الملخص: إذا كانت السلطات السياسية في أي زمان ومكان يجب أن تحرص على أن تكون علاقتها بأعماق المجتمع عامرة بالفهم والرضاء بغية تعزيز شرعيتها، فإن معارضيها يفعلون الأمر نفسه، أو هم يرغبون هذا على كل حال إن استطاعوا، أو يحاولون على الأقل. كما تفعل ذلك أيضاً “الحركات الاجتماعية”، وإن كان كل منها ينشغل بقطاع اجتماعي معين.
ولعل الحركات الدينية هي الأكثر انشغالاً بالوصول إلى أعماق المجتمع، مرة باسم تكليف ديني بنشر الدعوة أو تحقيق الهداية وفق مبدأ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، ومرة لتعبئة الناس حول تصوراتها السياسية والوقوف على أكتافهم من أجل بلوغ السلطة، تحت شعارات “ما لا يزع بالقرآن يزع بالسلطان” و”مهمة الحاكم هي حراسة الدين وسياسة الدنيا” و”الإسلام دين ودولة”.
وفي العالم العربي كانت ظاهرة المد الأصولي بنت “أزمة الاجتماع السياسي العربي” بوجه عام، بل هناك من نظر إلى “الإسلاموية” بشكل عام على أنها “حركة المطحونين في الحضر”، حيث زاوجت الأحياء الفقيرة في القاهرة
مثلا بين الفقر والنزعة الإسلامية المتشددة، وحافظت على هذا التزاوج سعت التنظيمات والجماعات الدينية المسيسة إلى تحقيق العمق في ركاب “التدين الاجتماعي”، أو التدابير الاجتماعية النابعة من الدين والتدين، والتي تبلغ ذروتها في شهر رمضان، وتستقطب حتى غير المتدينين، وتتجلى في أعمال مثل الصدقة دافعة البلاء، وصلة الأرحام، وكفالة اليتيم، وتوظيف الورع والخشوع في تحقيق السلم الأهلي، والاستفادة من المحرم الديني في الضبط الاجتماعي ويرمي هذا إلى تكوين رأسمال اجتماعي عريض، وعابر للطبقات الاجتماعية، يمكن توظيفه في عملية التقدم نحو حيازة السلطة بتحويله إلى رأسمال سياسي، وهو ما تحقق بالفعل على سبيل المثال في مصر خلال وقت مبكر، ففي “نهاية الثمانينات كانت حركات العودة إلى الإسلام قد أصبحت على رأس شبكات متحدية قوية تسيطر في بعض الأحيان على أحياء بكاملها، ثم بدأت التحرك نحو الحيز السياسي
وعلية رأي الباحث أهمية تناول هذا الموضوع فقد تم تكوين رأس المال الاجتماعي هذا في ركاب “العمل الخيري” والذي يتسع ليشمل: إطعام الجائع، وسقاية العطشان، وكسوة العريان، وإيواء المشرد، وكفالة اليتيم، ومساندة الأرامل، ومساعدة المساكين، ورعاية الطفولة والمسنين والأمومة والأبوة وذوي الاحتياجات الخاصة، وإيتاء ذي القربي، وقري الضيف، وإدخال السرور على المحزونين،
وإغاثة الملهوفين وتفريج كربة المكروبين والمنكوبين، وإعانة الضعفاء، وإسعاف الجرحى، ومداواة المرضى، ومنح القرض الحسن للمحتاجين، ومساعدة الغارمين المدينين، والتيسير على المتعسرين، وإعارة المتاع لمن يحتاج إليه، وقضاء الحوائج، وإرشاد الضال، وتأمين الخائف، وتزويج الأيامى، ورعاية عوائل المجاهدين، والعناية بالأجنة لو من حرام، وإيتاء السائل حقه، وتفطير الصائم، ومحو الأمية وتعليم الجاهل ونشر العلم، وتشغيل العاطل، والإصلاح بين المتخاصمين، ومنع الضرر على الناس، وعيادة المريض، ومواساة من مات له عزيز، وتجهيز الميت وصنع طعام لأهله
، وبناء المساجد، وغرس الأشجار، وإجراء الأنهار، وحفر الآبار، والكلمة الطيبة، والابتسامة في الوجه، والبداءة بالخير، وفعل الخير في السر، ومساعدة المسلمين الجدد، وبذل النصيحة للجميع، والبر بغير المسلمين، وإماطة الأذى عن الطريق، ونصرة المظلوم، والنذر للخيرات والفقراء.
إذا تم تسليط الأضواء علي ان مضارب الزكاة والصدقات وأوجه التراحم والتكافل لا تبقى عند الجماعات الدينية المسيسة خالصة لوجه الله تعالى، يروم الأفراد بها حسنات في الدنيا تترجم إلى ثواب في الآخرة، إنما يقصد بها بناء شبكات اجتماعية يمكن تعبئتها في سبيل حيازة السلطة السياسية، سواء عبر الوسائل العلنية المشروعة مثل الانتخابات، أو الطرق العنيفة التي ترفع فيها هذه الجماعات أو بعضها السلاح في وجه الأنظمة الحاكمة والمجتمع، وتحتاج إلى من تسميهم “مجاهدين” أو تضمن ملاذاً وحاضناً اجتماعياً يمدها بالدعم المادي والمعنوي.
وازدادت لاحقاً عملية انخراط التّيار الديني في الميدان المجتمعي، منظِّماً نفسه ضمن جماعات حزبية وسياسية (اجتماعية) ، منذ بدء ظهور حركة الأخوان المسلمين كجماعة دينية محافظة ذات توجّهات سياسية واضحة، ليزداد هذا الانخراط ويتصاعد أكثر فأكثر بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979م على يد آية الله الخميني كحدثٍ تأسيسي مفصلي، رافعةً شعارها المعروف “سياستنا عين ديننا، وديننا عين سياستنا”، في قمة تفجّر اللحظة السياسية للدين الإسلامي.
إذاً، وبتعريف مكثّف نقول بأنّ الحركة الإسلامية هي مجموعة التنظيمات المتعددة الانتماءات والقناعات الفكرية المنتسبة إلى الدين الإسلامي (بمختلف مذاهبه المعروفة)، والتي تعمل في ميدان العمل الاجتماعي والعمومي الإسلامي في إطار نظرة شمولية للحياة البشرية تقوم على أولوية الدين كحالة في الفكر والعاطفة والإحساس والممارسة والسلوك اليومي، وتحاول التأثير في كل نواحي حياة الإنسان المسلم والمجتمع الذي يعيش فيه،
من أجل إصلاحها، وإعادة تشكيلها وفق المبادئ الإسلامية والتعاليم الشرعية التي قال بها السلف الصالح.. وبهذا المعنى، فأية حركة لا تسعى من أجل الحكم أو لا تسعى من أجل شمولية الإسلام لكل الواقع الذي يعيشه الإنسان، ليستْ حركة إسلامية في المصطلح وإنْ كان لها نشاط إسلامي في الواقع.
وعلية فقد بينت نتائج الدراسة كان لانخراط هذه الحركة في واقع الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين دون ارتكازات معرفية مؤسسة ومؤصلة، أنْ تزايدتْ مشكلاتها، وتفاقمت أزماتها السياسية والعملية، فجاءَ الصدام الدّموي مع نخب الحكم العربي والإسلامي (الرافضة لأي تغيير إصلاحي سلمي يلبّي طموحات المجتمع وتياراته وحركاته الإسلامية وغير الإسلامية) مع بداية شقّ (تلك الحركة الإسلامية) لطريق العمل السياسي، ودعوتها العملية القائمة على اعتماد الإسلام كدين ودولة، فَجَرَّ الرفض رفضاً، والتعصب تعصباً، واستسقى الدم دماً، وولّد التطرف والعنف الأعمى من رحم المعاناة والظلم والسجون،
ونشأت الجماعات الإسلامية العنيفة وكبرتْ وتضخمتْ –في ظل العناد والإنكار الرسمي العربي واعتماد سياسة واحدة أمنية وعسكرية عنيفة للغاية في مواجهة عموم الإسلاميين- مع توجّه بعض دعاتها ورموزها ونخبها وتياراتها
(التي انتهجت القوة كطريق أوحد للتغيير السياسي والدعوة التبشيرية وللوصول إلى الحكم) لتبني الدعوات الجهادية والقيام بأعمال عنف وقتل واستباحة للمحرمات الإنسانية والدينية في بلدانهم وفي كثير من بقاع العالم.. وقد كان من المفترض لو كان لدينا نخب سياسية حاكمة واعية ومنفتحة ومهتمة بمصالح البلاد والعباد،
أن تعبّر عن تلك الرؤى الإحيائية الدينية بصورة إيجابية لتحولها إلى مشروع نهضة وتقدم جماعي، ولكنها للأسف واجهتها بالسجون والمعتقلات والتصفيات، مما دفع تلك الحركة الإحيائية (وهي قائمة على الرغبة في تغيير الواقع) إلى مواجهة خيارات كما عبر أحد المفكرين، فإما أن تتمسك بالوسطية والاعتدال، على الرغم من أن الظروف الواقعية لا تساعد على ذلك، أو تتّجه إلى العزلة عن الواقع،
وهنا ينمو التطرف.. أو تتجه إلى مواجهة الواقع وهنا يظهر العنف، خاصةً أن المواجهة السلمية للواقع التي تقوم بها جماعة الإخوان المسلمين (في مصر) كانت تؤدي إلى عنف من الدولة يبرر مناخ العنف الذي انتشر بين التيارات الإسلامية.
واظهرت الدراسة ان استمر العنف والعنف المضاد، ووصلت آثاره التخريبية إلى العالم الغربي، وارتفع الضجيج وعلت الأصوات محتجة، إعلامياً وسياسياً هناك، لتتصاعد وتائر تلك الضجة القوية المثارة حول واقع الحركة الإسلامية، في طبيعة مضمونها الفكري والتاريخي، ومفاهيمها السياسية المختلفة، ومشاريعها العملية وآليات أساليبها الحركية المتنوعة، عند كل حدث يتصل بالحركة الإسلامية، أو بمختلف شؤون الحكم السياسي العربي والإسلامي، في خضم أحداث المنطقة،
وفي أكثر من موقع ثقافي واجتماعي وسياسي يتحرك هنا وهناك، خصوصاً بعد تحقيق تلك الحركات الرافعة للشعار والعنوان الديني الإسلامي، لانتصارات ونجاحات عديدة على مستوى آخر من مستويات الصراع والأزمة، فيما يتعلق بمشروع المقاومة في فلسطين ولبنان، وصولاً إلى ما سمي بـ”ثورات الربيع العربي”، ونجاح الحركات الإسلامية (المعتدلة)
في إثبات وجودها وقوة شارعها الشعبي السياسي، فيما يثار حالياً من حديث واسع ومتواصل في العالم كله عن مواضيع التطرف والتعصب والتكفير والعنف والإرهاب والسلفية الجهادية وغيرها، هذا الحديث الذي أصبح –على ما يظهر في مختلف الدوائر السياسية ووسائل الإعلام الغربية والرسمية العربية والغربية – سمةً لازمةً لهذه الحركة في محتواها الفكري، وآليات عملها الحركية المتعددة في سياق الحياة العامة وعلى المستويين الداخلي والخارجي وكأنه يراد بهكذا حديث معمم ومضلل إلصاق كل تلك التهم السلبية السيئة بجسم كافة الحركات الإسلامية خصوصاً منها ذات التوجهات السياسية والفكرية الوسطية المعتدلة، وتحميلها لوحدها فقط مسؤولية الفشل في تقدم المشروع النّهضوي التاريخي العربي المقيم منذ عقود وربما أزمان طويلة..
وعدم التمييز العقلاني بين تيارات وأحزاب ورؤى ومصالح سياسية واعتقادية متضاربة، في الفكر والمنهج وأسلوب العمل والدعوة، وعدم التّدقيق والنّظر بإمعان لواقع العرب والمسلمين وما فيه من تردي وتدهور سياسي وتخلف مجتمعي، وسياسات تمييز سياسية “عنصرية”، تتأسس على رؤية عسكرية أمنية قمعية ظالمة وباطشة بحق الإسلاميين بالذات، والتي تقوم بها نخب الحكم العربي، التي تحتكر العمل السياسي والاقتصادي، وتدير ظهرها لأية إصلاحات جدية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية..
لتأتي القضية الأكبر – في مواجهة هذا الواقع الظالم- في التلاعب السياسي، وتَجْيير الدين لصالح السياسة من قبل هؤلاء الساسة والنخب السياسية في الغرف السرية المغلقة.
وخلصت الدراسة الي من هنا ينشأ ويتفجر فكر العنف الديني كما ذكرنا، من مناخات الإقصاء والاستبعاد المنظّم، ومنع أحزاب وتيارات الإسلاميين (المعتدلين والوسطيين) من حقهم في التعبير، الأمر الذي يدفع هؤلاء للتخفي والنزول للعمل السري تحت الأرض، فكراً وسياسة وعملاً، فينطلق فكر “التأسلم” (الظلامي) البعيد عن معنى وروح الدين الحقيقي،
والذي سعى ويسعى أصحابه فعلياً (عن وعي أو لا وعي) للحطّ من الدين إلى مستوى أيديولوجيا سياسية ضيقة سعياً للوصول إلى السلطة…وأيضاً ينشأ هذا العنف ويتولّد من عمق ما تعانيه الأمة العربية والإسلامية اليوم من استباحة للعمق العربي، ومحاولات إقليمية ودولية لإحداث مزيد من الانقسامات والشروخ الجديدة في جسد الأمة، وتأجيج الداخل العربي بالصراعات الطائفية والإثنية، وإثارته بالاضطرابات والمشاريع الانقسامية الخطيرة لاستيلاد كيانات وتنظيمات أيديولوجية متصارعة..
ويتفجر العنف أيضاً من بقاء الدين في أطواره الأولى بعيداً عن التجدد والانفتاح على الحياة والعصر، ومن عدم القدرة على تحويل القراءات الدينية (وهي بمعظمها قراءات مغلقة ومجيّرة سياسياً) إلى قراءات عصرية واضحة وواقعية خالية من معاني وقيم الغلو والتطرف، لتكون منتجة فاعلة تحلق بقيم التسامح والتصافي الإنساني، بعيدة عن روح الاستغلال السياسي السلطوي والاستراتيجي والأيديولوجي لنصوص الدين.
ومن الطبيعي أنْ نؤكّد هنا على أنّ هذا الجدل الإعلامي لما يسمى بـ “الإسلام المتطرف!” أو “الإسلام التكفيري!”، كخطاب تعميمي مضلل، لا يتوافق أبداً مع ما عرف عن طبيعة الإسلام المعتدل في فكره، وانفتاح نصوصه، وتسامح ومرونة تشريعاته، وإيمان معظم أتباعه وأهله ونخبه بالحوار الهادئ العقلاني والمتوازن الموصل إلى الحقيقة..
نعم هناك كثير من الحركات والنخب الإسلامية التي ارتكبت بعض الأعمال اللا إنسانية المنافية لأبسط قواعد ومبادئ الأخلاق عن طريق أفراد مسلمين منظمين (وموظفين) سياسياً لديها .. ما قد يسيء إلى تلك الصورة الناصعة عن واقعية الإسلام المعتدل، ويساهم في تثبيت الصورة النمطية (الاستشراقية) المشوهة والمعروفة عن المسلم لدى الشعوب والحضارات الأخرى، ولكن ذلك ليس قاعدة عامة يمكن أنْ يُؤسّس عليها في ما يتعلق بتكوين صورة جلية عن حقيقة الدين الإسلامي وجوهره كرسالة إنسانية، محورها الإنسان (العادل مع ذاته ومع الآخرين انطلاقاً من إيمانه بالله كقاعدة روحية وإيمانية).
في ضوء ذلك يري الباحث إلى جانب الحسم الإيجابي المباشر في رفضي لصورة الإسلام العنيف والمتطرف، التي يحاول الكثيرون – في الداخل والخارج- تظهيرها وتركيز النظر عليها، وإبرازها وتعميمها حالياً في أصقاع العالم كله..
وأعتقد أنه بإمكاننا وعي وفهم الإسلام من داخله كدين قادر على تحريض أجمل ما في المسلمين من طاقات إبداعية، وتحشيد طاقات الناس عندنا في طريق الإصلاح والتنمية البشرية والمجتمعية.. وذلك عبر التجديد الفكري والمعرفي، والإصلاح العقلي في بنية الدين الفكرية والمفاهيمية.. لأنّنا مهما حاولنا القول باستحالة الجمع بين الدين والحياة أو بين الدين والواقع العملي للناس، فإننا سنبقى نلف وندور في حلقة مفرغة، وسنظل في حالة من الجدل والسجال الفكري العقيم غير المنتج، ونحن هنا لا نقصد تديين الحياة والسياسة والواقع، كما ولا نريد –في الوقت ذاته- فصل الدين عن الحياة والمجتمع، بل إننا نصر على فصل القداسة الدينية عن معطيات العمل السياسي والعملي الميداني، وعدم إدخال الدين في منظومات التسييس، أو اشتغاله في داخل منطقة آليات الحكم السياسي اليومي اللحظي النسبي القائم على الميكيافيلية والذرائعية والنفعية البشرية..
ونصرّ أكثر على ما سمي بـ”العلمنة المؤمنة” (إذا صح التعبير)، أي عدم رفض الدين من جهة، وعدم السماح للمتدينين بالسيطرة على السياسة والواقع من جهة أخرى. فمن حق رجل الدين أن يمارس السياسة من موقعه كمواطن حر ومسؤول تجاه وطنه ومجتمعه وأمته، وليس من موقعه كداعية أو كرجل دين يعتقد بأفكار ومعارف مقدسة فوق الواقع والحياة. أما أنْ يفرض رجل الدين رأيه وقناعاته الدينية المقدسة على غيره من أفراد المجتمع خصوصاً من أتباع أديان ومذاهب أخرى، أو أن يمارس المتدين السياسة من موقع المقدس المتعالي المفارق، فذلك أمر مرفوض بالمطلق،
لأن السياسة اشتغال بالمتغير الذاتي، والدين حالة راقية من المقدس الروحي، فليس للسياسة شأن به لأن ساحتها الحياة المتغيرة، وهي عبارة عن مجموعة من آليات العمل والمنافذ العملية التي يسمح بها القانون لخدمة الناس وتلبية احتياجاتهم ومحاولة حل مشاكلهم.. والفضاء الاجتماعي المدني (ذي المنشأ العلماني) مفتوح على مصراعيه، ومناخ الحرية يسمح للجميع بأن يعبروا عن طروحاتهم وأفكارهم بما لا يتعارض مع مصالح الناس وطموحاتها في البناء العقلي والعلمي وتأمين متطلباتها الوجودية الأساسية..
نعم يمكن للدين أن يمارس دوراً توجيهياً وترشيدياً ومعنوياً من خلال القيم والأخلاق العليا ذات المنشأ الديني. أما أن يتدخل الدين بالسياسة ليكون هو السياسة ذاتها، كما ينزل الجدول المائي النظيف والصافي إلى المستنقع الآسن العفن، فذلك تدنيس لعظمة الدين، وجلاله وكماله، وقتل لمنطق السياسة باعتبارها مساومات ومجادلات وصراعات ومساجلات وتناقضات مصلحية تداخلها اشتراطات نسبية وفنون حكم أرضية وقيم نسبوية وغايات ومقاصد نفعية.
لهذا كان الهدف من الدراسة: حتى تكتمل الصورة هنا لا مناص من الإشارة إلى أن كثيراً من تيارات الإسلام السياسي أو ما عرف بـ”تيارات الصحوة الإسلامية” سبق أن تعرضت (وما يزال يتعرض قسم منها حالياً) إلى قمع سياسي وأمني كبير متواصل في بعض الدوائر السياسية والأمنية العربية والإسلامية الحاكمة،
(وصل إلى حدود إصدار مراسيم وقوانين بالحكم بالإعلام على كل من ينتسب تنظيمياً فكرياً إلى بعض تلك الحركات أو ربما من يناصرها) أكبر وأكثر مما تعرضوا له وواجهوه في بلاد الغرب (الكافر!!؟، كما يصفونه) التي فروا إليها للتّنعم بمناخات الحرية الكاملة في تلك البلدان، هرباً من الضغوطات والملاحقات والتشريد والتعذيب والقتل.. حيث وصل هذا العنف الدموي حدّ شن حروب إلغاء واجتياح بلدان بأكملها تحت مسمى مكافحة “الإرهاب الأصولي الإسلامي”، والقضاء على ما أسموه ببذور التطرف الدينية، الأمر الذي استدعى من بعض تلك التيارات (وليس كلها، إذ أن الغالبية الأكبر منها تتبنى العمل السياسي السلمي) ردود أفعال تدميرية فانطلقت لتكفر حكوماتها الظالمة، وتعلن الجهاد ضد نخب وأحزاب بلدانها الديكتاتورية الشمولية، فدخلنا في حلقة مفرغة ودوامة لا منتهية من العنف والعنف المضاد، ومن الصراعات والانقسامات الفكرية والاجتماعية والسياسية،
وسقوط البلدان رهن الفوضى وضياع الثروات وهدر الطاقات وتبديد الموارد والقدرات، فضلاً عن تحولُّها إلى ساحات مستباحة للقاصي والداني، ولمن هبّ ودبّ، كما يُقال.
وبدلاً من أن تتجه بلداننا الغنية بالموارد والثروات والطاقات البشرية والطبيعية الهائلة، التي كان من المفترض أنْ تستثمر في طريق العمل المنتج والبناء والتطوير النافع والمفيد لمصلحة الإنسان والمجتمع والأمة ككل، ونحو الاهتمام بقضايا الإصلاح الاقتصادي والسياسي وبالأخص منها قضية “التنمية البشرية” للنهوض بواقع الإنسان والمجتمعات العربية والإسلامية
(التي هي أحوج ما تكون للنهوض والبناء والإصلاح العقلي والفكري ولاحقاً السياسي) انحرفت النخب والسلطات السياسية الحاكمة بقوة الأمر الواقع السياسي والعسكري والأمني، باتجاه الصدام والمواجهة، وإعلان الحرب ضد بعضها البعض وضد أبناء مجتمعاتها، لتصبّ كامل جهودها وطاقاتها ومواردها الذاتية في سبيل القضاء على ما أطلقت عليه “التطرف والإرهاب الأصولي”،
وشن حملات واسعة للتخلص منه سياسياً وأمنياً وليس كحالة ثقافية تاريخية قائمة.. وهذا كان هو العنوان الظاهر لمحاربة وسحق كل أنواع المعارضات السياسية والفكرية الأخرى من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين،
وها نحن نتحرك الآن جميعاً في دوائر عنف لا نهائية، وفي أتون حروب أهلية واقتتالات مجتمعية، وانقسامات داخلية “عربية-عربية” بعضها معلن، وبعضها الآخر مخفي كالنار تحت الرماد ينتظر شرارة التفجير الأولى.
المقدمة.
لقد ساهمت الأجواء السلبية الضاغطة على الحركات الإسلامية، في اعتماد كثير من تلك الحركات والمنظمات الأمنية على طرق ووسائل العنف والإرهاب المدمر غير المشروع وغير المبرر (تحت أي ذريعة أو منهج) كالتفجير وخطف الطائرات والشخصيات وممارسة الاغتيالات والتصفيات الجسدية، وو..إلخ.
وذلك في سياق وجود مناخات ضاغطة وظروف قاهرة مضادة، بررت لأولئك المنظمين في تلك الحركات –كما يتحدثون ويعتقدون- استخدام وسائل العنف في مواجهة السياسات الظالمة (والمخالفة لأبسط مبادئ الحق والعدالة والقانون) التي تتبعها الدول (والقوى) العظمى ضدهم، والتي تستخدم (هي نفسها) الوسائل ذاتها وبطرق رسمية (مبررة دولياً!)، خفية حيناً وظاهرة أحياناً (خصوصاً بعد أن بدأت الولايات المتحدة بشن حربها الدولية على الإرهاب بعد أحداث /11سبتمبر 2001م) فتكون القضية هي أن الإرهاب يحارب بعضه بعضاً على حساب المجتمعات المفقرة والمستضعفة..
نعم، هناك تأثير كبير للعوامل السياسية والظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة في بلداننا والتي لعبت دوراً حاسماً في ولادة وتغذية مواقع ومناخات العنف والعنف المضاد في مجتمعاتنا.. لكن لا يمكننا التعميم هنا، إذ أن اعتبار العنف عندنا بكليته –خصوصاً عنف الجماعات الإسلامية المتطرفة- وليد ظروف سياسية واقتصادية صعبة يعيشها هؤلاء المتطرفون، هو نصف الحقيقة، وهو يجانب الصواب،
والدليل عليه أننا عندما نراجع أدبيات كثير من تيارات وجماعات الإسلام السياسي (السلفي السني تحديداً) نجد أن لديها تأصيلاً دينياً للعنف والإرهاب، تحصنه بنصوص وأحاديث دينية مقدسة، وتبرره وتعززه بسلوكيات وأفعال قادة وزعماء التاريخ الإسلامي. الأمر الذي يجعلنا نصل إلى نتيجة مفادها: أن عنف وإرهاب تلك الجماعات المتشددة هو عنف ابتدائي “أصيل”، وليس عنفاً طارئاً وناتجاً عن ضغط العوامل الاقتصادية أو السياسية مع صحة وجود تلك العوامل والظروف الصعبة الضاغطة..
وكمثال على ذلك نذكر من تاريخنا القديم الخوارج الذين عاثوا فساداً وقتلاً وتدميراً وإرهاباً في مجتمعهم الإسلامي الوليد، ووصل الأمر برئيس الدولة الإسلامية آنذاك (الخليفة الرابع) أمير المؤمنين الإمام علي ابن أبي طالب(ع)
أن قاتلهم وحاربهم وسحق تمردهم العنيف والفائق الخطورة على الدولة والمجتمع.. ليس لاختلافهم معه في الرأي والفكر ومنهجية العمل السياسي والفكري، وهو ممن اعتاد لغة الحوار والمداراة والتواصل، وإنما لأنهم تحولوا إلى الجلافة والصلافة والغباء والاستعلاء والعناد وركوب الرأس، فحولوا الخلاف مع أمير المؤمنين الإمام علي – الذي عاملهم في البداية معاملة حسنة، وسمح لهم بالدعوة والاختلاف السلمي الحضاري معه في الرأي والتوجه والمنهج السياسي السلمي، طالما لم يبدؤوه بقتال – إلى قاعدة عنف وإرهاب ودمار ألحقت بالناس والمجتمع الدمار والخراب، وجلبت لهم الويلات والمآسي الكبيرة.
ويمكن القول ان لا شك بأننا لا نقدّم جديداً عندما نشير إلى أن العرب والمسلمين يعيشون في العصر الراهن – وفي كثير من مواقعهم ومحاور امتداداتهم- وضعاً صعباً لا يحسدون عليه أبداً كما ذكرنا آنفاً.. والواضح هنا أنه – وبغض النظر عن هذا الضغط ولغة التآمر السياسي والاقتصادي والإعلامي الدولي اليومي على بلاد الإسلام والمسلمين،
والتي تعمل ليلاً ونهاراً على إملاء شروطها، وفرض هيمنتها وتحكمها بثروات وموارد العالم الإسلامي الهائلة، وتوصيف هذا الدين توصيفاً سلبياً من خلال اعتباره دين الإرهاب والتطرف والعنف- أقول: أنه بغض النظر عن ذلك كله، لا يمكن للعرب والمسلمين أن يتهربوا من تحمّل المسؤولية الأكبر عن ذلك..
حيث أن أخطاء العرب والمسلمين، والكوارث التي أنتجها حكامهم على مدى عقود، لعبت دوراً كبيراً في تحميل ديننا تلك الصفة والانطباع الخطير.. كما أن كثيراً من مفكرينا وعلمائنا وسياسيينا قد ساهموا بفعالية كبيرة في إعطاء الآخرين تلك الصورة السوداوية عنا، بل وثبتوها بقوة داخل أذهانهم ومدركاتهم.
– فصحيح أن الإسلام لا يرى أن استخدام القوة هو الأسلوب الأوحد للصراع في خط التحدي ورد التحدي، بل يطرح – بدلاً عنه – أسلوب الحوار والرفق والتسامح باعتبار ذلك هو القاعدة والأصل في مواجهة المشاكل في اتجاه الحل، من خلال الآية الكريمة: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(النحل: من الآية125)
– وصحيح أن القرآن قد تحدث مادحاً الرسول الكريم بصفات الرحمة والمحبة التي جذبت الناس إليه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾(آل عمران: من الآية159).
– وصحيح أيضاً أن الإسلام يعتبر أن الأسلوب العملي الأنجع والأجدى والأكثر فعالية ومصداقية في العمل السياسي هو الأسلوب الذي ننفتح من خلاله – بوعي وإدراك وصدق- على الآخرين، لنحول حتى الأعداء إلى أصدقاء، وذلك من خلال الآية الكريمة: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(فصلت:34).
– وصحيح أن الإسلام، – كفكر أيديولوجي- يطرح مشروعه الثقافي والسياسي بالوسائل الحضارية الإنسانية السلمية في مواجهة الطروحات والمشاريع الفكرية والسياسية الأخرى، من دون أن يجد لنفسه في ذلك أي بادرة تطرف في الشكل والمضمون (ومن دون أن يكون بحاجة له طالما أن المناخ سلمي وعقلاني وهادئ وآمن ومستقر).. ويرى أن حريته (كمشروع حضاري يمارس عملية الدعوة والتبليغ) هي جزء من حرية الآخرين المطلوبة لهم والضرورية لإنعاش واقع مجتمعاتهم وأوطانهم..
– وصحيح أيضاً أن الإسلام يعمل (من خلال تربية الفرد المسلم) على تأصيل الاستقلال في نطاق الشخصية الإسلامية الواعية في حياة الأمة، وتربية المسلمين جميعاً على أساس مبادئ الإسلام النقي ومبادئه التسامحية الصافية في فكره وروحه وحركته، بحيث تبرز التمايزات والفواصل الروحية والعملية بين الإسلام، وبين التيارات والقوى الأخرى..
إذا يواجه الوطن العربي الان أزمات واستكمالاً لما تقدم أطرح بعض الأسئلة الهامة والضرورية التي تتصل بصلب الموضوع، مدار البحث والتحليل: هل يمثل الطرح أو الفكر الديني الإسلامي حالة تطرف وإرهاب أم حالة اعتدال وسلام؟!
أي هل يمكن أن يقبل الدين الإسلامي (وهو دين التسامح والعقل والمحبة الذي جاء متمماً لرسالات وأديان ما قبله) باستخدام وسائل وأدوات الضغط والقوة من عنف وإرهاب ضد المدنيين والأبرياء، وضد قيم الإنسانية التي هي نفسها قيم الرسالات السماوية كلها؟!. أم أن التأويلات الإسلامية – وغير الإسلامية- للنصوص التاريخية هي التي تقدم لنا الإسلام بهذه الصور النمطية المشوهة والمنحرفة؟!.
ثم ما هو المقياس الموجود حالياً لدى النخب السياسية والثقافية في توصيفها للإسلام بصفة التطرف أو صفة الاعتدال؟!. هل هي الظروف والوقائع الراهنة المحاصرة في حسابات الواقع الزمنية، أو هي المتغيرات والتحولات المتسارعة في آفاق المستقبل والغيب؟!..
إن كل ما تقدّم صحيح.. ولكن الواقع السياسي الإقليمي والدولي الموضوعي فرض نفسه بقوة – من خلال معادلاته المعقدة وتشابكاته وتنوعاته وضغوطاته – أمام الواقع الداخلي الذي تعيش فيه الحركة الإسلامية، وباقي تيارات وقوى الأمة الأخرى من اليمين واليسار، ليكون موقع هذه الحركة مواجهاً تماماً لكل الدول (والمشاريع والمحاور) السياسية والاقتصادية (الغربية وغير الغربية) في العالم التي تعمل باستمرار ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً،
على تشويه صورة الإسلام وهذه الحركة الإسلامية –على سلبياتها وأمراضها وتعقيداتها التي أقررنا بوجودها ذاتياً وموضوعياً- في وجدان الرأي العام الإسلامي من جهة، والرأي العام الدولي من جهة ثانية، وتأصيل الانطباع عنها بأنها متطرفة وإرهابية فكراً ومنهجاً وسلوكاً، وبالتالي هي غير قادرة على مواكبة الحياة والتطور،
وستجلب معها للحكم – في حال نجاحها- كل مآسي العالم، بمعنى استمرارية “شيطنتها” كحركات إرهابية.. وذلك عبر التركيز الدائم على المفردات السلبية داخل مواقع الحركة الإسلامية،
وهي مفردات ووقائع صحيحة في الأغلب، ولم تمارس تلك الحركات الأيديولوجية –وعلى رأسها الحركات الإسلامية- أي نقد موضوعي مهم ونوعي بشأنها إلا فيما ندر، مما جعل المواقع الفكرية والسياسية الكبرى في العالم تستفيد من تلك النقائص والثغرات القائمة والموجودة أصلاً لتثير أجواء العاطفة الإنسانية المضادة كجزء من الحرب الدولية المفروضة أصلاً على الإسلام.
طبعاً لم يكن في ذلك الزمن القديم (قبل حوالي 1400 سنة) أي وجود إمبريالي أو صهيوني أو ماسوني أو. الخ، حتى يبرر عنف الخوارج بالضغوطات الدولية والسياسات الظالمة للدول المهيمنة الكبرى. بل كان هناك عنف يستند إلى مفهوم “الحاكمية”،
ويعتمد على تطبيق مبدأ “الأمر بالمعروف ومقاومة المنكر” بالطريقة التي فهمها الخوارج. وانتقلت لاحقاً –مع بعض التعديلات- إلى كثير من الزعامات والتيارات الفكرية الدينية، فأدت إلى ما أدت إليه من فتن واضطرابات وانقسامات أصابت عالم الإسلام والمسلمين في صميم وجودهم المعنوي والمادي..
حتى وصلنا إلى عصورنا المتأخرة حيث فاجأتنا ظروف جديدة وتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية غير مسبوقة طرأت على العالم العربي من استعمار دولي واستبداد سياسي وفكري محلي، وزرع إسرائيل في قلب الأمة (كأصولية يهودية متطرفة)، مما كان له
(لتلك الأسباب مجتمعة أو منفصلة) بالغ الدور والتأثير في تركيز مقولات ومفاهيم وأساليب الصراع والتطرف والعنف والعنف المضاد في منطقتنا.
لذلك فان إشكالية الدراسة: ولو استطردنا قليلاً (بلا إطناب ولا إخلال بمنهجية البحث وفكرته الرئيسية)، نقول: هناك (غير الأصولية اليهودية التي هي من أسباب تفجّر عنف مجتمعاتنا) أصوليتان متطرفتان في بلداننا، أصولية القمع والاستبداد الرسمي، وأصولية التيارات الدينية (التكفيرية) المتأسلمة..
الأولى أنتجت الثانية، والثانية خرجت من رحم هزائم وكوارث الأولى، التي راكمتها تجارب التخلف والجهل والفشل السياسي والعقم الاقتصادي التنموي والتطور المجتمعي على مدار أكثر من ستة عقود زمنية
(بعد انتهاء عهد الاستقلال الشكلي عن المستعمر الخارجي) هي عمر وجود نخب التحديث العربي (بحداثتها الرثة والمغدورة) في سدة الحكم بلا منازع ولا مهدّد لسُلطانها وظلمها، وتحكُّمها بالرقاب والبلاد.. أوطانٌ بأكملها تلاعبوا بها، وأضاعوا خيراتها، وارتهنت بأركانها لفئات أصولية متعلمنة (ادّعت العلمنة والحداثة والاندماج بالعصر)،
لكنها لم تنتج إلا التخلف والعفن الطائفي والعشائري معلنةً الحرب دوماً ضد كل من رفع (ويرفع) ألوية العقلانية والتحرر والتنوير الفكري، وبالفعل فقد تمّ إخراس وإسكات كل من شُكك في أمره من عقلاء الأمة، ممنْ كان يدعو بقوة (قوة العقل والكلمة والحق) للتخلص من الأنماط الرثّة المعيقة للنهوض والرقيّ والنماء والتحضّر، وتقبّل الاختلاف الفكري والعقائدي.. وفي مواجهة ذلك،
ما الخيارات التي كانت (وما زالت) متاحة وممكنة أمام الفرد العربي والمسلم الممنوع من ممارسة أي شيء إلا التبرك بعتبات الحاكم والقائد المفدى والسهر على حمايته وراحته، والدعاء الدائم له ولأبنائه بطول العمر ووفرة السعادة والبقاء بالحكم إلى ما لا نهاية؟!..
وتأتي أهمية دراسة ما الذي يفعله هذا الفرد (الإنسان البسيط) المسحوق المكتوي بنار العذاب والقهر والظلم اليومي، وهو لم يرَ نفسه، منذ ولادته، إلا في مواجهة تحديات معقدة وخيارات عدمية، فماله منهوب، واستحقاقاته مؤجّلة، وثرواته مهرّبة، حاضره مظلم، ومستقبله مجهول؟!!
وإلى من تراه يطلب المساعدة وبأي ظل يستظل؟! إلى من يلجأ المظلوم المعنّى من سفه السياسة التخريبية المضلّلة وهو قليل الحيلة، ولا أحد يلتفت إليه أو يربت على كتفه مواسياً؟! ومن يهدّئ روعه إذا أحاطه الأخوة الأعداء،
وصار هدفاً لسهام تقصده من الأمام، ومن الخلف، وتنوشه حجارة المنجنيق يمنة ويسرة وفقد رعاية الأرض وأهلها وركنوه خارج الصف مهمّشاً منسياً، فلا عمل يشغله، ويستثمره، وعاش عاطلاً عن العمل والأمل، فلم يجد إلا السماء ملاذاً وحنوّاً، لعلها تطيّب خاطره، يدعوها متوسّلاً أنْ تنقذه، وتخلّصه من المآزق المتراكمة عليه، ويصلّي متضرعاً أن يزيل الخالق أعباءه وأعداءه؟!!!..
وهنا يأتي الدور الآخر وهو دور رجال الدين غير العقلاء الذين يستغلون حالة الضعف والهوان، فيأتون على آخر ما تبقّى له من ثمالة حياة وأنفاس أخيرة ليخنقوها، ويكملوا ما بدأه سياسيو العهر والسفالة والنهب .. حقيقةً مسكين جداً هذا الإنسان العربي والمسلم العائش في مجتمعاتنا، مجتمعات الجهل والظلمة وفقدان الموازين العادلة، تراه ضائعاً محشوراً بين فكّي كماشة، السياسة العاهرة التي فرمت لحمه، وذوّبت شحمه، وأهاظت عظمه، والدين المضلّل
(أساليب وأنماط التفكير الديني) بالحلول الغائبة والآمال الكاذبة والوعود العرقوبية، ليس هذا فحسب، بل يقوم أتباع الدين برفع منسوب الخوف والهلع لهذه الضحية المبتلاة والتهديد بالنار والعقاب الأخروي ليعيش ويدخل دورة رعب مفزع وهو حيّ يرزق.
