كان يتأمل القرية بشغف الباحث عن كل جديد ،بدهشة الأطفال ، وبروح رجل قرر أن يكتشف كنه الحياة ونفوس البشر ، وخلال رحلته تلك لفت نظره ثلاثة رجال منهمكين في حفر أرض خربة ،منشغلين بعمل فم كبير ببطن الأرض يفرغونها من حشوتها من التراب يرمونه وراء ظهورهم فتتسع الحفرة وتفتح فمها أكثر فأكثر .
دفعه فضوله المشحون بالإكتشاف فسارع الخطى ،وقف لصق أولهم وسأل:
_ما الذي تفعله؟
فرفع الرجل نظره اليائس إليه، ويده المرتعشة تحاول أن تساعد ظهره المحدودب كي يستقيم قليلا، وبيده الأخرى مسح عرقا تصفد على جبينه فتقاطر ليغسل وجهه الذي أحرقته سياط شمس الظهيرة وقال :
(ألا ترى ما أفعله! ، أنا أتصبب عرقا تحت هذه الشمس اللعينة ،أحفر وأحفر حتى خارت ساقاي وتيبس ظهري ،أنا ابتلع قدري التعس وسوء حظي)
فتركه صاحبنا وهو يهز رأسه بالموافقة ثم دنا من الرجل الثاني وسأله:
_ما الذي تفعله؟
هنا رد عليه هذا الرجل دون أن يتوقف عن الحفر ، بل ازداد ظهره انحناءً وصارت ضربات فأسه أسرع وكأنها تريد الخلاص من شيء يلاحقها وقال:
(إلا تعرف ما أفعل!!، أنا أكدح وأشقى كي أكسب قوتي وقوت عيالي ، ففي البيت تنتظرني خمسة أفواه جائعة ،لم أذق طعما للراحة يوما ،وكأنني خلقت كي أكون حمارا يحمل الأثقال حتى الموت)
عندها تقدم صاحبنا بهدوء من الرجل الثالث والذي كان يبدو عليه شيئا من السكينة ومسحة من الرضا المفقود على مٌحيًا صاحبيه السابقين ،فسأله:
_ما الذي تفعله؟
استقام هذا الرجل في وقفته ونظر في عيني مخاطبه مباشرة ثم قال:
(أنا أحفر أساسا للمدرسة الوحيدة في قريتنا، وبعدها سأضع لبنة تلو الأخرى حتى أرى بعيني الأمل الذي بنته يداي وهو يتحقق ، في هذه المدرسة التي سأبنيها أنا ومن معي سيتعلم أطفال قريتنا ،سيكبرون ،سيصبح عندنا بعد سنوات اطباء ومهندسون ومدرسون ، وستزهو بهم قريتنا الفقيرة هذه ، أنا أبني قريتي يارجل ،هذا ما أفعله).
ماالذي فهمتموه من هذه القصة؟!!
الحقيقة هذه صورة وضعتها أمامكم لمفهوم إحدى مدارس علم النفس والتي أسسها طبيب النفس النمساوي (فيكتور فرانكل) وهي مدرسة (العلاج بالمعنى).
فبنظرة سريعة منكم للأسطر السابقة ستجدون الفرق بين الرجال الثلاثة وتبني كل منهم لفكرة أو معنى يختلف عن الآخر رغم أنهم يقومون بنفس العمل وتحت نفس الظروف ،في الشمس، يتعرقون و يكدحون .
مدرسة العلاج بالمعنى تقول لك ببساطة :
لدينا الحرية فيما نفعله او نعانيه أو على الأقل فيما نتخذه من موقف حين نواجه حالة من المعاناة غير قابلة للتغيير، والمقصود هو إرادة الإنسان في البحث عن معنى لحياته، وليس الثراء والمتعة المادية من بين تلك المعاني التي نعنون حياتنا تحتها
(مادمت حيا فستعاني ،السبيل الوحيد للنجاة هو أن تجد معنى لمعاناتك) نتشيه، وقد أخذ فرانكل من نيتشه هذه الفلسفة لمدرسته العلاج بالمعنى.
فالحياة مليئة بالفرص وماعليك سوى استخدام قيمك لتقديم عمل إبداعي تجد فيه معنى لحياتك فبهذه الطريقة نتسامى فوق آلامنا.
فاليأس في نظر فرانكل هو (معاناة منقوص منها المعنى) .
فحين يخبرك طبيبك أو معالجك النفسي أن عليك أن تعالج حالة الإكتئاب لديك بأن تقوم بأنشطة بدنية أو تشارك في أعمال تطوعية أو تتعرف إلى أناس جدد وتستمع إليهم فهو لايقصد أن تشغل وقت فراغك فقط بل يوجهك لإيجاد معنى لحياتك وتكون قادرا على المقاومة.
في مدرسة العلاج بالمعنى لفرانكل والتي تركز على الإنسان وقدراته وإرادته وهي تشترك مع المدرسة الإنسانية لعلم النفس في هذا ،يعتقد فرانكل أن الإنسان ليس عبدا للصراعات التي حدثت له في طفولته حسب مدرسة التحليل النفسي وليس عبدا للنواقل العصبية الكيميائية في دماغه بل هو مسؤول عن الإمساك بزمام حياته والتحكم في ذاته.
وكما قال في كتابه (إرادة المعنى)
(لايمكن للإنسان تغيير القدر وإلا لما كان قدرا ولكن يمكن أن يغير من ذاته وإلا لما كان إنسانا).
فحين يقع الإنسان تحت ظرف أو معاناة لايمكن تغييرها يبقى عليه أن يحاول منع مزيد من السوء من الدخول لحياته ولايكف عن محاولة تحسينها.
فرانكل كان طبيبا نفسيا مؤمنا بمدرسة التحليل النفسي لفرويد تعرض للإعتقال في معسكرات النازية الوحشية وقتلت أمه وأخته أمام عينيه لكن اعتقاله لثلاث سنوات في تلك السجون السادية جعله يتفكر في السبب الذي يبقي قسم من المعتقلين هناك ينتظرون الموت بأفران الغاز بينما يلجأ بعض منهم للإمساك بالأسلاك التي تكهرب الجدران وينهون حياتهم في لحظات.
مالفارق بين هاتين النوعيتين من الناس مادامت النتيجة في الحالتين هي الموت !!
.
وراح يتسائل ماالذي يدفع الناس للإستمرار؟ لماذا يقاوم المرضى المصابون بأمراض فتاكة ولايستسلمون ببساطة للموت ؟ لماذا ننهض من السرير كل يوم لنمارس نفس العمل المعتاد والممل ولانلتصق بأسرتنا وندير ظهورنا للحياة ونستمر في النوم بلا هدف طوال اليوم ؟
هنا بدأ يختلف مع فرويد في أن الهدف هو تحقيق اللذة ومع العالم النفساني أدلر في تحقيق المكانة ومع أبراهام ماسلو أحد مؤسسي المدرسة الإنسانية لعلم النفس في أن الهدف هو تحقيق الذات ،لأنه وجد أن تلك الأهداف الثلاثة معدومة في معتقل النازية الوحشي ،عندها قال لم يتبق لتمسك الإنسان بحياته سوى المعنى ، معنى حياته الذي لن يدركه سوى بالتسامي عن الآلام والمعاناة التي لن يمكنه تغييرها بل تغيير فهمه ووجهة نظره تجاهها.
يرى فرانكل أن مأساتنا ومعاناتنا والموقف الذي نتخذه منها وتحملنا لمسؤولية حياتنا والعثور على معنى لها هو ميزة لنا نحن البشر فلسنا حيوانات تتحكم بنا الهرمونات والنواقل العصبية .
وهو يتفق برأيه هذا مع الفلسفة الرواقية حيث يقول الفيلسوف ابيكتيتوس(إن مايحدث للناس من انفعال ليس من جراء الأشياء بل جراء فكرهم عن تلك الأشياء)
وهو يقصد أن كل الأشياء محايدة ونحن من نسقط وجهة نظرنا وأفكارنا عليها.
أن العلاج بالمعنى لفيكتور فرانكل يتشابه نوعا ما مع العلاجات النفسية الحديثة كالعلاج المعرفي السلوكي حيث بنيت الفكرة على أن مشكلات الناس النفسية هي بسبب أفكارها التي يمكن العمل عليها وتغييرها .
ترى هل كان المرحوم فريد الأطرش يعلم شيئا عن مدرسة علم النفس لفرانكل (العلاج بالمعنى) حين غنى وقال (الحياة حلوة بس نفهمها )!!
وأخيرا السؤال :
هل وجدتم معنى لحياتكم؟؟