يستمر القطاع الخاص غير النفطي بالتراجع نتيجة لعدة أسباب، منها ما ذكرناه من ارتفاع معدلات التضخم، تراجع موارد الدولة من النقد الأجنبي، مما أثر على تدبير النقد الأجنبي لتوفير مستلزمات الإنتاج والعِدد والآلات للقطاع الخاص غير النفطي. ويرجع هذا الانخفاض إلى ضعف الطلب من جانب العملاء وزيادة الضغوط التضخمية التي تفاقمت بسبب ضعف الجنيه المصري مقابل الدولار.
والأمر الآخر هو استمرار سيطرة القوات المسلحة على قطاع كبير من النشاط الاقتصادي المدني، مما حد من فرص توسع القطاع الخاص، واستفادته من المشروعات الحكومية، ومشروعات شركات قطاع الأعمال العام، وكذلك ارتفاع تكلفة التمويل بالجهاز المصري.
ومن بين تلك الأسباب انخفاض قيمة الجنيه المصري، والذي أدى ارتفاع فاتورة الواردات اللازمة لإنتاج السلع والخدمات، وكذلك ارتفاع تكاليف الإنتاج، من خلال ارتفاع أجور العمالة.
ماذا جنت مصر من سياسة الخصخصة؟
خصخصة المشروعات العامة وشركات قطاع الأعمال العام في مصر باب مفتوح على مصراعيه، سواء كانت الخصخصة بشكل جزئي أو بيع لمستثمر استراتيجي، وبخاصة أن المشروعات التي يتم خصخصتها هي شركات رابحة، سواء كانت مشروعات إنتاجية أو بنوكا. وللأسف فإن عوائد الخصخصة إما يتم التصرف فيها لسداد ديون، أو دفع جزء من عجز الموازنة، وهو ما يعني التفريط من وجوه متعددة، منها حرمان الموازنة العامة من عوائد وأرباح هذه الشركات والمشروعات، وكذلك استنزاف موارد مصر المحدودة من النقد الأجنبي، حيث يقوم المشترون نهاية كل عام بتحويل أرباحهم للخارج.
وثمة نتيجة ثابتة عن دراسات، تناولت تجارب الخصخصة، أنها لم تؤد إلى زيادة كبيرة في توفير فرص العمل، كما أنها لم توطن تكنولوجيا جديدة، ومعظمها لم يأت بمشروعات جديدة، ولكنها تستحوذ على مشروعات قائمة.
لماذا لا تجدي الاستثمارات الأجنبية بمصر؟
سمحت مصر منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين باستقدام الاستثمارات الأجنبية، وكثيرا ما عولت الحكومات المتعاقبة على تلك الاستثمارات، إلا أن أسوأ ما تم هو التوسع في استقدام الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة من خلال البورصة، أو من خلال تعاملات الأجانب في الدين العام.
فمصر بحاجة إلى تحسين أداء ناتجها المحلي الإجمالي، وإلى توفير فرص عمل للداخلين الجدد لسوق العمل، ولكن الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مصر تركز على قطاع النفط الذي يعود جانب كبير من نتائجه الإيجابية على الشركات الأجنبية. ويستحوذ قطاع النفط على نسبة 70% تقريبا من الاستثمارات المباشرة في مصر، وجزء صغير يوجه للصناعة، بحدود 10% في أحسن الأحوال، بينما قطاع الزراعة لا ينال سوى أقل من 1%.
ومن هنا فالاستثمارات الأجنبية المباشرة لم يحسن توظيفها، ولم توضع لها شروط تعود بالنفع على الاقتصاد المصري، كما أن الاستثمارات غير المباشرة كانت في إطار المضاربات بالبورصة، أو الأموال الساخنة التي تتعامل في الدين العام من قبل الأجانب.
ما انعكاسات مفاوضات مصر مع صندوق النقد على المواطن؟
عادة ما تصطدم أجندة صندوق النقد الدولي برغبة شعوب الدول المتلقية للقروض ومن بينها مصر، فليس من صالح المواطن رفع الأسعار في ظل ثبات الدخول، وليس من مصلحة المواطن تقليص عدد العاملين بالحكومة في ظل عجز القطاع الخاص عن توفير فرص عمل بشكل كاف يستوعب العاطلين عن العمل أو الداخلين الجدد.
كما أن الحزمة المالية التي فرضها الصندوق على مصر، برفع الضرائب والرسوم، كان على حساب مستوى معيشة المواطن، كما أن الديون التي حصلت عليها الحكومة المصرية من صندوق النقد، أو بواسطته، لم يشعر بها المواطن في مختلف جوانب معيشته.
فصندوق النقد يمثل صورة سلبية في ذهن المواطن المصري، في ظل اعتماد الحكومة عليه بشكل كبير، وعدم نجاحها في تبني مشروع تنمية حقيقي يعتمد على الذات.
