يعد الفساد الاداري والمالي, إحدى القضايا الشائكة في أي مجتمع من المجتمعات ولقد وعت المجتمعات إلى خطورة هذه المشكلة وسنت الأنظمة والقوانين من أجل مكافحتها، فقد استخدمت الدول الاستراتيجيات المتنوعة لمكافحة الفساد من ناحية سن الأنظمة والقوانين واللوائح وتفعيل الدور الرقابي للهيئات التشريعية، والهيئات الرقابية واستعمال التكنولوجيا في مواجهة الفساد وتفعيل العقوبات الخاصة بعمليات الفساد كأحد الوسائل الهامة لمكافحة الفساد .ونظراً لتنوع الاستراتيجيات التي تعمل الدولة فيها على مكافحة الفساد في الأجهزة الحكومية
والفساد في ضوء بُعْد المصلحة العامة يقصد به السلوك الذي ينتهك حدود المصلحة العامة أو النظام المدني العام، بقصد تحقيق مكاسب خاصة ، إلا أن مفهوم الفساد في ضوء هذا البعد لا يصلح في المجتمعات الحديثة لتعدد المصالح وتنافسها داخل المجتمع الواحد ، كما أن الصفوة الحاكمة تستخدم هذا المفهوم كإطار تخفي داخله مصلحتها الخاصة ، حيث يستخدم هذا المفهوم كأداة لتزييف وعي أفراد المجتمع، للخلط الواضح بين مصلحة الحاكم ومصلحة الدولة والمجتمع ، والفرد في ضوء هذا المفهوم يمكن أن يتبوأ أسمى المراكز، بقدر ولائه الشخصي للحاكم، بغض النظر عن قدراته ومؤهلاته الموضوعية
يتميز مجتمع الدولة المعاصرة بتنظيمه الإداري المحكم بشكل تتوزع الاختصاصات بين ما هو مركزي وما هو جهوي أو محلي. وتقوم الإدارة بتسيير المرافق العامة وتنشيطها وفق سياسات تخدم التوجهات العامة للدولة.
كما أن منع الفساد مسألة مهمة في السياق الاجتماعي والسياسي، كما يتضح ليس فقط من الحالات الأخيرة من الفساد، ولكن أيضا عن طريق زيادة الوعي بهذه المشكلة. إذ يسبب الفساد أضرار اقتصادية خطيرة تتعارض مع المنافسة العادلة ويضعف الثقة في سلامة وسير عمل الإدارة العامة. من أجل محاربة الفساد على كافة مستويات الإدارة، فمن المهم تعزيز اليقظة تجاه النشاطات المتصلة بالفساد، مع التركيز على منع مثل هذا النشاط بالتدابير الوقائية، بما في ذلك آليات وضع رقابة فعالة والتي تكون ضرورية لمواجهة العديد من العوامل التي تساهم في الفساد.
هو “إساءة استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العامة للكسب الخاص، وهو يحدث على سبيل المثال عندما يقوم موظف بقبول أو طلب او ابتزاز رشوة لتسهيل عقد أو تسريب معلومات عن مناقصة عامة، كما يمكن أن يحدث عن طريق استغلال الوظيفة العامة من دون اللجوء إلى الرشوة وذلك بتعيين الأقارب ضمن منطق المحسوبية أو سرقة أموال الدولة مباشرة
أن الفساد في الدول النامية يمثل مرحلة انتقالية يمكن تجاوزها، فالمظاهر السلبية والضارة للفساد، عادة ما يتم تشخيصها على أنها آلام متزايدة بدلا من كونها تعبر عن مرض مميت. ويشير هذا الاتجاه إلي أن المجتمعات الصناعية المتقدمة في أوربا الغربية وأمريكا الشمالية قد مرت بحالة المجتمع الفاسد وتجاوزته، يؤثر الفساد بشكل خطير على الجانب السياسي إذ تؤدي أثاره إلى تشويه دور الحكومة في العدالة والمساواة في توزيع الحقوق والمكتسبات بين المواطنين، وهذا يؤدي بدوره إلى خلق شعور لدى الفئات المظلومة من المجتمع بالإحباط وضعف الولاء للوطن مما قد يسبب تقويض الشرعية العامة للدولة
ومن المحتمل أن تحذو دول العالم الثالث حذو هذه المجتمعات ، إلا أن هذا الاتجاه يهتم بكل ما هو داخلي ومحلي أمام كل ما هو خارجي وعالمي ، ويركز علي كل ما هو عارض وطارئ أمام كل ما هو نظامي وهيكلي ، فضلاً عن الاهتمام ببعض الاعتبارات الثقافية والاجتماعية والنفسية التي تسهم في تفسير انتشار الفساد ، كما أن الإسهامات النظرية لعلماء الاجتماع في هذا المدخل، تشير إلي استغلال العلم في تدعيم النظام الرأسمالي الإمبريالي وتبرير ممارساته، سواء في الداخل حيث تدعيم القوي الاجتماعية المسيطرة ومساندتها ، أو في الخــارج حيث العلاقات غيـر المتكافئة بين دول المركز ودول المحيط
وكانت الحوكمة والياتها ثمرة هذه الدراسات لمنع حدوث مثل هذه الأزمات أو الحد منها في اقل تقدير، وذلك من خلال مجموعة من الآليات، من أبرزها الشفافية والإفصاح عن المعلومات المالية وغير المالية وإعدادها وفقا للمعايير المحاسبية ذات الصلة، وكذلك تعزز دور وظيفتي التدقيق الداخلي والخارجي، وبخاصة ما يتصل باستقلالية هاتين الوظيفتين وتشكيل لجنة التدقيق من مجلس الإدارة للإشراف عليهما.
تكتسب الحوكمة في الشركات المملوكة للدولة أهمية خاصة، وذلك لأنها مازالت تؤدي دورا مؤثرا في النشاط الاقتصادي في العديد من دول العالم، ومنها العراق، وتمثل جزءا مهما من الناتج المحلي الإجمالي، وتوفر فرص العمل، فضلا عن إنها غالبا ما تكون مسيطرة في الصناعات ذات المنافع العامة، مثل الطاقة، والنقل والاتصالات وغيرها. وان اداء هذه الشركات ذو أهمية كبيرة لعموم المواطنين، هذا من جانب، ومن جاني اخر، اذا ما قررت الدولة خصخصة قسم من هذه الشركات،
فان الحوكمة تعد متطلبا أساسيا من متطلبات الخصخصة ، وذلك لتشجيع المستثمرين على شراء هذه الشركات والاستثمار فيها ، وضمان الحصول على اكبر عائد ممكن من عملية الخصخصة ، وذلك بمنع حالات الفساد المالي والإداري التي قد تكون مرتبطة بذلك .
وهكذا فالفساد في الإدارة يأتي نتيجة التسيب والإهمال واللامبالاة والمغالطة في المفاهيم والانحدار في السلوك الإنساني وغياب الوازع الديني ، فتحدث عملية فوضوية تقود إلى التوجه على غير هدى ، دون ضوابط تحكم وأسس يُعمل بها وخطط تستهدف ، فينجم عن ذلك نشوء بيئة مناسبة لولادة المرض الذي هو الفساد.
يتميز الفساد الإداري بهذه الخاصية فهو كالسرطان ينخر أعضاء الجهاز الإداري تدريجياً إذا وجد البيئة الملائمة، حيث يزداد نفوذ الفاسدين وسلطتهم مما يعطيهم القوة للضغط على سائر الجهاز الإداري، كما أن هذه الخاصية لا تقتصر على حدود الجهاز الإداري بل لها سمة عالمية أي انه قابل للانتقال من دولة إلى أخرى خصوصاً في ظل العولمة.
أي انَ العادات والتقاليد والأعرف السائدة في المجتمع والتي تهيئ مجتمع مناسب لبذرة الفساد الإداري ونموها كالمحاباة والرشوة والمحسوبية وغيرها بالإضافة إلى غياب دور الأسرة والمدرسة عند تنشئة الابن وهو صغير وتعليمه للقيم .
يسهم الفساد الإداري بإعادة تشكيل المشهد الاجتماعي ببعديه الإنساني والقيمي إذ أن ظهور الفساد الإداري والمالي في المجتمع واستشرائه واتساع نطاق مجال العناصر الفاسدة وكسبها للمنافع من جراء الممارسات المنحرفة يعمل على تشجيع العناصر الغير المتورطة بالفساد إلى الميل أزاء هذه الظاهرة في ضوء ما يرونه من المكاسب والمغانم التي تتحقق للمفسدين دون رقيب أو حسيب، مما يؤدي إلى انتشار القيم غير الأخلاقية والانحلال الخلقي، وتقديم المنفعة الشخصية على شرعية الوسيلة وهذه هي نقطة الخطر في الفساد وهي النقطة التي يصاب عندها الجهاز القيمي لمجتمع ما بالخلل نتيجة الفساد ويصيب عندها أخلاقيات العمل وقيمه، مما يؤدي إلى شيوع حالة ذهنية لدى الأفراد تبرر الفساد وتجد له من الذرائع ما يبرر استمراره، ويساعد في نطاق مفعوله في الحياة اليومية
على الرغم من وجود عدة أساليب واستراتيجيات لمكافحة الفساد الإداري، إلا أن هذه الأساليب والاستراتيجيات إذا لم تستند على مرتكزات قوية وفاعلة مثل القضاء العادل والتطبيق الصحيح للإجراءات إضافة إلى وجود نظام ديمقراطي صحيح، قد لا يكتب لها النجاح في مكافحة ظاهرة الفساد الإداري .
وعلى الصعيد الميداني للعمل ومن خلال اللقاءات بالمسؤولين المعنيين بالإدارة المؤسسات التي تعنى بمكافحة الفساد واستطلاع الآراء وبشكل شخصي حول ظاهرة الفساد الإداري يؤكد اغلبهم أن الفساد الإداري “هو نشاطات تتم داخل الأجهزة الإدارية الحكومية والتي تؤدي إلى إبعاد الأجهزة الإدارية عن أهدافها الرسمية لصالح أهداف خاصة سواء كانت فردية أو جماعية “. تعتبر عناصر استراتيجية مكافحة الفساد ” المحاسبة، المسائلة، الشفافية، النزاهة” هي العناصر الأساسية التي تمثل كافة إجراءات النهوض بالأداء للوصول إلى مستويات أداء متقدمة.
أن بقاء المسؤولين لفترة طويلة في موقع واحد يؤدي إلى تغيير سلوكياتهم (إلا البعض النادر منهم). . فيتحولون من أشخاص منتجين إلى أشخاص يتكلون على أجهزتهم وعلى المتعاملين معها.
تؤكد نظريات العلوم السلوكية بأن ظاهرة الفساد نابعة أصلاً من ميل الإنسان الفطري إلى ممارسة السلوكيات الفاسدة ( غير السليمة ) وذلك لأن الطبيعة الإنسانية, طبيعة غير منضبطة وفوضوية إذا ما تغيبت الأخلاقيات العامة في بيئة اجتماعية تفتقر إلى الضوابط والمسائلة القانونية. يعد الجهاز الإداري أول المتأثرين من الفساد الإداري على اعتبار أنه مسرح الجريمة، إذ تقوم مظاهر الفساد بالضغط على الجهاز الإداري للخروج بقرارات غير رشيدة وليست في مصلحة الهدف العام للجهاز الإداري وبالتالي إضعاف كفاءة وفعالية المنظمة.
كما يؤدي الفساد الإداري إلى أضعاف قواعد العمل الرسمية ونظمه المعتمدة في الجهاز الإداري المعني والحيلولة دون تحقيقه لأهدافه الرسمية كلياً أو جزئياً وحرف إمكاناته المادية وطاقاته البشرية عن هذه الأهداف وخلق التشويش بدل الانتظام في عمليات اتخاذ القرارات فيه. كذلك من شأن الفساد الإداري أن يضعف دور القيادات وفاعليتها داخل الأجهزة الإدارية وفي ضوء ذلك يتم التجاوز على الهياكل التنظيمية فليس هناك تحديداً للمسؤولية إذ يستهان في تقييم العمل، ويعم التهرب من المسؤولية والتجاوز على الاختصاصات كما يفقد القرار الإداري استقلاليته ويصبح عرضه للتأثير غير الرسمي. وتعم الارتجالية في اتخاذ القرارات. الأمر الذي يؤدي إلى ضعف كفاءة المنظمة نظراً لصرف الطاقات نحو المصالح والأغراض الذاتية، كـــــــل ذلك يوجد نوعاً من فقدان الحماس والدافعية للعمل وانتشار روح الملل وعدم الانتماء للمنظمة، فضلا عن انتشار الأنانية وعلاقة عدم الثقة بين الموظفين.
دكتور القانون العام ونائب رئيس اتحاد الاكاديميين العرب
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان