تحت عنوان “الأمن الفكري بين الفلسفة والإجرائية.. صيانة العقول منهج الإعمار والتنمية” صدر مؤخرا كتاب جديد من تأليف الدكتور عصام محمد عبد القادر أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس بكلية التربية بنين بالقاهرة جامعة الأزهر.
الكتاب يعد اضافة نوعية للمكتبة العربية، وصدر عن دار التعليم الجامعي بالإسكندرية.
وعبر سطور الكتاب يقول المؤلف:
إن سلامة الفكر تمد الإنسان بطمأنينة النفس؛ فيشعر بالأمان والرضى بين مجتمعه، ولا تتراكم في وجدانياته ما يثير لديه خوف، أو وجل، أو خشية، أو فزع من أمور أو مجريات أحداث بغض النظر عن مرورها أو استدامتها، وحينئذ ينشغل بإعمال الذهن كي يمارس ما يفيد به نفسه ومن حوله، بل ومجتمعه قاطبة، ويتحقق لديه بأن النسق القيمي النبيل المنسدل من معتقده الوسطي المعتدل الخالي من كل مشوب يشكل منهجية حياته، ومن ثم يشارك في حمايته ويحارب ويتصدى لكل محاولات تبتغي النيل من مقدرات وطنه البشرية والمادية على السواء، وفي خضم ذلك تصبح الحياة مستقرة مبهجة يعلوها الأمل والتفاؤل والرضا.
ويؤكد المؤلف على أن محاولات طمس هوية الأمة وتكسير ثوابتها وتفتيت نسيجها منهج تتبعه نفوس بات المرض يتملكها؛ فقد أضحت مناشط الغزو الفكري تقرع الأبواب وتعمل بطرائقها الخبيثة لتضير العقول وتبتليها ببنى معرفية مشوبة؛ ليحدث الانحراف الفكري؛ فلا مقام ولا منزع عندئذ لثقافة وسلوكيات وتقاليد شكلتها حضارة الأمم على مر تاريخها وكفاحها؛ فما نسميه مكتسبات الوطن ليس بمحل اهتمام وتقدير وتعظيم من قبل أصحاب الفكر المنحرف، وهذا ناقوس خطر يجعلنا متيقظين لدينا من الأدوات والآليات الفاعلة التي تسهم في دحر الغايات غير الحميدة من ذوي النفوس غير السوية.
ويشير المؤلف إلى أن ثمرة الأمن الفكري ممتدة وحصاده مستدام؛ فلا إعمار ولا بناء ولا نهضة ولا بقاء لكيانات الأوطان ولا عدالة ننشدها ولا قيم تحض على سلوك محمود نرجوه ولا مستقبل نترقبه ونتطلع من خلاله لحياة كريمة بعيدًا عن هذا المفهوم في صورته الإجرائية وليس عند حد التنظير له؛ فقد بات على الدولة رعاية أمر الوقاية من الانحراف الفكري بصورةٍ ممنهجةٍ، تقوم على خطةٍ استراتيجيةٍ تنفذها كافة المؤسسات الرسمية منها وغير الرسمية.
ويرى المؤلف أن مرحلة الوقاية من الانحراف الفكري أهم مرحلةٍ تستدعي العناية والاهتمام والمتابعة والتقويم المستمر؛ حيث إنها تمكننا من الوقوف على واقع الأمر والتثبت منه؛ فنعمل على تحرى سلامة الفكر لدى أبنائنا بمراحل العمر المختلفة، على الدولة، وبصورةٍ مقصودةٍ ينبغي أن تحشد الطاقات وتوفر سُبل الدعم اللوجستي التي تعين على تحقيق برامج الحماية والوقاية من هذا المنزلق الخطير الذي قد يطيح بمؤسسات الدولة، ويذهب بنهضتها دون رجعةٍ؛ فإسهام هذه المرحلة يعتمد على الكشف عن البُنى المغلوطةٌ في كل مكونٍ من مكونات الجوانب العقيدية، أو النفسية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السياسية، أو العلمية، أو البيئية، أو الصحية، أو الثقافية، أو غير ذلك من الجوانب، ومن ثم يسهل تصحيح نمط الفهم الخطأ في مرحلة الوقاية من الانحراف الفكري.
ويتابع المؤلف بقوله أن من المراحل المهمة في تناول قضية الأمن الفكري المرور بمرحلة الحوار في صورته البناءة التي تشير إلى تفاعل يسمح بتبادل الرؤى والأفكار والآراء بين طرفين أو أكثر، ويرتكز في مجمله على الشفافية والتوافقية حول الصالح العام، ويعتمد في إنجاحه على أسس وآداب متعارف عليها، ويستمد مقوماته من هدفه السامي؛ ليتحدد عبر نتائج المناقشات تفاصيل القضية محل الخلاف أو الاهتمام، ومن ثم التوصل إلى الصورة الصحيحة التي لا يراها الطرف المعني بالحوار، ومن ثم يسعى لتصويب معتقداته وأفكاره حال قناعته بمفردات وتفاصيل الحوار.
وفي هذا السياق يؤكد المؤلف على أهمية انتهاج المعيارية التي تضمن نجاح مرحلة الحوار البناء في معالجة الفكر المنحرف أو المشوب؛ حيث مراعاة الأسس والآداب المتعارف عليها التي تمكننا من أن نحدث ما يعرف بتكامل الرؤية تجاه القضية محل الاهتمام؛ وحينئذ نتمكن من سد الفجوات والثغرات وإزالة الشوائب التي تدور حول فكرة بعينها، وعندما تصير الرؤية شاملة يؤدي ذلك حتمًا لنقطة التفاهم التي تشكل الوعي في صورته السليمة بعد المرور بعدة مراحل تبدأ من تحديد القضية وتمر بحصر نقاط الخلاف وصولًا لمرحلة التصحيح بعد المقارنة بين ما هو خطأ وصحيح؛ حيث يحدث ما يسمى بالصراع الداخلي الناتج عن التناقض المعرفي، وفي نهاية المطاف نقف على الحقيقة المجردة، وهي غاية الحوار ومنشوده.
وذكر المؤلف أن الأمن الفكري يقوم على ماهية الإجماع، ويتنافى مع أحادية الفكر؛ لذا تشكل مرحلة الحوار البناء مسارًا فاعلًا في تحقيق الأمن الفكري، ومن ثم أضحت لغة الحوار مقومًا رئيسًا من مقومات تحقيق الأمن الفكري؛ حيث تعمل على تعزيز التفاهم بما يؤدي بشكل طبيعي إلى خلق بيئة تساعد على القبول والتسامح، ويسهم في دحر مداخل التعصب والعصبية لدى طرفي الحوار؛ فيصبح اهتمام الفرد متمحورًا حول البحث عن الحقيقة، والمعالج مركزًا على تصويب نمط الفهم الخطأ الذي أكد الفكرة غير السوية في ذهن هذا الفرد.
ويشير المؤلف إلى أنه عندما نواجه فشلًا في نتيجة الحوار مع الفئة المستهدفة، يحتم ضرورة اتخاذ الإجراءات والتي بها نحافظ على أمن البلاد القومي، ونؤكد على أن حدوث ذلك يتأتى بعد استنفاذ كافة المحاولات التي تتضمن أساليب وطرائق المواجهة المختلفة والمستهدفة لتصحيح الفكر المنحرف، من قبل المؤسسات المعنية بهذا الأمر ووفق ضوابط ومراحل وخطوات تعمل على إقناع الطرف الآخر بالعدول عن انحرافه.
وتابع المؤلف: أن فلسفة التقويم أضحت غاية في الأهمية؛ لأنها تشير إلى طريق العلاج الذي يجعلنا نصل لمرحلة الاستقرار وتعضيد الأمن الفكري في البلاد؛ فلا نترك أصحاب الفكر المنحرف في منعزل بعد تقييد حركتهم؛ إذ ينبغي أن تقدم لهم البرامج العلاجية التي تستهدف دحر أفكارهم غير الصحيحة، وفق مبدأ المحاججة؛ لنصل إلى حالة الاقتناع، ومن ثم تعديل المعوج من هذا الفكر، ولو استلزم ذلك جهود مضنية وعقود من الزمن.