لماذا تفقد الموازنة تأثيرها على واقع الاقتصاد المصري؟
حتى يكون للموازنة العامة للدولة تأثير إيجابي على حياة المواطن، فلابد أن يشارك فيها، لكي يضمن الاستغلال الأمثل للموارد والإنفاق العام، كما ينبغي أن يقوم البرلمان بدور رقابي بارز على السلطة التنفيذية، ليضمن تطبيقا حقيقيا لمخصصات الموازنة.
ولكن للأسف لا تتم مشاركة المواطن في وضع الخطة أو الموازنة، ولا أدل على ذلك من أن المجالس الشعبية المحلية غير موجودة منذ حلها بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، كما أن البرلمان لا يمارس دوره الرقابي بشكل حقيقي، بسبب طبيعة الانتخابات التي أتت به، فهو برلمان يتضامن مع الحكومة أكثر من أنه يراقبها.
ومن الجانب المادي بالموازنة، فهي للأسف موازنة محكومة بما يسمى النفقات الحتمية، فالأجور والدعم والفوائد والنفقات الجارية بنود لا يمكن إلا الوفاء بها، كما أن الاستثمارات الموجودة تخص الحكومة فقط، ومعظمها تأتي في قطاع الإنشاءات والمقاولات.
ولايزال باب استنزاف الموارد العامة مستمرا من خلال بوابة الصناديق الخاصة، سواء في الهيئات الاقتصادية أو القطاع الإداري والمحليات بالدولة، وكذلك تلك الصناديق الخاصة بمؤسسات الجيش والشرطة.
ماذا عن معدلات الفقر في مصر؟
تظهر البيانات الرسمية أن معدل الفقر بلغ نسبة 29.7% من السكان خلال العام المالي 2019-2020، ولم يفصح الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن البيانات الحديثة، حيث يصدر تلك البيانات كل عامين، والتي كان من المفترض أن ينشرها منتصف عام 2022.
وبلا شك، فإن ما أتى من ممارسات اقتصادية بعد عام 2020 يعكس المزيد من النتائج السلبية التي تؤدي إلى زيادة معدلات الفقر، والتي كان آخرها أن معدل التضخم بلغ 40% بنهاية فبراير/شباط 2023، وليس هذا فحسب، فوزارة التضامن الاجتماعي أعلنت أن عدد الأسر الفقيرة المستحقة لمعاشات تكافل وكرامة تصل إلى 8.5 ملايين أسرة، بينما عدد من يحصلون على تلك المعاشات بحدود 3.5 ملايين.
ويتفاقم الوضع سواء بالنسبة للفقراء في مصر لأن معظمهم من أصحاب الدخول الثابتة، وثمة فجوة كبيرة بين الأجور والأسعار في المجتمع، فحتى الحد الأدنى للأجور الذي أعلنت عنه الحكومة عند 3500 جنيه، في موازنة 2023-2024، يقل بكثير عن مستوى توفير المتطلبات الأساسية للأسرة المصرية.
ساهمت الأسواق الخارجية في تقليص تراجع المبيعات غير المحلية، ما دعم الاقتصاد بصورة طفيفة. كما شهدت السوق الداخلية تحسناً بفضل زيادة السيولة، ما سمح للشركات بإعادة تكوين مخزوناتها للإفادة من التحسن الموقت في النشاط الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت التدفقات النقدية بالدولار الأميركي من البنك المركزي في تعزيز قدرة الشركات على مواجهة التحديات الاقتصادية.
على الرغم من هذا التحسن النسبي، لا تزال الأنشطة التجارية تواجه صعوبات كبيرة نتيجة للتحديات المستمرة. يعاني السوق حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي، بحيث تضعف الثقة بسبب التحديات الإقليمية والمحلية المستمرة. يواجه السوق انخفاضاً في القدرة الشرائية للمستهلكين المحليين، مقلصاً بذلك قدرة السوق على استيعاب الطلبات الجديدة. وأخيراً، سجلت مشتريات المدخلات والمخزونات تراجعاً للشهر الخامس على التوالي، ليعكس بذلك حالة من ضعف النشاط التجاري.
يبقى التفاؤل، في ظل هذه الظروف الصعبة، محدوداً بسبب استمرار المخاوف المتعلقة بالتصعيد الإقليمي وتأثيراته السلبية على النظرة المستقبلية للشركات. فقد كانت الحرب أحد العوامل الرئيسة التي أدت إلى تراجع نشاط القطاع الخاص في لبنان، حيث أسهمت في تدهور سلاسل التوريد وارتفاع التكاليف، ما أثر سلباً على قدرة المستهلكين الشرائية. ومع ذلك، هناك بعض العوامل الذي قد يساهم في دعم الانتعاش إذا تحقق، أبرزه توفير السيولة واستقرار سعر صرف الدولار. كما أن التحسن المحتمل في البيئة الإقليمية قد يسهم في تعزيز الثقة في الاقتصاد اللبناني من جديد.–
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا