يدفع لبنان اليوم فاتورة الارتباط بالمقاومة في فلسطين المحتلة، ولو وافق حزب الله على فك هذا الارتباط وأوقف إطلاق صواريخه لما كانت الهجمة الشرسة على مقراته بالضاحية الجنوبية لبيروت، ولما كان اغتيال أمينه العام حسن نصر الله ورفاقه، ولربما كافأته إسرائيل وسوقته إعلاميا وسياسيا لدى الغرب، وتوسطت له عند الإدارة الأمريكية لترضى عنه وتضمه تحت جناحها ضمن زمرة أصدقائها الودعاء غير المغضوب عليهم، وتسقط عنه وصمة الإرهاب التي ألصقتها به.
هذه الحقيقة يعرفها كل العرب، لكن البعض يتغافل عنها، مع أنها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فالمشكلة التي تستفز إسرائيل تكمن في ذلك الارتباط القائم بين المقاومة داخل فلسطين والمقاومة خارجها، وهو ارتباط ابتدعه حزب الله ورفاقه، وأسموه (جبهات الإسناد)، بهدف إشغال الجيش الإسرائيلي بعض الشيء عن التركيز على المقاومة في غزة والضفة الغربية، كي لا ينفرد بها ويثقل عليها.
أضف إلى ذلك أن هذا الإرتباط ـ على مابه من ضعف ـ يشكل عاملا لإيقاظ الروح القومية، وتذكير الشعوب العربية والإسلامية بمفهوم الأمة الواحدة، التي إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وهذه الأمة ترى بأم عينيها كيف تسارع أوروبا وأمريكا لنصرة إسرائيل بالسلاح والمال والعتاد، بينما تقف هي مكتوفة الأيدي لا تقدر على شيء غير الكلام أحيانا، فهل مقبول أن يقف الغرب كله مع الكيان الصهيوني، وتمنع المقاومة من أي دعم عربي وإسلامي، أيا كان حجمه؟
ورغم أن جبهات الإسناد لم يكن لها تأثير فعال يكافئ الطموح المتوقع، لكنها على الأقل لم تقف مكتوفة الأيدي والأبرياء يذبحون بدم بارد، ونالت شرف المشاركة والمحاولة والمران، فهي ليست جيوشا نظامية، ومهما بلغت قدراتها فليس متصورا أن صواريخها ومسيراتها ستكون في كفاءة ودقة السلاح الأمريكي الإسرائيلي، وتصيب أهدافها بنسبة 100%، وإنما يكفيها أنها تتحدى العجز العام، وتحدث دويا مزعجا، وتبث الرعب، وتجبر العدو على إخلاء مستعمراته، ليشرب مستوطنوه من الكأس نفسه الذي يتجرعه أهلنا في غزة، وتشعرنا بأن روح المقاومة مازالت تسري في عروق أمتنا، رغم كل الخسائر والضحايا.
وقد بذلت إسرائيل، ومن ورائها أمريكا، جهودا كثيرة لفرض الصمت على جبهات الإسناد، لكنها باءت بالفشل، فكان لابد مما ليس منه بد، اشتعلت الحرب واتسعت الدائرة، ودفعت تلك الجبهات ثمنا باهظا، وما زالت تدفع وتقاتل على قدرها، وما زال جيش الإحتلال يقتل ويغتال، ويستخدم الأسلحة المحرمة دوليا، ويوجه ضرباته إلى الأهداف المدنية؛ المباني السكنية والمستشفيات والمدارس والأسواق، بما يخالف القوانين الدولية، والعالم لايحرك ساكنا.
ووسط هذا الصمت المخزي تقدمت أمريكا بمبادرة لوقف إطلاق النار في لبنان، معلنة في بجاحة سافرة أنها تمت بالتنسيق مع حكومة نتنياهو، أي أنها مبادرة إسرائيلية المنشأ، والدور الأمريكي فيها يقتصر على عرضها والتفاوض عليها مع الأطراف المعنية، وهي لعبة صارت معروفة ومجربة في غزة، عدو يقتل وعدو يفاوض لإطالة أمد الحرب، والمطلوب واضح؛ فك الارتباط بين جبهات الإسناد والمقاومة الفلسطينية، حتى تكون لقمة سائغة للإسرائيليين، وما لم تحققه إسرائيل بالقنابل الفسفورية والهيدروجينية لإسكات منصات الصواريخ قد تنجح أمريكا في تحقيقه عبر المسارات التفاوضية، وممارسة الضغوط من جانب الحلفاء.
ومن المعلوم بالضرورة أن أمريكا لاتقل عن إسرائيل عداء للمقاومة في فلسطين وخارج فلسطين، فهي تصنف كل فصائل المقاومة (إرهابية)، وتعمل بشتى السبل للقضاء عليها واغتيال رموزها، والهدف الاستراتيجي للدولتين واحد لا لبس فيه، وبصرف النظر عن التصريحات المخادعة فإن أمريكا هي صاحبة الكلمة الأولى في كل ما يتعلق بحروب إسرائيل، وهي التي توفر السلاح والمال وتعطي الضوء الأخضر، وتستخدم الفيتو في مجلس الأمن، وجاهزة للتدخل المباشر إذا استدعى الأمر.
إن منطقتنا مقدمة على حقبة غير مبشرة، وليس أمامنا إلا التفكير بروح الأمة الواحدة، لا بروح الفرق المتناحرة، فإسرائيل تضرب اليوم بعنف في كل مكان وبكل الأسلحة وهي منتشية، كأنها تحارب معركتها الأخيرة لتعويض فشلها في غزة، وإذا ما قررت التدخل البري في لبنان فسوف تكون تلك بداية لحرب استنزاف طويلة المدى، مشابهة لتلك التي تخوضها في غزة، وستوفر لها هذه الحرب فرصة لإحداث تغييرات ديموجرافية وسياسية واسعة في لبنان، تخل بالتوازنات القائمة، وتعمل على تأليب الطوائف وإدخال الفرقاء في حرب أهلية طاحنة، مشابهة لتلك التى عاشها لبنان في ثمانينيات القرن الماضي.
لقد أرادت إسرائيل من خلال اغتيال حسن نصر الله ورفاقه بـ 80 قنبلة خارقة للتحصينات، أن توجه تهديدا مباشرا لأية قوة تقف أمام مخططاتها المعلنة لبسط نفوذها على المنطقة العربية بأسرها، والسيطرة على الأراضي الفلسطينية بالكامل، وتبعث برسالة إلى الفرقاء في لبنان تحديدا بأن اغتيال نصر الله مقدمة لإنهاء الوجود العسكري والسياسي لحزب الله، لكنه حلم بعيد المنال بكل تأكيد، فقد اغتالت الأمين العام السابق للحزب عباس الموسوي عام 1992، وكتبت الصحف الإسرائيلية وقتها أن “عهد الصراع مع حزب الله انتهى”، لكن الصراع لم ينته، بل استمر، وازداد الحزب قوة وتماسكا.