نتفق على حقيقة ثابتة لا جدال حولها، وهي أن الإنسان عندما يخلص، ويقدم من الأعمال أطيبها، ويحاول أن يصل إلى مستويات الإتقان؛ فإن نتيجة ذلك نراها في توفيقه، ونجاحه، وبلوغه الهدف، الذي يسعى نحوه؛ ومن ثم يتأتى النصر المبين في عقيدتنا من إرادة، وعزيمة، وعمل متواصل، ووجدان، يوجه صاحبه نحو الإيمان بقضيته؛ فيصبح بذل النفس، والدم، والرغبة في نيل الشهادة، أمرًا مرغوبا فيه دون شك، أو ريب، وهنا نتذكر ملْحمة العاشر من رمضان سنة 1393هــ الموافق السادس من أكتوبر 1973م، والتي نستلهم منها دروسا لا نهاية لها.
لم يكن يتوقع العدو أن شعيرة الصيام، لدى صاحب الحق، والأرض، تمده بطاقة، وعزيمة، وإرادة، لا تلين، ولم يتوقع أن البذل، والعطاء، والتضحية، تكون غاية المؤمن بقضيته في هذا الشهر الفضيل، ولم يتوقع أن هناك قوةً، ورباطا، وجأشا، يتضاعف مقداره، في مناخ شهر رمضان؛ حيث ارتفاع المعنويات، والتخلص من كل ما يصقل النفس، من الهموم، والغرائز؛ فلا ترى إلا الإقدام، والثبات المتلازمين في ميدان، وساحة القتال.
إن تحطيم أسطورة خط باريف الحصين، وشتى القلاع التي تحصن بها العدو، لم يكن مستحيلًا لدى جيل، قد تحلى بالصبر، وتحمل الكثير، وتمسك بالعقيدة السمحاء، التي قد حثته على أن القوة في مقامها قد أضحى استخدامها فرض عين، وأن كسر المعتدي في واحة الوغى، أمر لا تهاون فيه، وأن دحر العدو، وتحطيم أسطورته، أمر حتمي؛ فنصر العاشر من رمضان لم يكن عاديًا؛ فقد ترسخ في نفوس المصريين حينئذٍ، أن الإيمان القائم على الإخلاص في المعتقد، والمدعوم بوجدان قد امتلأ باتصاف قيمي نبيل في قمته، من حيث الشرف، والأمانة، وطلب الشهادة، كل ذلك، ويزيد من مسببات النصر المبين، على عدو قد تغطرس، وظن أن لا يقدر عليه أحد.
إن عقيدة الدفاع عن الأوطان، ودحر المعتدي، تتأتى من تمسك الإنسان بمعتقد، يؤكد هذا المعتقد في نفسه أن الولاء، والانتماء، يعنيان الاستعداد، والجاهزية لخوض المعركة؛ فلا مجال للتراجع، ولا منزع من هدم الحصون على قاطنيها؛ فتطهير الأرض، والحفاظ على العرض، ورد الكرامة، هي عبارة عن ثوابت قد تمخضت عن إيمان حقيقي لدى المقاتل المصري؛ فرغم غياب بعض التجهيزات المادية، أو تواضع مستواها؛ إلا أن جاهزية النفوس، قد حققت المستحيل، وفرضت الأمر الواقع، الذي قد أتى بالسلام بعد القوة.
إن تحديد موعد الحرب في شهر رمضان المعظم، من قبل قيادة سياسية حكيمة، تؤمن بأن العقيدة، وممارساتها حصن زاد المقاتل، وسند يتكأ عليه، في أصعب الظروف، وأحلكها؛ فقد ضرب المقاتل المصري مثالًا ملهمًا ما زال يُدرَّسُ على مدار عقود من الزمان؛ حيث قد زالت الصعاب، وتبددت المشاق، ولم يُرَ من الجندي المصري إلا إصرارًا نحو تحقيق الهدف؛ فما يتملكه من قوة إيمان، يصعب وصفه في بضع كلمات؛ فالأمر تناولته كتب، ودراسات، ومازال في احتياج إلى المزيد منها؛ كي يتم وصف الحالة غير المسبوقة في ميدان المعركة.
قال الله تعالى (ذَلِكَ بِأنَّهم لا يُصِيبُهم ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ في سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفّارَ ولا يَنالُونَ مِن عَدُوٍّ نَيْلًا إلّا كُتِبَ لَهم بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ) (التوبة: 120)، إنه وصف دقيق لعقيدة المقاتل، الذي يتمسك بحقه، ولا يترك الساحة، ولا يلتفت لشهواته، أو رغباته، نحو البقاء في الحياة، بل يرى مكانته في علّيين؛ ومن ثم ترصد صور التضحية، التي أدهشت العالم بأسره، وفي القلب منه العدو الذي صدع بأعلى صوت في أرجاء السماء بأن المقاتل المصري لا مثيل له.
لم يكن الأمر قاصرًا على المقاتل في الميدان، بل شارك الشعب العظيم في تقديم كل صور الدعم، والمساندة المختلفة؛ فكانت هناك صفوف المتطوعين بالنفس، والمال، والدم، وتقديم الرعاية؛ فما أعظم العطاء في شهر العطاء!، وما أفضل العمل!، الذي يكون من أجل تعزيز ميدان المعركة بكل ما تملك، ولو بكلمة واحدة؛ فقد رأينا أن (الله أكبر) قد دمرت معنويات العدو، وهزّت أركانه.
ستظل ذكرى العاشر من رمضان في نفوسنا معززة؛ لاصطفافنا خلف راية الوطن، والقيادة السياسية، وجيشنا العظيم، وجميع مؤسساتنا الوطنية؛ لتحيا مصر أبد الدهر.. محبتي للجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر