أتخيل أن الكثافة البشرية هي أبرز سمات مصر على مر التاريخ، فحضور الناس في الأرض طاغٍ من عصر لعصر ومن قرن إلى آخر، فلا يمكن أن نتحدث عن مصر دون أن نتكلم عن ناس مصر وأهلها،
ففي عام 1900 كان عدد المصريين نحو عشرة ملايين نسمة، وهو رقم ضخم بمقاييس ذلك الزمان.
لذا، فأينما وليت وجهك هناك دومًا أناس يعملون ويكافحون ويتحركون في هذا المكان أو ذاك كما لاحظ جمال حمدان في موسوعته الشهيرة (شخصية مصر)،
لكن في الأعوام الأخيرة اختل التوازن بشدة بين البشر والمكان، فازدادت الكثافة البشرية بشكل مخيف، فانعدم أو كاد الفراغ المطلوب الذي يحتاجه كل فرد كي ينعم بالأمان النفسي ويستمتع بحرية الحركة،
فأضحى الزحام عنوانا بائسًا في المدن الكبرى، فالتكدس البشري وصل إلى مستوى مؤسف في ربع القرن الأخير،
فعدد سكان مصر بالداخل في 4 مارس 2021 بلغ 101 مليون و579 ألفا و103 نسمة كما أعلنت الساعة السكانية بالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
هذ العدد الكبير محروم من وجود أمكنة كافية لاستيعاب الملايين، وبالتالي يغدو تكوم الناس في أماكن محدودة بمثابة أمر واقع محزن، فالشوارع ضيقة والغرف ضيقة ومقرات الأجهزة الحكومية ضيقة والباصات ضيقة والجامعات ضيقة والمدارس ضيقة.
كل شيء في مصر ضيق وخانق إلا ما ندر، الأمر الذي نتج عنه ما يسمى بـ”ثقافة الزحام”، تلك التي تفجر في المرء أسوأ سلوكياته وأكثر انفعالاته غلظة وخشونة.
من تجليات “ثقافة الزحام” سأقص عليك واقعتين حدثتا لي في الأيام القليلة الفائتة، الأولى في القاهرة، والثانية في الأسكندرية، لترى بنفسك كيف دمّر الزحام أبسط قواعد النظافة والتعامل اللائق.
كنت أتناول الشاي قبل أيام في كافيتريا مسرح الهناجر بدار الأوبرا، ولما ذهبت إلى الحمام لاحظت عدم وجود صابون أو مناديل،
فلما سألت عن السبب قالوا لي بثقة ودون أدنى أي إحساس بأن ثمة مشكلة: (لا نستطيع أن نوفر المناديل والصابون لأنها تنفد سريعًا بسبب كثافة من يرتادون الحمامات، وما خصصوه لنا في شهر يتبخر في أسبوع).
ثم أضاف أحدهم: (إن بعض الناس تسرق زجاجات الصابون) وهكذا قرروا أنهم لن يزودوا الحمامات بما تحتاجه إلا للضرورة القصوى!
أما الآن، فتعال معي إلى الأسكندرية لأحكي لك نبأ الواقعة الثانية المؤسفة، حيث اصطحبت ابني باسم إلى أحد المطاعم الشهيرة التي تقدم (الكبدة الأسكندراني)، فأدهشني الإقبال الشديد على المطعم في وقت العاشرة مساء،
فالناس مكتظة ما بين جالس وواقف ومتربص ينتظر خطف مقعد ليجلس عليه، فقلت لابني: (يبدو أننا سنتلذذ بطعام شهي)،
ولما استطعت بصعوبة الحصول على ترابيزة، طلبت من الجرسون إحضار مناديل لنمسح آثار الطعام، فتعجب من كلامي بشدة وقال بثقة ودون أدنى شعور بأن هناك مشكلة: (لا توجد مناديل)،
ثم ألقى نظرة سريعة على زبائن المحل الجالسين والواقفين، وصاح محتجًا: (كيف تطلب مني توفير مناديل لكل هؤلاء؟).
انتهت القصتان، ولم تنتهِ التجليات المؤسفة لما يسمى بـ”ثقافة الزحام”، فحسب علمي لم يحدث أن مرّ على مصر حين من الدهر تعاملت فيها بكل هذا الاستخفاف بمسائل النظافة في مسرح معتبر ومطعم شهير،
ولم يحدث أن تصدى العاملون في هذه الأماكن للدفاع بقوة عن الحق في حرمان الزبائن من استخدام المناديل.
باختصار… علينا أن نبتكر حلولا ناجعة سريعة للتخلص من ظاهرة التكدس البشري المرعب وما ينتج عنها من كوارث ومصائب،
فليس معقولا أن يعيش 100 مليون إنسان في أقل من 10% من مساحة مصر المحروسة!
لك يا مصرُ السلامة وسلامًا يا بلادي.