بعد خمسة أيام، وبالتحديد في 3 فبراير القادم تحل الذكرى الخمسون لرحيل أم كلثوم صاحبة أنصع سمعة في تاريخ الغناء المصري والعربي.
وأذكر جيدًا د أنه عقب وفاتها في 3 فبراير 1975 بنحو شهرين استضاف النجم سمير صبري الموسيقار الأعظم محمد عبدالوهاب في برنامجه الشهير آنذاك (النادي الدولي) وسأله بوضوح: (ما إحساسك بفقدان السيدة أم كلثوم؟)،
فقال الرجل بنبرات حاسمة: (أم كلثوم هي صاحبة الصوت الذي لا يعرف المستحيل). ثم أضاف عبدالوهاب:
(لو خطر على بال أم كلثوم أن تضيف شيئًا للحروف أو الجمل التي تترنم بها في أثناء الغناء لتزيد من روعتها وحلاوتها، تنفذها في الحال بكل يسر ودون عناء)،
فهي تملك (ذبذبات ربانية) تعمل على تحسين أداء الأنغام التي تصدر عن صوتها، وهذا الأمر لا يتوفر لأي مطربة أخرى بهذه الروعة على الإطلاق.
في هذا اللقاء، الذي أذكر إذاعته جيدًا للمرة الأولى، يكشف صاحب (الجندول) عن أسرار أخرى في حياة أم كلثوم وطبيعتها الشخصية،
فيقول إنها لم تكن تنام بعد انتهاء حفلتها، بل تظل مستيقظة حتى ظهر أو ليل اليوم التالي، لأن أعصابها بعد الغناء تغدو مشدودة متوترة من فرط الانفعال وهي تشدو وتصدح.
ولأن عبدالوهاب حكّاء من طراز فريد يواصل الرجل في حديثه الشيق مع سمير صبري إخبارنا عن عمق علاقته بالسيدة أم كلثوم التي بدأت منذ كانت تأتي من قريتها بمحافظة الدقهلية لتغني في صالة (سانتي) ثم تعود، قبل أن تستقر نهائيًا بالقاهرة منذ عام 1923، فكان يناديها (ثومة)، وتخاطبه: (يا محمد).
يحكي صاحب (في الليل لما خلي) عن كيف تحول بيت أم كلثوم بعمارة بهلر بالزمالك، قبل الانتقال إلى فيلتها، إلى ندوة ثقافية فنية يحضرها كوكبة من أكابر ذلك الزمان،
وكيف تخلصت من أجواء الإنشاد الديني لتثب إلى بحر الغناء الحديث، فهي التي حررت الغناء من (أداء العوالم) بما فيه (لم النقطة)، وجعلته فنا راقيًا يقبل عليه ذوو الذوق الرفيع.
الطريف أن صاحبة أنصع سمعة في تاريخ الغناء المصري والعربي كانت عاشقة للبيض. لكنها لم تكن تتناوله قبل موعد حفلتها بعشرة أيام على الأقل حتى لا يسبب لها مشكلات هضمية،
ولكنها، عقب انتهاء الحفلة، تدخل في حديث تليفوني سائلة عبدالوهاب: (أكافئ نفسي بكم بيضة؟)، فيقول لها: (عشر بيضات)، فتعود وتقول: (لا… لا… تكفي اثنتان)، فيرد: (خليها ثلاثة)، فتوافق.
يفاجئنا عبدالوهاب بأن أحاديثه التليفونية مع أم كلثوم قد تمتد إلى ساعتين أحيانًا، فلما سأله سمير صبري: (فيم تتحدثان؟)،
أجاب: (في كل شيء… في الحياة… في الطعام… في الفن… في الأدب… في الموضة… في شباب هذه الأيام… في الموت)، ثم استطرد موضحًا أن أم كلثوم كانت تعشق شعر شوقي وتعده أهم شاعر في تاريخ اللغة العربية،
وكانت مفتونة ببيت شعري في (مجنون ليلى) حين يشير أحد المارة إلى قبر ليلى الذي يستقبل العديد من الزوار، فيقول: (يُزار كثيرًا، فدون الكثير، فغبًّا، فيُنسى كأن لم يُزرْ). وكلمة (غبَّ) تعني جاء زائرًا بعد أيام، أو زار في أوقات متباعدة.
ويؤكد عبدالوهاب أيضًا أن أم كلثوم كانت تؤمن أن سلوك الفنان جزء لا يتجزأ من فنه، فكانت تحيط نفسها وفنها دومًا بالاحترام والإجلال، وهذا لا يتأتى إلا بالابتعاد عن الابتذال في أي شيء.
وسأل عبدالوهاب نفسه بصوت عالٍ:
(هل ستبقى أم كلثوم، أم أن التطور مع الزمن سيجعلها مجرد تاريخ فقط؟)،
ويجيب الرجل بينما الدهشة تستحوذ على عينيّ سمير صبري:
(أم كلثوم ستبقى لأن أساس البقاء في الفن هو الإتقان، مع الجمال والموهبة والاهتمام، وكل هذا متوفر في فن ام كلثوم).
أجل… أم كلثوم رمز الإتقان المطلق، لذا ستظل تسحرنا بغنائها المعجز من قرن إلى آخر.