……….إنها المحبة.
بداية أذكر بأحاديث النبي صل الله عليه وسلم عندما تحدث عن هذه الثلاث الباقيات الصالحات التي من خلالهن يتذوق المرء حلاوة الإيمان في قلبه فينعكس ذلك على كل حياته
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسولُهُ أَحَبَّ إليه مما سِوَاهما، ويُحِبَّ المرء لا يُحِبُّهُ إلا لله، وأن يَكْرَهَ أن يعود في الكفر، بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُقْذَفَ في النار .وعنه قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين .
وعنه عن النبي صل الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يُحِبَّ لِجَارِهِ -أو قال: لأخيه- ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
نعم صدقت يا رسول الله ، فإنه لا يذوق الحب الإلهي ويتذوقه إلا من اصطفاهم الله تعالى وجعلهم أهل محبته وأهل صفوته وأهل خاصته ولا يصل إلى هذه المرتبة إلا من أحبهم الله تعالى وأكرمهم ، قال فيهم الله تعالى (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه)، من هؤلاء ، أولئك المتحابون فى الله تعالى ، يحبون بعضهم البعض لا شئ اللهم إلا لله ، فيمنحهم الله المنحة الربانية حبه تعالى ، ولنا فى السلف الصالح الأسوة والقدوة الحسنة ، فها هو معروف الكرخي ، وأبو سعيد الخراز (قمر الصوفية)، ولا يخفى علينا محبته تعالى لصحابة النبي أبو بكر وعمر ، وكل صحابته رضي الله عنهم جميعا ، ولنا في محبته للحسن البصري ، ورابعة العدوية المثل الأعلى أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده. وغيرهم كثر ، بل واصطفاهم وحبهم لانبيائه سبحانه وتعالى حبه لسيدنا موسى عليه السلام ،يقول في حقه الله تعالى (وألقيت عليك محبة مني)
وقوله فى حق النبي محمد صل الله عليه وسلم (يا أيها النبي حسبك الله)، فحسبك هذه دليل دامغ على خصوصية المحبة ، فمن يكون الله حسيبه هل يكون أحد عليه وضده.
ليس هذا وحسب بل نجد النبي صل الله عليه وسلم ربط المحبة بالإيمان ، فمن أراد أن يكتمل إيمانه ويكون كامل الدين ، فعليه بعدة أمور يفتش فيها بداخله وفي نفسه ، اولتها أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، بمعني إذا أراد العبد أن يكون مؤمنا تاما الإيمان فلابد أن تستغرق بكليته فى حبه لله ، وحبه لرسول ، فلا يشغله عن هذا الحب مال ولا ولد ولا منصب ولا جاه ولا سلطان وإنما يجعل كل هذه الأمور ثانويات ولا يجعلها تقوده بل يجعلها مقودة له ، وها هو رسولنا الكريم يجلس مع الصحابة ويمتحن إيمانهم بمقدار حبهم له فى قلبه ، حين سألهم عن مدى حبهم له ، فجميعهم قالوا نحبك أكثر من أموالا وأولادنا وأكثر من أنفسنا ، فمن يجد فى نفسه خلاف ذلك فليراجع نفسه وليجدد إيمانه.
كذلك من علامات مذاق حلاوة الإيمان أن يكره الإنسان أن يعود إلى الكفر والشرك بعد أن أنعم الله عليه بالهداية ، فهل بعد الحق إلا الضلال ، هل بعد النور إلا الظلام ، هل بعد الحسن إلا القبح ، فكيف بإنسان يكرمه الله بالهداية أن يعود إلى الضلال ، (أفمن يهدي للحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى)
كذلك من علامات تذوق الإيمان وحلاوته والشعور بالسعادة التامة أن يحب المرء أخيه حبا خالصا لوجه الله تعالى ، يقول الله في حديثه القدسي ، سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، منهم رجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، حبهم خالص لوجه الله تعالى لا لمنفعة ولا مصلحة وإنما حب منزه يغلب عليه الإيثار دونما أثره يحب أخيه حبا خالصا ، يسأل عنه إذا غاب ويعوده إن مرض ويراعي أولاده إكراما له حتى بعد مماته دونما إفراط أو تفريط بمعنى ألا يعتدي على حرمات بيته بل يراعي أولاده بالسؤال عليهم باستمرار من خلال تواصله معهم ومراعاة مصالحهم.
إذا وجد الإنسان هذه الأمور الثلاثة مجتمعة بداخله فقد تحقق إيمانه وصار ربانيا بمعنى صار من رجال الله الذين اصطفاهم الله تعالى.
ورب سائل يسأل فيقول هذه الأمور من الصعوبة بمكان أن تتحقق فى إنسان فى وقت واحد.
نقول له ما قاله الله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)
فمجاهدة النفس وتهذيبها وترويضها طريق ناجح لتحقيق هذه الغاية السامية ألا وهي تحقيق الإيمان فى القلوب .
وهنا يحضرني قول معروف الكرخي، عندما عرف التصوف، فقال، هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق.
نعم، إذا ما تحقق ذلك سيحدث جلاء للقلوب ويقذف الله فيها من فيوضاته هبات صفائية، نعم الأخذ بحقائق الشريعة والعمل بالتنزيل خوفا من الجليل استعدادا ليوم الرحيل، أليس ذلك تطهير للقلوب من شواغلها فلا يبقى فيها إلا الله، ومن ثم ستيأس النفوس مما في أيدي الخلائق وتتخلق بأخلاق النبي المعصوم صل الله عليه وسلم، وسيكون الإنسان بذلك ربانيا محمديا لا تشغله الأغيار عن رب الأغيار، فيصبح شغله الشاغل، الاستغراق بالكلية في حبه تعالى.
وتذكرت قول رابعة حينما عتابت نفسها حين أخذتها سنة من النوم في محرابها وقامت فزعة، قالت : يا نفس كم تنامين، وإلى متى ستنامين، توشكين أن تنامي نومة لاتقومي منها إلا يوم النشور.
هؤلاء هم أهل الله ، أهل مودته ومحبته وعشقه وطاعته.
هؤلاء هم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم رغبا ورهبا، ومما رزقهم الله ينفقون، جل همهم الله تعالى والسعي الدؤوب إليه، آثروا على أنفسهم ألا يمتلكون شيئا حتى لا يصيرون عبادا لهذا الشيئ، أخرجوا الدنيا من قلوبهم فسمت وارتقت.
هؤلاء هم المشاؤون في الظلمات، الذين جل همهم الله تعالي، لابرد يقعدهم عن الطاعات ، فذكر الله أدفأ قلوبهم .
هؤلاء أهل التخلي تخلوا عن متع الدنيا وزينتها وملذاتها، وتحلوا بالطاعات وتطهير النفس من ادرانها ففاضت عليها الفيوضات الربانية فصاروا محلقين في فضاء رحب لا تحدهم حدود ولاتقيدهم قيود الشهوة فانطلقوا بأجنحة ملائكية إلى عالم الملك والملكوت
هؤلاء قوم لا يشقى جليسهم ، سكوتهم تدبر، وكلامهم ذكر، تنظر إلى وجوههم تري نور علي نور من فوقهم ومن عن إيمانهم ومن تحتهم نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.
هؤلاء قوم جاهدوا في الله حق جهاده، فحق على الله أن يهديهم السبيل، الطريق المستقيم ، (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين).
هؤلاء قوم جعلوا الله غايتهم والرسول صل الله عليه وسلم قدوتهم والقرآن الكريم مرشدهم.
هؤلاء هم أهل الصفوة، أهل الحظوة، أهل القبول.
هؤلاء هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
هؤلاء هم المصطفين الاخيار.
هؤلاء هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى.
هؤلاء هم الذين أخلصوا لله تعالى فاختارهم خداما، نعم هم أهل محبته ومودته، هم الذين يرون بقلوبهم ببصائرهم ما لا يراه الناظرونا.
هؤلاء هم أهل التصوف الحقيقي ، أهل الحب والود والإخلاص.
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان.