إن البحث في أزمةِ المجتمع المدني بكلامٍ آخرٍ هو بحث في ممارساتِ الدولة التعسفية للسلطة، لقـد سلبت الدولة في أغلبِ البلدان العربية المجتمع من ووظائفهِ الحيويه واحتكرتها لنفسها، وجردت الشعب من حقوقهِ الإنسانية ومنها حق المشاركة في الحياةِ السياسية وحق التعبير عن آرائهِ المستقلة، وقـد تمكنت الطبقات والعائلات الحاكمة من فرضِ هيمنتها على المجتمعِ والشعبِ بوسائلٍ مختلفة منها السيطرة على العائلةِ والقبيلة والطائفة والدين والأحزاب والنقابات والجمعيات والاتحادات المهنية ومنها انشغالها الأساسي بقضايا أمنها الخاص واستمراره على حسابِ أمــن المجتمع وسلامته بل وحيويته. وحين خسر المواطنون هذه الحقوق الجوهرية فقدوا القدرة على ممارسةِ أدوارهم بالجهادِ المتواصل لتحقيق الغايات والأماني الكبرى التي حلم بها الشعب بما فيها مطالبته بالوحدهِ والديمقراطية والتنمية الانسانية الشاملة.
وهذا ما يفسر اتساع دائرة الرغبات الشعبية المكبوتة بقيامِ أنظمة ديمقراطية تحلُ محل أنظمة سلطوية غير شرعية تُعنى بالدرجةِ الأولى باستمرارِيتها بالقمعِ فتلجأُ للترهيب أو الترغيب وليس للإقناع؛ مما أفقـد الشعب حرية البحث والمناقشة والتعبير، ومما يضاعف من حدةِ أزمة المجتمع المدني في علاقتهِ بالدولةِ أن عمليات الترهيب والترغيب نفسها تُمارس على الإنسانِ من قبل مختلف المؤسسات الاجتماعية وفي طليعتها مؤسسات العائلة والدين والاقتصاد والتربية.
كذلك ظهر لنا أن بعض فئات المجتمع وطبقاته ( الفقراء، النساء، الأطفال، أهل الريف، الأقليات في الكثير من الأحوال ) تُعاني هذه الأزمة أكثر من غيرِها، ومن هنا نرى أنه تم التشديـد في القرنِ العشرين على أهميةِ دراسةِ أزمة المجتمع المدني باعتبارِ أنها في صميمِ النكبات العربية، وفشل مشاريع النهضة بما فيها المشاريع التنموية والتحديثية والثورية المتمثلة بالثورةِ الناصرية والجزائرية والفلسطينية. وليس أدل على أزمةِ المجتمع المدني من أزمةِ الأحزاب والتنظيمات السياسية يسارية كانت أو وسطية أو يمينية، إذ تمنع القوانين المتبعة قيـام الأحزاب في الكثيرِ من البلدان العربية، وهناك في عـددٍ منها الحزب الحاكـم الواحـد الذي تدور في فـلـكهِ أحزاب أُخرى.
أما أحزاب المعارضة إذا ما وجدت فأنها تكون ضعيفة ومهمشة وغير قادرة على الوصولِ الى الجماهير؛ فتعمل في إطارٍ ضيقٍ وضمن ما هـو مُتاح وتتعرض باستمرارٍ للاختراق والانقسامات الداخلية، ونادراً ما تتمكن أحزاب المعارضة من التنسيق بعضها مع بعض، ومثالاً على ذلك تُظهر خريطة الأحزاب السياسية في مصر أن هناك مجموعتين من الأحزاب التي بلغ عددها 14 حزباً هما الأحزاب الأساسية والأحزاب الهامشية الى جانبِ الحزب الحاكـم وهو الوطني الديمقراطي، كما أن هناك أحزاب معارضة يمكن اعتبارها أساسية بمعنى أنها أقلُ هامشية من الأحزابِ الأخرى، وهي التجمع والوفـد والعمل والناصري، أما الأحزاب الأُخرى المرخص لها فهي على هامشِ النظام الحزبي.إذ ينشط المجتمع المدني حيث تصبح شؤون المجتمع شأناً شعبياً فلا تقتصر مهماته على الحاكم أو الدولة، ويتمكن الشعب من المشاركة الفعالـة في تدبيرِ شؤون المجتمع وممارستها للسلطة التعسفية، أنه يتمثل بالمؤسساتِ والمنظمات الطوعية غير الرسمية ( النقابات، الأحزاب، الاتحادات، الجمعيات المهنية ) التي تعمل باستقلال عن سيطرةِ الدولة التي اعتادت أن تفرض هيمنتها على المجتمعِ بالسيطرةِ على هـذه المؤسسات وغيرها، حديثة كانت أو تقليديـة لذلك أعتبر البعض أن المجتمع المدني يكون فعالاً بقـدرِ ما يعتمدُ مفاهيـم التعـدد واحترام حق الاختلاف والمبادرات الخاصة والتعايش بين مختلف القوى المتصارعة. أن المطالبة بتنشيطِ المجتمع المدني هي باختصار رد فعل لسلطوية الدولة على المجتمعِ، ودعـوة لقيام النظام الديمقراطي التعددي.
ما نتحدثُ عنه إذاً هـو مدى حضور الإنسان في الحياةِ العامة، صحيح المجتمع المدني لا يقوم بوظائفهِ من دون وجود دولة قوية، وليس المقصود في الحديثِ عنه أن يكون بديلاً لها، ولكن هذه الدولة لابـد أن تكون قانونية وشرعية وممثلة للشعب وخاضعة للمحاسبة والتداول والمسائلة، ومشكلة العربي في هذا المجالِ أنه لم يعد من دولةٍ عربية تدول ومن حاكم عربي يتبدل فقد ألغت الدولة المجتمع بعد أن غابت دولة القانون والمؤسسات فاحتكرت وظائفه وحدت من دور المواطن في صنعِ مصيره، فأخضعته لأرادتها وسلطتها المطلقة المتمثلة بشخص الحاكم الفرد.
ومن بين أهم ظواهر أزمة الحكم في الأقطار العربية ظاهرة شيخوخة الحاكم وقــد شاخوا في الحكمِ من دونِ تناوب لمدة طويلة تجاوزت ربع قرن في الكثيرِ من الأحوالِ. أن الخيارات المطروحة أمام الشعب قليلة ومحدودة فالحصار المضروب على حياتهِ شديد الإحكام، جرب أكثر ما جرب الأنسحاب والهرب من واقعه فأدرك بعقلهِ وأحساسهِ وحدسه أن الهرب لا يفيـد وقد يكون غير ممكن في بعضِ الحالات، كذلك جرب التمرد الفردي ولجأ الى الإغتيالات ومساندة الإنقلابات العسكرية من دونِ جدوى، وقـد نتج من كلِ هذه التجارب مزيداً من الإحساس المريـر بالعجز والغرق في التخلفِ.
كما أنه ليس القصد في الحديثِ عن أزمةِ المجتمع إضعاف الدولة والحلول مكانها، كذلك ليس من المقصود في الحكم تغييب المجتمع وإلغاء المواطنة، فليس المجتمع قبائل وطوائف وجماعات وقوات ضاغطة وتضامنيات تعمل لمصلحتها الخاصة على حسابِ المصلحة العامة فلابـد من دولةٍ قوية تمثل إرادة الأمة، وليس من حق الدولة من ناحيةٍ أخرى إحتكار السلطة وتعطيل دور المواطن، والخروج على القانونِ وتعطيل قوة المجتمع في ممارسةِ وظائفهِ الحيوية. فعلى سبيل المثال كانت وظائف الدولة ما قبل الأستعمار في المغرب العربي كانت محدودة، وكان المجتمع متفوقاً على الدولةِ، أما في الوقت الحاضر فقد أصبحت الدولة ممثلة في جميع أحشاء المجتمع المغربي والمطروح هو تحرير المجتمع من هذه السلطة.
ولكن هنالك معضلة لابد من مواجهتها إذ كيف يمكن أحياء المجتمع المدني دون أن تسقط في خطر مغرب القبائل، أي دون أن تسقط في خطر أحياء مغرب الفسيفسياء. هذا تماماً ما حدث في التجربة اللبنانية حين هُمشت الدولة وتركت الطوائف تأكل المجتمع من الداخلِ، وهناك من درسوا علاقة المجتمع بالدولةِ في التأريخ العربي الإسلامي، فأكـد البعض على مقولاتِ قوة الدولة وضعف المجتمع بالرجوعِ الى ما دعت اليه بعض الحركات الإسلامية من وجوبِ طاعةِ الحاكم والخضوع للسلطة؛ تجنباً للفتنة والفوضى أو ضرورات تطبيق الشريعة، وهناك على العكسِ من أكدوا على قوة المجتمع وضعف الدولة مستدلين على ذلك من خلالِ نفوذ القبائل والعائلات الإقطاعية وطبقات التجار؛ لذلك نشأت تلك الحاجة الملحة لحصول توازن خلاق يكفل قوة المجتمع وقوة الدولة في آن معاً. وتتصل هذه المعضلة بمعضلةٍ أخرى هـي مسألة التمييز بين المؤسسات والتضامنيات التقليدية والهيئات المدنية والجماعات والإتحادات المهنية في التشديدِ على المؤسساتِ التقليدية التي تواجه خطر الإنقسامات الاجتماعية، وتضارب المصالح الخاصة والمصالح العامة والتمييز بحسبِ الإنتماءات القبلية والطائفية والمحلية. أما المؤسسات الحديثة فينتظر أن تعمل على تجاوزِ الولاءات التقليدية وتعزيز تلاحم المجتمع على أن يصبح الإنسان الغاية القصوى وراء أهتماماتنا، وعلة العمل في خدمةِ المصالح العامة وعلى أعتماد مقاييس حيادية مهنية تتعلق بالكفاءات الفردية، ولكن كثيراً ما تسيطر الدولة والقوة الحاكمة على كل من المؤسسات التقليدية والحديثة.
وفي نظرتنا للمؤسسات التقليدية كما للمؤسسات الحديثة لابد من التمييزِ بين تلك المؤسسات التي تسيطر عليها الدولة وتعمل من خلالِها على فرضِ هيمنتها على المجتمعِ، وتلك المؤسسات المتحررة من سيطرةِ الدولة فلا تخضع لغير مشيئة وقوى التغيير المعارضة للنظام السائـد أو المستقلة. بكلامٍ آخر لابـد من التمييز بين المؤسسات الرسمية والمؤسسات المستقلة غير الرسمية. أن الدعوة لقيام المجتمع المدني هي دعوة للتحرر من هيمنةِ الدولة ولقيام المجتمع الديمقراطي التعددي، وتشييع ثقافة أحترام حق الإختلاف، لقد سيطرت الدولة على كل جوانبِ الحياة الثقافية بما فيها وسائل الإعلام وإتحادات الكتاب ومؤسسات التعليم في مختلفِ جوانبهِ حتى أن أساتذة الجامعات في الكثيرِ من الجامعات العربية يعتبرون قانونياً موظفي دولة لا يحق لهم ممارسة النقـد والإعتراض.
أن شؤون المجتمع العامة في الوقتِ الحاضر هـي من شؤون الدولة وبهذا تحول الإنسان ولايستثنى المثقف الى كائنٍ عاجز لا حول له ولا قوة حتى في ما هـو أكثر الأمور إلتصاقاً بحياتهِ ومعنى وجوده. أن مشاركة الإنسان في خدمةِ مجتمعه هـي من بين أهـم ما يحـدد هويته وجدوى كونه إنساناً ومواطنا. هـذه دعوة يقوم بها أفراد من المثقفين العربي لا مثقفي السلطة الذين هـم جزء من آلية هيمنة الدولة على المجتمع.
أزمــة الاندماج الاجتماعي والسياسي
عنـد الحديثِ عن الإندماج الإجتماعي والسياسي في الوطنِ العربي نرى أن هُناك العديـد من الأسئلةِ تُـثـار والتي يجب أن نجـد لها الأجوبة، فإذا كان المجتمع العربي يُعاني من غيابِ الإندماج الإجتماعي والسياسي فكيف يمكننا تجاوز حالة التفتيت هذه ؟ وهـل يمكن تحقيق الإندماج والإبقاء في الوقتِ ذاته على التعدد الذي يعترف بالتنوعِ والذي نرى فيه مصدر غنى عنه مصدر التناحر، هذا قـد يسمح للقوى المعادية بأن تتسلسل الى الداخلِ ، وتفرض هيمنتها على المجتمعِ وتسلبه إستقلاليته، ويشجع كذلك المجتمع على نموِ التفرد.
لكن ما هي العلاقات المُثلى التي يمكن أن تحل محل علاقات القوة والإستغلال؛ للخروج من هذه المعضلة؟ هذا ما سنجده في ثنايا هذا المبحث، لذلك نرى أن الإندماجالإجتماعي والسياسي هـو مفتاح الحل لجميع التساؤلات والمخاوف السابقة وغيرها، التي قـد تكون مصدر من مصادرِ الضعف للمجتمع والدولة، فالبحث في هذا الأمـر هـو بغايةِ الخطورة؛ كون أن هُناك من يُريد التسليم بالواقعِ السائـد والخوف من الذهـاب الى المجهولِ من وجهةِ نظرِهم. لذلك وجدنا من الضروري أن نُحدد الشروط والمعطيات الضرورية لحصول مزيـد من الإندماجالإجتماعي والسياسي، ووفق ذلك ستُدرج هذه العناصر المُتداخلة التي يُصعب الفصل بينها؛ كونها مُتممة أحداها للأخرى وفـق الآتـي :
1. الديمقراطيـــــة :لقـد أصبحت الديمقراطية تُشكلُ مطلباً أساسياً في الربع الأخير من القرنِ العشرين، ليس فقط كأسلوب في الحكم بل كمنهج في التفكيرِ والتعامل على مُختلفِ الصُعد وفي المؤسساتِ كافة، وكونها مطلباً أساسياً لا يعني أنها تحولت الى قاعدةٍ متبعةٍ، ولكنها تؤشر على الأقلِ الى إحتمالاتِ قيام منهج جديد في التفكيرِ والمسلكية، وكما أصبحت الديمقراطية هدفاً اساسياً ومساراً وبرنامجا لدى الكثير من الحركات الفكرية والسياسية، كذلك أُعتمدت كأداة تفسيرية توضح أسباب الهزائم العربية، وكأساس لبناء المجتمع المدني الضروري لحدوث نهضة حقيقية، وبقدرِ ما تتسع دائرة المطالبة بالديمقراطية وتتعمق قناعات العرب بها ستجدُ السلطات القائمة نفسها مضطرة للتجاوب مع هذه المطالب والعمل على أساسِها.
طبعاً ليس الأخذ بالديمقراطية وتطبيقها بالأمرِ السهل، وليست هـي سلعة تستورد من الخارج، ويجري العمل بها دون إعادة تحديـدها في ضوءِ الواقع العربي، وبغية تنشيط الشعب والمجتمع وتفجير قواه المبدعة، من هذا المنطلق وكما يبدو من أدبياتها المتزايدة، عنت الديمقراطية للعرب تعبئة الطاقات الشعبية لتحقيق غايات الأمة في إطارِ سيادة القانون والتعددية وتداول السلطة والتمثيل النيابي السليـم عن طريق الإنتخابات الحرة وحق الشعب في المشاركة السياسية، وفي إنشاءِ مؤسساته ومنظماته وأحزابه وفي محاسبة السلطة وإحترام حقوق الإنسان، من دونِ تمييز على أساسِ العرق واللغة والدين والجنس أو أي أساس آخر، واحترام تنوع الأقوام في الوطن العربي والإعتناء بثقافاتِهم، واحترام حرية الرأي وتحرر المرأة ومشاركتها في العملية الإنتاجية وغيرها، هـذه المطالب بعيدة المنال ولكنها أمنيات سيصبح من الصعبِ تجاهلها بمرورِ الوقت.
2ـ تعـددية الهوية العربية : من المهـمِ أن نوضح في هذا السياق أن الإندماج الإجتماعي والسياسي يسعى فيما يسعى اليه لترسيخ الهوية العربية، ولكن ذلك لا يعني في أية صورة إلغاء التعددية والتنوع في الإنتماءاتِ الخاصة أو الحد منها، فليس القصـد التذويب أو الصهر في بوتقةٍ واحدةٍ، ولا فرض ثقافة الأكثرية على الأقلياتِ أو العكس، إنما القصد هو التكامل وتعزيز الهوية المشتركة من دونِ التعرض للتنوع والتعـدد كمصدرين من مصادرِ إغناء المجتمع والثقافة، إن الحضارة العربية تألف حضارات متنوعة قديمة وحديثة تداخلت وتفاعلت وتغيرت كما غُيرت عبر تأريخ طويل، ولكن هُنـا التآلف ليس واحداً في مُختلف المناطق العربية فهـو على الأغلب ثنائي الهويـة في المغرب، وتعـددي الهوية في المشرقِ، وأُحـادي في مصر.
ونُلاحظُ أن المغرب العربي ثُنائي في منطلقاتهِ ليس من حيثِ الوجودِ العرقي بين عرب وبربـر فحسب، بل من حيثِ إنقسامه بين سلفي يتمسكُ بالإصولِ والتُراث فيميلُ الى التقليـدِ، وحداثي ينفتحُ على الغربِ الأوربي، ويُعبرُ عن نفسهِ بلغتهِ ويتبنى تقاليده، ويستورد مقتبساتهُ من دونِ تحفظ.
ومقابل ثنائية الهوية في المغربِ نجدُ أن المشرق مرهق بتعدديةٍ لم يتمكن حتى الآن من إيجادِ الصيغة المُثلى لتوحدها من دونِ أن تفقد تنوعها الغني، أن مقولة أحترام التعددية لا تعني الإبقاء على هذه الفسيفسائية الهزيلة القائمة على عصبياتٍ ضيقةٍ متنافرةٍ منشغلة بذاتِها بمعزلٍ عن القضايا والأحـداث الكُبرى التي تقرر مصير الأمة وتُعطل الإمكانات العربية وتفسخ المجتمع على ذاتهِ؛ فيعيش في حالةِ تناحر منصرفاً الى خلافاتهِ الجُزئية الثانوية، من هُنا أهمية البحث عن رؤيةٍ تجاوزية ترتكزُ على وعيٍ جديدٍ، وتهدف الى صيغة لإقامة علاقات سويه على أُسسٍ جديدةٍ؛ ولذلك نقول بأن الحركات القومية يجب أن تتحول بأعادةِ النظر في الأقلياتِ، وأنه على الأقليات أن تتخلى عن فكرتي الأنعزال والأستعانة بالخارجِ ضد مجتمعاتها.
وحين ننظرُ الى المجتمع القروي ككل نجدُ أنه خلال القرن العشرين ما يزالُ يراوح داخلياً بين مرحلتي النزاع والتعايش بين الجماعات والأقطار والكيانات التي يتكون منها دونما تفاهم حول صيغة أندماجية مستقبلية تقيم توازناً خلاقاً بين الوحدة والتعدد، فليس المطلوب إلغاء التعدد ولا التعايش المؤقت الذي يُبقي على الولاءاتِ للجزء على حسابِ الأنتماء للكل وما هو مشترك على صعيدِ مصيري، وليس المطلوب الأندماج القسري الذي يُلغي الآخر، بل أن المطلوب هو الأندماج الأجتماعي الذي يحترم التنوع والتعدد والإختلاف ويوازن بين المصالح والخصوصيات المُختلفة في إطارٍ قانوني دستوري، ويؤكد على المساواةِ التامة في المواطنةِ ويخلو من التمييز على أُسسِ الدين أو العرق أو الجنس أو أي أنتماء آخر.
إن التحدي الكبير الذي يواجه العرب في تحقيقِ الإندماج الأجتماعي والسياسي هو التوصل الى إقامة تنوع منسجم لا تنوع متنافر يُبقي على التجزئة الحضرة التي تشلُ الأمة وتعرضها الى للهيمنة الخارجية، ولا يتمُ الأندماج قسراً بل بالمشاركةِ الحرة الطوعية، ويشمل ذلك البحث في تعـدد أشكال المحاولات التوحيدي هوأختيار ما يتناسب مع الواقعِ العربي.
3 ـ العدالـة الإجتماعية :سلطنا الضوء في تحليلِنا الواقع للإندماج الاجتماعي على التشكيلاتِ الفئوية أو الجماعات التي يتكون منها المجتمع، غير أن الإندماج الإجتماعي لا يكتمل طالما توجد فروقات وفجوات طبقية حادة، الأمر الذي يزداد رسوخاً في المجتمعِ العربي. أن الدمج بين التحليل الطبقي والتحليل القومي يسمح بمزيدٍ من الدقةِ والعمق في تفهم الواقع العربي، وفي العمل على تجاوزِ مشكلاته المستعصية بما في ذلك مشكلة الإندماج الإجتماعي والسياسي.
إن نزاعات الجماعات الطائفية والعرقية والقبلية تنتجُ جوهرياً من التفاوت من حيثِ الثروة والنفوذ والمكانة في المواقعِ التي تحتلها الجماعات في البنية الهرمية التراتبية الراسخة في المجتمعِ العربي، وفي ما يتعلق بالقهرِ القومي أصبح واضحاً لمزيد من العرب أن الطبقات والعائلات الحاكمة لا يمكن الركون إليها في الصراعِ من أجل التحرير والوحدة لمجرد أنها تقول بالإنتماءِ العربي، فقد تكون لهذه الطبقات والجماعات الحاكمة لاسيما في البلدان التابعة أو المندمجة بالنظام الإقتصادي الرأسمالي الغربي مصالح مكتبية.
كذلك نجد أن الأقليات تختلف فيما بينها بالنسبةِ لولائِها القومي بحسبِ موقعها في البنيةِ الداخلية لبلادها ومدى أرتباط البلد بالنظام الإقتصادي الرأسمالي الغربي. كما أن الطبقات والفئات المرتبطة بالغربِ إقتصادياً وحضارياً تظهرُ نزوعاً للتخلي عن تقاليدها بما فيها تلك التقاليد المتعلقة بهويتها، وهي حين تميل للتخلي عن هويتها العربية العامة لا تحرصُ بالضرورةِ على التمسكُ بهويتها الخاصة. ومن الأمثلة على ذلك أن بعض موارنة لبنان الذين تخلوا عن الهويةِ العربية تخلوا أيضاً عن جوانبٍ من هويتهم المارونية المتوارثة، كما ينعكس في تفضيلهم الأسماء الغربية على الأسماءِ المسيحية الشرقية. معتبرين الأولى أكثر تحضراً من الثانيةِ ( فكثيراً ما حل أسم بيــار مكان أسم بطرس، وبول مكان بولس، وجان مكان حنا، وميشال مكان ميخائيل، وجوزف أوجو مكان يوسف…الخ
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا