الإنسانية كلها رحم واحدة ؛ فجميعهم لآدم ينتسبون ، وبصفاته الخَلْقِية يعرفون ؛ لذا كان عليهم أن يتعارفوا ، وبصفات الخير يتكاملوا ، وبالمودة والرحمة يتواصلوا ، واضعين نصب أعينهم “دائمًا” أصلهم ومآلهم.
ومن المواقف التي تبين هذه الحقيقة ما جاء أن رجلًا قدم على أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان يستأذن في الدخول عليه فقال له الحاجب: من أنت؟ فقال الرجل: أخو الخليفة ، فدخل الحاجب على الخليفة ليعلمه أن رجلًا بالباب يزعم ويقول: إنه أخوك فقال الخليفة لحاجبه: ألا تعرف إخوتي؟!!! فقال الحاجب: هكذا يزعم فأذن له الخليفة في الدخول وسأله: أي إخوتي أنت فأجاب الرجل: أخوك من آدم!
فقال معاوية رضي الله عنه: رحم مقطوعة ؛ لأكونن أول مَن يصلها.
لذا وجدنا أن من محاسن الشريعة الإسلامية خطابها للناس جميعًا بصفة الإنسانية التي تعترف بتعدد الثقافات والانتماءات والاتجاهات وبذلك استوعبت كل طوائف المجتمع حماية ورعاية ونصرة.
ونضرب لذلك مثالًا بحال أهل المدينة المنورة عندما دخلها النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت تعج بطوائف وديانات شتى منهم أهل الكتاب ومنهم عبدة الأصنام ومنهم مَن لا دين له ومنهم ومنهم … ومنهم أهل الإسلام.
والإسلام يجمع لا يفرق ، ويقبل الآخر ويتعايش معه ؛ لذا كانت صحيفة المدينة التي جمعت كل هذه الطوائف وكفلت لها الحقوق وأعطتها العهود التي تضمن لها حرية العقيدة وحرية الحركة وحرية العيش وإقامة الشعائر الخاصة بكل طائفة.
فقد جاء من بين ما جاء في هذه الصحيفة : هذا كتاب محمد النبي الأمي بين المؤمنين والمسلمين ومَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم وأهل يثرب من قريش أنهم أمة واحدة من دون الناس.
ثم عدد طبقات المدينة من بني عوف وغيرهم إلى أن قال: وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
ثم ذكر بقية طوائف اليهود وقال في ختام هذه الصحيفة: وأنه مَن خرج آمن ومَن قعد آمن بالمدينة إلا مَن ظلم أو أثم ، وأن الله جار لمَن بر واتقى.
ومن منطلق هذا التوجه…وجدنا شريعة الإسلام أباحت للمسلمين طعام أهل الكتاب ومصاهرتهم مما يؤذن بإقامة علاقات إنسانية حميمية تسمح بتعارف الناس وتقاربهم في البيع والشراء والتجارة والزراعة والصناعة وسائر المعاملات الإنسانية.
قال تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ) والمعنى: أن الله تعالى أسبغ عليكم نعمه وأكمل لكم دينه ويسر لكم شرعه ومن مظاهر ذلك أنه أحل لكم التمتع بالطيبات، كما أحل لكم أن تأكلوا ذبائح أهل الكتاب..
وكما أحل لكم ذلك أحل لكم الزواج بالكتابيات المحصنات ؛ لتشكروا الله تبارك وتعالى على تيسيره لكم فيما شرع ولتطلبوا من وراء ذلكم إقامة علاقات إنسانية سليمة مبناها المودة والاحترام والتعايش المشترك بين الناس جميعًا.
وتخيل معي كيف رمت شريعة الإسلام إلى مزج المجتمع في بوتقة واحدة من خلال إباحة المصاهرة بين المسلمين وبين أهل الكتاب ، تلك المصاهرة التي تسمح بدخول هذا بيت ذاك ودخول ذاك بيت هذا فيتعارف الناس ويتقاربون فيتراحمون فيما بينهم ولكل شرعته ومنهاجه.
وتخيل عندما تثمر هذه المصاهرات الذرية فتجد “مثلًا” طفلًا اسمه أحمد أو عمر أو زيد وخاله جرجس أو مايكل … وله جدان أحدهما عبد الرحمن والآخر ميكائيل مثلا!!! وله جدتان إحداهما فاطمة والأخرى دميانة مثلا!!! وهكذا…
إنه الإسلام دين الإنسانية بحق دين التعايش بصدق دين حرية العقيدة ويسر الشريعة.