وهناك ناقوس خطر يقرع مسامعنا ويحضنا أن نلتفت بشكل وظيفي إلى البيئة الافتراضية التي تحتاج لحماية تفرض على مواقعها؛ فتستبعد المواقع التي تحمل أفكارًا غير قويمةٍ أو لا تتسق مع ثقافة مجتمعنا وقيمه، وهذا المتطلب بمثابة تحصينٍ للمواطن الرقمي، ويوطد الاستقرار داخل كيان المجتمع؛ فنستطيع أن نضمن سلامة المكون الأيديولوجي الذي يتمسك به مجتمعنا النقي، وهنا تزداد الثقة بين هذا المواطن والدولة بمؤسساتها المختلفة، كما يتمكن من مجابهة ما قد يتعرض له من شائعاتٍ وأفكارٍ كاذبةٍ أو مغلوطةٍ عبر هذا الفضاء المنفلت أو غير المنضبط.
وهذا يدعونا إلى أن نتضافر تجاه العمل على توفير المستودعات المعلوماتية الرقمية الآمنة عبر البيئة الافتراضية؛ حيث إنها متطلبٌ مهمٌ ورئيس من متطلبات تحقيق الأمن الفكري عبر هذه البيئة، ومن ثم يجب أن تتعدد مواقع التواصل الاجتماعي الموثوقة والموثقة التي يستطيع أن يلج إليها المستخدم، ويحصل منها على ما يود معرفته، ويجنبه مسالك الجنوح الفكري الكامنة في بعض المواقع ذات التوجهات والمقاصد المنحرفة، كما ينبغي توافر المواقع الرسمية التفاعلية والتي تمد الفرد بالأفكار التي تحض على الفكر الوسطي والمعتدل والذي يتسق مع غايات وفلسفة مجتمعنا المصري الأصيل.
كما أكد المؤلف على أن رعاية مؤسسات الدولة المصرية بشكل ممنهج لآليات ترسيخ القيم النبيلة والعادات والتقاليد الراسخة الأصيلة لدى أبناء الأمة، من خلال مؤسسات وطنية تعمل على تعضيد الوعي الصحيح بشتى أنماطه لهو المسار القويم، وهذا بالطبع يؤدي إلى تحصين الفكر ضد الهجمات التي تتناقض وتتعارض مع ما تستهدفه مؤسسات الدولة؛ فغاية تشويه الفكر تكمن في فلسفة الهدم الذي يضاد البناء والإعمار.
وأن مراجعة ما يتعلمه الإنسان أمر لا مناص عنه؛ إذ يجب أن نمده بما يسهم في بناء الفكر الصحيح لديه، وما يسهم في رقي تفكيره ويساعد في إعمال ذهنه؛ ليدرك الحقيقة ويكتشف مكنونها، ومن ثم تزول جهالته ببعض الأمور أو القضايا التي يتعرض لها بصورة مقصودة، وفي المقابل يتضح له الزيف الذي يقابل تلكما الحقيقة؛ فيستطيع ان يحل ما يواجهه من مشكلات ويتغلب على ما يعترضه من تحديات، ويقدم حلولًا مبتكرة للأزمات التي تفرض نفسها على واقعه المعاش.
وتابع بقوله: هنا نعول بصدق على ماهية التربية الصحيحة التي تُعد مقومًا رئيسًا للأمن الفكري؛ حيث إنها تهتم بالفرد بصورة تتسم بالتكامل في جوانبها؛ فتغذي الروح بصحيح الفكر والمعتقد، وتنمي مهاراته الاجتماعية التي تتسق مع قيم وعادات مجتمعه، وتعلى من تقدير الذات لتحفظ للنفس كرامتها، وتهتم بالوجدان ليصبح راقيًا ضابطًا للقلب والسلوك؛ فيخرج من حالة حب الذات إلى محبة الآخرين، وما وصف لا يعتبر مسئولية مؤسسة بعينها؛ لكنها مسئولية مجتمعية تشاركية.
واختتم المؤلف بأن هذا الجهد المقل ما هو إلا مشاركة متواضعة في حب بلادنا الغالية وعشق ترابها وولاًء وانتماءً لكيان مؤسساتها الوطنية.. حفظ الله بلادتنا وقيادتنا وأبناءها المخلصين.