لم يكد بيان القمة العربية والإسلامية غير العادية التي انعقدت بالرياض الأسبوع الماضي يقرأ في المؤتمر الصحفي، مؤكدا على “حتمية إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة”، حتى ظهر وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد جدعون ساعر في أول مؤتمر صحفي له ليقول بملء فيه: “لا” متحديا، وموضحا أن هذه الدولة الفلسطينية من شأنها أن تشكل تهديدا أمنيا لإسرائيل.
وقبل أن يعود زعماء القمة إلى عواصمهم جاءت الصدمة الثانية من وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش الذي قال “إن إسرائيل أصبحت على بعد خطوة من ضم الضفة الغربية بعد فوز ترامب في الانتخابات، وأن عام 2025 سيكون عام بسط السيادة الإسرائيلية على يهودا والسامرة”.
ثم توالت الصدمات، وصار الحديث عن ضم الضفة الغربية يملأ الفضاء السياسي، ولا يدع مجالا لكلام آخر عن السلام ووقف الحرب وحل الدولتين، ونقلت هيئة البث الإسرائيلية عن مصادرها أن بنيامين نتنياهو يرى أن ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل سيكون جائزة استرتيجية للحرب التي خاضها في غزة ولبنان، وأنه قال في اجتماعات مغلقة: “إن مسألة الضم يجب أن تعود إلى جدول الأعمال مع تسلم الرئيس ترامب مهام منصبه مطلع العام القادم، سنبدأ من حيث انتهينا، وسنستكمل ما بدأناه”.
وفي العموم، يبدي اليمين الإسرائيلي فرحا وتفاؤلا كبيرا بأن عودة ترامب إلى البيت الأبيض ستفسح الطريق أمام ضم الضفة الغربية وإسقاط فكرة حل الدولتين نهائيا، بالنظر إلى ما كان عليه سلوك ترامب في ولايته الأولى، حيث اعترف بالقدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، كما اعترف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، مناقضا بذلك قرارات الأمم المتحدة وسياسات أمريكا المعلنة، وأشار أكثر من مرة إلى أن إسرائيل دولة صغيرة الحجم، يجب العمل على ضم بعض الأراضي إليها لتوسيع مساحتها، وهو ما أعطى دفعة قوية للنشاط الاستيطاني وللمستوطنين.
وطبقا لهيئة البث الإسرائيلية فإن خطط الضم ربما تكون جاهزة للتنفيذ، خاصة أن (صفقة القرن) التي أعلنها ترامب في ولايته الأولى كانت قد تحدثت عن ضم مناطق من الضفة الغربية إلى إسرائيل، ولذلك تسارعت حركة مصادرة الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية لتؤول ملكيتها إلى دولة إسرائيل بوضع اليد، وانتشرت فيها البؤر الاستيطانية تحت مسميات خادعة للتمويه، فأطلق عليها (مناطق أثرية) وأخرى (عسكرية مغلقة)، أو (محميات طبيعية) أو(مزارع رعوية).
ومما يؤسف له أن شبكة (بي بي سي) البريطانية نشرت تقريرا يؤكد أن البنية التحتية والإدارية والقانونية والاقتصادية الفلسطينية أصبحت مربوطة بإسرائيل، ليأتي الإعلان عن قانون الضم الإسرائيلي ـ حين يأتي ـ بمثابة خطوة سياسية تتوج ماتم تطبيقه من “ضم صامت” خلال عقود ماضية.
ورغم كل هذا التدبير المحكم فإن هناك تيارا في إسرائيل يعارض مخطط الضم، بدعوى أن الوقت ليس مناسبا لتطبيقه، أو لأنه قد يعرض إسرائيل لضغوط دولية تدفعها في نهاية المطاف إلى الاعتراف بدولة فلسطينية مشروطة وفق (صفقة القرن) ذاتها، ويشمل هذا التيار رؤساء المستوطنات في الضفة الغربية، وبعض وزراء الائتلاف الحكومي، وأبرزهم جيلا غمليئيل وزيرة العلوم والابتكار والتكنولوجيا وعضو الكنيست عن حزب الليكود.
وأصدرت منظمة (السلام الآن) الإسرائيلية بيانا قالت فيه إن الضم الرسمي للأراضي الفلسطينية المحتلة يخدم أقلية دينية متطرفة، وسيؤدي إلى كارثة ودمار، وسيدخل إسرائيل في دائرة لا نهاية لها من الصراع والحرب التي يرغب معظم الإسرائيليين في إنهائها، واتهمت نتنياهو بالتضحية بالرهائن من أجل الاستيطان في غزة، وإلحاق الضرر بمصالح إسرائيل الوطنية والأمنية، وتحويلها إلى دولة فصل عنصرى.
ونشرت صحيفة (هاآرتس) العبرية مقالا افتتاحيا يوم الخميس الماضي بعنوان “إدارة ترامب الجديدة تدفع بعجلة العد التنازلي نحو نهاية إسرائيل الديمقراطية”، عبرت فيه عن قلق داخلي لدى قطاع عريض من الإسرائيليين على مستقبل دولتهم بسبب سلسلة التعيينات التي كشف عنها ترامب لكبار المسئولين في فريق إدارته القادمة، حيث اتضح أنهم من الصقور المعروفين بصلاتهم الوثيقة باليمين الإسرائيلي، المؤيدين للاستيطان والضم وتحقيق حلم إسرائيل الكبرى.
ومن هؤلاء المعينين وزيرا الخارجية والدفاع ومستشار الأمن القومي وسفير أمريكا لدى إسرائيل، ومندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، وهؤلاء جميعا يملكون سجلا حافلا بالخطاب المتشدد الداعم لإسرائيل، لكنهم ـ وفقا للصحيفة ـ نذير شؤم بالنسبة للذين يطمحون إلى العيش في دولة لا تحكم أمة أخرى، ولا يوجد بها نظام فصل عنصري.
أما بالنسبة لنا فإن تعيينات ترامب للمناصب العليا في إدارته تدفعنا إلى الاعتقاد بأن سياسته بدأت تتشكل، وتبعث بإشارات صريحة إلى ميله الواضح لإسرائيل، وخيانته للوعد الذي قطعه للناخبين من أبناء الجالية العربية والإسلامية في أمريكا خلال جولاته الانتخابية، حين تعهد لهم بأنه “القادرعلى إيقاف الحرب وإحلال السلام في الشرق الأوسط”، لكنها خيانة مشروعة ومبررة من وجهة نظره، وسابقة أفعاله لا توحي بالصدق أبدا فيما وعد أو يعد به، والعيب ليس فيه، وإنما فيمن صدقه.
وعلى كل حال، لن يكون ترامب أسوأ من بايدن، الذي خدع العالم بالحديث لأكثر من عام عن إيقاف الحرب، بينما هو يزيدها اشتعالا بإمدادات عسكرية فائقة وغير مسبوقة لإسرائيل، وتحدث كثيرا عن حل الدولتين، لكنه فعل كل شيء للحيلولة دون هذا الحل، وكان حريصا على أن يظل “حل الدولتين” شعارا لفظيا غير قابل للتحقق على أرض الواقع، وخدع الناخبين المتحمسين لإيقاف الحرب مثلما فعل ترامب، فوجه إنذارا لنتنياهو بضرورة اتخاذ إجراءات خلال 30 يوما لإدخال المساعدات إلى غزة، ولكن عندما انتهت المهلة بغير استجابة تجاهل الأمر تماما كأن شيئا لم يكن، رغم صرخات منظمات الاستغاثة الدولية مما أحدثته حرب الإبادة من خراب ودمار.
الأمل في الله وحده، وبندقية المقاوم، ودعوات الصالحين.