شهرين قبل الطلاق وشهرين بعده يعني 4 شهور كاملة من الضياع عاشها فريد شوقي، حالة من الانتحار والاحتـراق الذاتي عايشها لحد ما قدرت تنهيها والدته لما كلمته وقالته “سيب الفندق وارجع بيتك يا فريد ، انا وأختك جايين نقعد معاك ومش هنسيبك لوحدك ابدا” ، بالفعل سمع كلام أمه ورجع بيته ، البيت امتلأ بالونس مرة اخرى أمه وأخته وأولادها ، بدأ يستعيد توازنه النفسي بعد ما اكتشف ان أكبر علة صابته وكـرهته في بيته هي الوحدة وهو المعتاد دائما على الجو الأسري سواء في بيت والده او في بيته ، سكنت روحه وبدأ يفوق من ضياعه ، مفيش بني آدم يستاهل انه يحـ. ـرق عشانه تاريخ فني طويل لفنان عظيم زيه، كسر أزايز الخمرة وتوقف عن الشرب ورجع لمكتبه عشان يواجه نتيجة الشهور الأربعة ، ديون متراكمة بسبب انه دخل انتاج فيلم ووقفه بعد الطلاق غير توقفه هو نفسه عن التمثيل ، 4 شهور بدون دخل ديون فقط ، بدأ يحط خطة للعمل تقضي بإنه هيشتغل أي حاجة تتقدمله لازم يرجع ده غير انه محتاج فلوس لشراء أثاث لبيوت بناته الاتنين لانهم عايشين في شقق مفروشة ومكنش اشترالهم العفش .. وفي اليوم ده بتزوره في مكتبه سيدة برفقة والدها جايين يعزوه في وفاة والده ، كانت معجبة قابلها من فترة وجهتله انتقادات لكذا فيلم عمله فمكنش ناسيها وكان مسميها “المعجبة البيضاء” ، استنت المعجبة دي لحد ما فريد رجع لحياته العادية عشان تروح تعزيه هي ووالدها وكانت “سهير ترك” ، لفتة جميلة طبعا ومتتفوتش وفريد أحسن واحد يلقط لفتات الستات ، شكرهم على التعزية وتاني يوم قابل فريد سهير بس بدون والدها المرة دي ، عرف كل تفاصيل حياتها وفي نهاية اللقاء طلب ايدها للجواز !! ..
هل حبها بالسرعة دي؟! الحقيقة لأ وهو اعترف بده، محبهاش زي حسنية او زينب او حتى الإيطالية ولا طبعا زي ما حب هدى سلطان لكنه ارتاح لها وحس انها بتحبه وهو في الوقت ده بالذات محتاج لزوجة فكان حب احتياج ده غير انه عمل اخيرا بنصيحة أمه “خد اللي تحبك مش اللي تحبها والحب بييجي بالعِشرة” .. اتفاجأت سهير في البداية وطلبت منه يتريث وقعدت تقنعه يرجع لهدى لكن في النهاية وافقت واتجوزوا ، وبدأت حياته تتحسن للأفضل واتزن نفسيا وبدأ يحس بصحة اختياره ، زوجة ودودة مهتمة بكل تفاصيل حياته وحياة عيلته سواء بناته او والدته واخواته ومهتمة قبلهم طبعا به هو لدرجة انها كانت بتروحله بالأكل لوكيشن التصوير ، اهتمام عمره ما عاشه مع ست قبلها فصدقت نصيحة أمه وحبها بعد العِشرة .. وفي يوم وهو بيقرأ الجرنان بيخبط في وشه خبر زواج هدى سلطان من حسن عبدالسلام بعد نهاية عدتها منه بيومين فقط ، صدق حدسه وفهم سبب اصرار هدى على الطلاق منه عشان تتجوز حسن عبدالسلام ، لكن الغريب انه متأثرش ولا حس بأي غضب او حتى غيرة وبمنتهى التلقائية قرأ الخبر كأي خبر عادي وقلب الصفحة وكمل قراءة الأخبار الاخرى في الجريدة ، قدر يتجاوزها ويتخطاها في زمن قياسي بعد جوازه بأقل من شهرين من الضياع الكلي .. على الناحية الفنية بدأت المرحلة الأجمل في مسيرة فريد شوقي ، خلع عباءة “وحش الشاشة” وأفلام الأكشن بعد ما ادرك ان خلاص انتهى زمنهم ، لو استمر في نفس طريق وحش الشاشة هينتهي والزمن هيدوسه ويعديه ، العيال في الشوارع بتلعب كاراتيه ووحش الشاشة بيتعارك بطريقة الفتوات ، غير ان جسمه وسنه مبقوش يليقوا على أدواره القديمة ولا حتى على باروكته حالكة السواد فغير باروكته وصبغها بالأبيض ، وحول نفسه من وحش الشاشة وملك الأكشن لممثل شامل بيقدم كل الادوار التراجيديا ، الكوميديا والدراما فعمل بالوالدين احسانا والكرنك ومضى قطار العمر والسقا مات وما تبعهم من الأفلام والمسلسلات اللي شهدت مـ. ـوت وحش الشاشة وميلاد الممثل الشامل فريد شوقي ..
في فترته الأولى بعد رجوعه للتمثيل مباشرة كان كل اللي بيجيله من دخل بياخده ويديه لبناته علطول عشان يجيبوا الأثاث اللي وعدهم به ، اشتغل سنة كاملة عشانهم فقط واكتفي هو وزوجته باللي بيفيض منهم لحد ما انهى مهمته وتم تأثيث الشقتين ، وبعدها رزقه الله بعبير وبعدها رانيا ، بقى أب لـ 5 بنات ، مكنش مأثر فيه انه مخلفش ولد بالعكس كان عنده وجهة نظره الخاصة في حبه لخلفة البنات ان الولد لما بيكبر ويشتغل ويتجوز بيقل وينعدم احتياجه واعتماده على والديه عكس البنت اللي حتى لو اشتغلت واتجوزت بتفضل دايما في حاجة لأبوها وأمها ، مسئولية البنت من الأب لا تنتهي الا بوفاته وعلى ذلك كان سعيد جدا بخلفة البنات لانه عايزهم دايما جنبه ومعتمدين عليه ..
مرت سنوات الأزمة واستعاد فريد وضعه ومكانته الفنية ونهض كالعنقاء من تحت الرماد وفي يوم وهو رايح لمكتبه بتستوقفه سيدة في متصف العمر “ازيك يا فريد ، انت مش عارفني ؟! انا حسنية !” ، رجع فريد بالزمن لأكتر من 40 سنة وهو بيفتكر قصته معاها والنهاية التعيسة للحدوتة بمشهد القبض عليه بتهمة سرقة الخشب ومن شدة المفاجأة نسي انه فريد شوقي فقالها “عرفتيني ازاي يا حسنية ؟!” ، قالتله باستنكار “فيه حد ميعرفش فريد شوقي !!” ، وقعدت تفكره بأيام حب الطفولة وذكرياتهم مع بعض وصدق نبوءتها له بإنه هيبقى ممثل عظيم وعرف منها انها بقت مهندسة وتزوجت وانجبت وسلمت عليه ورحلت وفرح فريد من قلبه ان نهاية القصة مكانتش بمشهد العسكري وهو بيجره من رقبته قدامها ولكن انتهت بمشهد لقاء النجم بأول وأعز جمهور له في حياته وكان ده لقاءه الأخير بحبه الأول ..
وبيسدل فريد الستار على مذكراته وبيكون المشهد الأخير في المذكرات في مجلس الشعب في جلسة كانت معمولة لمناقشة الضرائب على الفنانين فقام أحد نواب المجلس اسمه الشيخ عبدالشافي وشن هجوم لاذع على الفن والفنانين وسفه وتفه من دورهم ، وانهم شوية هـ. ـلاسين بيضيعوا حياتهم ووقت الناس في الهوا ، غلي الدم في عروق فريد وقام رد عليه بخطبة طويلة كانت سرد وتلخيص لمسيرته الفنية ودوره كفنان في خدمة بلده ومجتمعه فقال : نحن سفراء لمصر ، اننا نشرفكم جميعا ونشرف مصر في كل مكان فالفنان الصادق سفير لبلاده في الخارج ، يرفع اسم مصر بأدواره وأعماله ويدافع عن كل القيم وكل الانجازات فيها ، انني اتكلم عن زملائي لكنني سأضطر للحديث عن نفسي ، سأقول لكم ما الذي قدمه فريد شوقي للفن حتى تعرفوا ان الفن ليس عارا وان الفنانين ليسوا مهرجين تـ. ـافهين لا يستحقون تضييع الوقت في مناقشة مشاكلهم ، عندما قامت ثورة يوليو 1952 وصدرت قوانين إعادة تنظيم المجتمع قدمت فيلم “حميدو” لأبين واوضح فيه اخطار المخـ. ـدرات على الانسان والمجتمع المصري وعلى مستقبلنا كله .. وعندما صدر قانون جديد يمنع الرشوة ويعاقب الراشي والمرتشي أنتجت وقدمت فيلم “رصيف نمرة 5” لأعبر فيه عن اقتناعي بهذا القانون الجديد الذي هو لصالح المجتمع .. وعندما شاهد وزير الشئون الاجتماعية فيلمي “جعلوني مجـ. ـرما” أصدر قانون الاعفاء من السابقة الأولى لاتاحة الفرصة امام الذين دفعتهم الظروف الصعبة للانحراف لكي يبدأوا صفحة جديدة في حياتهم فكان لهذا الفيلم شرف المساهمة في اصدار هذا القانون .. هل يعلم الشيخ عبدالشافي اني ذهبت إلى بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي الغاشم مع بقية زملائي الفنانين وعرضنا حياتنا للخطر أكثر من مرة لكي نقدم فيلما اسمه “بورسعيد” يدين العدوان الثلاثي على مصر ويفضحه ويكشفه امام العالم كله .. وبعد ان شاهد السيد رئيس الوزراء فيلمي “كلمة شرف” وافق على خروج السجين من وراء القضبان لمدة 48 ساعة لكي يزور أهله ولكي لا يفقد صلته بالحياة من حوله .. انني كواحد من هولاء الفنانين الذين لا تعترف بمجهودهم يا شيخ عبدالشافي لي الشرف في ان أفلامي تساهم في اصدار قوانين جديدة تفيد الناس والمجتمع وهذا هو دور الفنان الحقيقي ان يكون دائما في خدمة المجتمع .. وهكذا كنت انا فريد شوقي .
انهى فريد خطابه الذي اسكت الشيخ عبدالشافي ولم يجد ما يرد به وسط تصفيق حار من زملائه الفنانين ومن النواب وبهذا المشهد انتهت مذكرات أحد عظماء فن التمثيل في التاريخ السينمائي المصري والعربي بأسره “فريد شوقي” ..
في الجنة يا ملك ❤️