شهادتي ضمن ملتقى الرواية الفنطاستيكية في أكادير.
يعد “الصدق الفني” من أهم ما يسعى الكاتب إلى تحقيقه في رواياته ، فنجاح الكاتب في عمله يتوقف في جانب كبير منه على مدى إقناعه للقارئ بإمكانية حدوث ما يحكيه له ، لأن الإيهام بواقعية الأحداث يدفع القارئ للتعاطي مع الرواية بشكل جدي و محفز ، و وعيا منه بذلك يسعى الكاتب إلى تحقيق هذا الإيهام بشتى الوسائل ،و تعد – في هذا الصدد- الإحالة على أماكن بعينها أو تواريخ محددة أو شخصيات ذات هويات معينة سبيلا من سبل الإيهام ، الذي غالبا ما تنطلي حيله على المتلقي،بل يمكن أن أذهب أبعد من ذلك و أعتبر توظيف الضمائر في سرد الأحداث و خاصة ضمير المتكلم يندرج ضمن هذه اللعبة الجميلة ، التي يسقط في شباكها الروائي اختيارا و القارئ جبرا و إكراها ، رغم أن كليهما يعي بأن الرواية أو القصة ليست – في نهاية المطاف- سوى “كذبة متفق عليها بين الطرفين”.
لعبة الإيهام هاته تغدو أكثر إثارة ، حينما يلجأ الكاتب إلى توظيف بعض عناصر الأدب الفنطاستيكي في رواياته ، فلا أحد يجهل أن مكونات الأدب الفنطاستيكي ضاربة في عمق الخيال ، الذي يضطرب في رمال متحركة لا تستقر على حال ، و لا يجمعها بالواقع أو “الحقيقة” غير بعدها الرمزي ، الذي يحتاج إلى كثير من التأويل من خلال اللعب بالمعاني القريبة و البعيدة على حد سواء.
لكن كيف يصبح الفنطاستيك جزءا من لعبة الإيهام؟
هنا بالتحديد تكمن براعة الكاتب ، فأن يقنع قارئه بأن هذا العنصر الفنطاستيكي قابل للتحقق ، فذلك في رأيي يشكل قمة الإيهام و بالتالي أوج الإبداع الروائي..
نعرف جميعا أن الأدب الإنساني بدأ فنطاستيكيا ، فليست أساطير البابليين و الآشوريين و الكلدانيين و بعدهم المصريين القدامى و قصص العبرانيين و بعض ما جاء في كتب التفسير الإسلامي الخاصة بقصص الخلق الأولى سوى تجليات للفنطاستيك ، رغم أن القصدية قد لا تكون حاضرة ..لم أزعم ذلك؟
بكل بساطة لأنها توفرت على صفة الإقناع أو في حالات أدنى صفة الشك ، و هل الفنطاستيك سوى الأثر الذي يخلفه هذا النوع من الأدب في مستمعيه و قارئيه ، و المتمثل في التردد و الحيرة و الشك في أن الأمر قد يحدث أو لا يحدث أو على الأقل قابل لذلك..كما أن الأساطير لم تفصل ما بين الإنساني النسبي و المتعالي المطلق ، بل جعلت كل منهما في خدمة الآخر.. أليست أسطورة كلكامش سوى أدب فنطاستيكي ، يتوفرعلى قدر كبير من سمات هذا الأدب.. فما يتعرض له كلكامش ضمن أسطورته الجميلة يشعر القارئ بالشك و الحيرة و يتوقع أن الأحداث قابلة للحدوث ، فكاتب الأسطورة أو كتابها لم يفصلوا بين المطلق و النسبي ، لكنهم في الأخير انتصروا للنسبي أي للإنسان ، فالبطل رغم قوته الخرافية سيواجه ضعفه و نسبيته ممثلة في فكرة الموت ، فما إن قضى أنكيدو نحبه حتى واجه الإنسان في كلكامش عمقه ، و تصرف كإنسان فان.
هذا الحضور القوي للفنطاستيك في الأساطير و الديانات بشتى تصنيفاتها، يجعل منه مكونا عميقا للوعي الفردي و الجماعي للبشر، لذا نجد له هوى قويا في النفس و الوجدان بل في الأذهان كذلك..
و سرعان ما يقبل عليه القارئ و يتماهى معه..
مالذي يجعل مثلا لقصص السندباد البحري في ألف ليلة و ليلة
كل هذه السطوة على أذهان القراء و وجدانهم ، إنها بالضبط تلك الانفلاتات المتعالية عن الواقع ، التي سلبت أذههاننا
إنها تجسد الرغبة في الانعتاق و إيجاد الحلول المناسبة ، فإن لم تتأت بالعقل و المنطق ، فمرحبا بها قوية و مغرية ، قادمة من عالم الجن و الساحرات و العمالقة و جبل القاف.
في كتاباتي الروائية اهتممت بالبعد الفنطاستكي في بعض النصوص ، فوظفته بشكل عرضي في بعضها و بشكل أساسي في بعضها الآخر. فعلى المستوى الأول يمكنني الحديث عن بعض الأحلام الغرائبية ، التي لا ترقى إلى اعتبارها أدبا فانطستيكيا ، لكنها تحيل عليه ، في رواية “رجال و كلاب” يربي الطفل جروا في حلمه بعد أن منعه أبوه من تربيته في الواقع ، فيكبر الطفل و يكبر معه الجرو في الحلم حتى يصبح كلبا ناضجا و مخيفا.
كذلك الشأن في رواية “رقصة العنكبوت ، التي حضر فيها الحلم الغرائبي من خلال ما رآه الفنان يوسف- الشخصية الرئيسية- في منامه و خاصة ما يتعلق بالعنكبوت ، التي تضخمت حتى احتلت البناية بأكملها…نفس الشيء حدث في رواية “ليلة إفريقية” التي تتحول فيها كريستينا بطلة الرواية التي ستكتبها الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية و هما: يحيى البيضاوي وأمل المغيث ، و التي تتحول في حلم “أمل المغيث” إلى غزالة يطاردها قناص أوروبي.
بالطبع قد نختلف في إمكانية تصنيف الأحلام ضمن الأدب الفنطاستيكي ،بيد أننا لا يمكننا أن ننفي قرابتها له.
أما توظيف الفنطاستيك كعمود فقري للرواية ، فتم في روايتين و هما “عائشة القديسة ” و ” ابن السماء”.. في الرواية الأولى حاولت استثمار خرافة “عايشة قنديشة” في بناء الرواية ، مع وعيي التام بأن ما قمت به قد يندرج ضمن ” الغريب” غير أن المطلع على الرواية سينتبه – لا محالة- إلى نهاية الرواية ، حيث تركت الباب مواربا و لم أحسم في الأمر، أقصد هل “عايشة قنديشة” حقيقة أم خيال ، مما يجعل انتماء الرواية إلى الأدب الفنطاستيكي له ما يبرره.
في رواية “ابن السماء ” يمكن الحديث بدون تحفظ عن الأدب الفنطاستيكي بشكل جلي و واضح ..إذ انشغلت في كتابتها بتبرير مسألة قدوم الشخصية الرئيسية “ابن السماء” أو “سيدي الساكت” من السماء حقيقة لا مجازا.
هل انطلت الحيلة على القارئ ، و هل استطعت إيهامه بإمكانية حدوث واقعة نزول الشخصية الرئيسية من السماء ؟ لست أدري ، لكنني على يقين بأن كل من قرأ الرواية سوف لن يحسم في انتماء “ابن السماء “إلى عالمنا الأرضي ، و قد يرجح انتماءه إلى العالم السماوي ..
المهم أظن أن الشك سيظل يتردد في ذهنه . و هل الفانطستيك – في المحصلة النهائية- غير هذا التردد و الشك في تصديق ما يحدث؟