة لمراجعة منظومة القيم وما شابها من تأثيرات سلبية نتيجة هذه الثقافات الواردة ومردوداتها الإجتماعية، التي تهدد استقرار الأسرة والمجتمع وتعمل علي غرس روح التمرد لدي الأجيال الجديدة.
واتفق تماما مع من يرون أن مفهوم إصلاح النفس أهم أدوات إصلاح وتطور المجتمع فى ظل التحديات الاجتماعية والنفسية التى تواجهها مجتمعاتنا العربية.
ومن هنا تأتي أهمية رفع الوعى النفسى لدى الأفراد من خلال برامج توعوية وإعلامية حول الاضطرابات النفسية التى قد تعوق فكرة التصالح مع الذات، وكذلك ضرورة رفع الوعي لدي المتلقي من خلال نشر ثقافة التربية الاعلامية والوطنية لتحقيق تحول إيجابي في إدارة الأفراد لعلاقاتهم المختلفة.ولا ريب أن لمنصات الإعلام والأسرة والمؤسسات الدينية والمجتمعية مهام خاصة لتصحيح المسار في هذا الشأن وفى توجيه قيم إصلاح النفس وتهذيبها وتحلى الأفراد بالأخلاقيات القويمة المحصنة من النكبات والملمات.
وفي هذا السياق التربوي التوعوي الراقي نقطف من بستان النبوة:عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهُ – صلى الله عليه وسلم -: “لا تَكُونُوا إِمَّعَةً “، تَقولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا”. رواه الترمذي.