. هذا التخويف بالعقاب الديني الأخروي، وتصوير الدين بصور بشعة، وتوصيف الله تعالى (بصفات غير إيجابية) مزّقت وعيه، وشتّتت قدراته، وسلبته إرادته لصالح أمراء الجهاد والتّكفير الذين تسيّدوا (وما زالوا يتسيّدون) مواقع الفُتيا والأحكام الشرعية الدينيّة، بكامل هيمنتها وسطوتها على مجتمعاتنا المتخلفة.
. هاتان إذاً أصوليتان، دمّرتا قدرات هذه الأمة، وأحالتا ما تبقى فيها من خيرات إلى خراب ويباب ويباس، روحياً ومادياً..
إذاً، في مثل هذه الأجواء ولدت ونشأت الحالة الإسلامية الجديدة التي هي بصورة أو بأخرى امتداد لسابقاتها من الحركات والتيارات الأيديولوجية. حيث كان العنف هو السمة الأساسية الغالبة على مناخ الولادة، وهو الممثل الوحيد لكل الحركات والملامح.
أي أن فكرة “الأصولية الإسلامية” انطلقت هنا في أجواء ولادة الأصولية الاستبدادية العربية (أصولية الاستبداد الرسمي) ونشوء المشروع الأصولي الصهيوني الذي أقام دولته اليهودية في قلب المنطقة على قاعدة العنف والتشريد والإرهاب المدمر، واستخدام كل الأساليب الوحشية والهمجية ضد الشعب العربي والفلسطيني، لتكون هذه الدولة “دولة وظيفية جهازية” بامتياز.
مشكلة الدراسة فإن ما نراه أمامنا الآن – من عنف وعنف مضاد مستمرين منذ عقود طويلة – لا يمكن إرجاعه مطلقاً إلى الدين الإسلامي بالذات، على الرغم من وجود الكثير من العناصر المسلمة التي دعت إلى تبني خيار العنف، ومارسته،
بل وتورطت – مع الآخرين- في تنفيذ سياسات وأعمال إرهابية بحق بعض المواقع المحلية والدولية كما ذكرنا في أمثلة سابقة، نتيجة هيمنة هذه النزعة الانغلاقية في فهم الدين، التي كانت لها نتائج سلبية على صعيد النظرة إلى غير المسلمين، فهم (في دائرة الجماعة الوطنية) دون المواطنين المسلمين حقوقاً (وإن لم يعودوا “ذمّيين”) مادامت شريعةُ الدولة، عند الإسلاميين الحزبيين، هي شريعة الدين،
وهُمْ (في العالم الخارجي) أعداء أو خصوم، يكيدون للإسلام والمسلمين، ويسعون في نشر قيمهم المعادية للدين مثل العقلانية والعلمانية والمساواة بين الجنسين وسواها، ممَّا يتحسّس منه “الإسلام الحزبي” ويُنكِرُه.
فهذه النظرة المغلقة إلى الدين، المتشرنقة على يقينياتها، المعادية للعصر والتقدم، هي المسؤولة عن توليد ما يسميه بعض الغربيين بـ “ثقافة الكراهية” تجاه الآخر، وهي المسؤولة عن توليد معدّلات خرافية من المخافة عند المسيحيين العرب، بل عند المسلمين المتصالحين مع دينهم ودنياهم وعصرهم.
إنها نظرة تفتقر إلى الحسّ التاريخي، وإلى روح التجديد، وإلى قيم التسامح والاعتراف بالآخر، في الخارج كما في الداخل .
ولذلك يمكن أنْ نقرّر هنا (وعلى الرغم من كل أحداث العنف التي تمر بها مجتمعاتنا والعالم اليوم، والتي يُتهم فيها الإسلاميون أتباع الإسلام السياسي) بأنّ العنف حالة قسر طارئة (وليست حالة أصيلة دائمة) انطلقتْ في الواقع العام (في أحد سبلها وأشكالها العديدة) من حالة انفعالية موجودة في العالم كله
(خصوصاً في العالم الثالث)، تمظهرتْ – في أحد أشكالها وتعابيرها – من خلال هذا التحدي القائم في مواجهة السياسات الاستعمارية الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، التي وضعتْ نخباً سياسية حاكمة تابعة لها، وتدور في فلكها، وتنفذ سياساتها ضد مصالح شعوبها وأمتها. ونحن هنا حقيقةً لا نبرّر ولا نقيّم ولا نصدر أحكاماً معيارية،
وإنما نصف ونعاين ونقارب – بشيء من الموضوعية – دوافع وأسباب استشراء حالة العنف الدموي في منطقتنا العربية الإسلامية.. وإذا كانتْ السياسات الغربية المنحازة تتحمّل المسؤولية عن تلك الحالة وهي فعلاً كذلك،
فإنّ المسؤولية الأكبر تقع لا محالة على كاهل أهل الداخل من العلماء والسياسيين والمفكرين ومختلف التيارات والأحزاب كلها، خاصة الحاكمة بالذات..
من هنا نحن نعتبر أن اتّهام الغرب (واتهام كثير من نخب وسياسيي العرب والمسلمين) للإسلام نفسه بأنه “دين التطرف والعنف”، ليس صحيحاً، وهو اتهام ينطوي على دعاوي مزيفة، وحتى لو تراجعت الاتهامات مؤخراً لتطال فقط بعض الحركات الدينية المتطرفة التي تسمّت زوراً وبهتاناً بالإسلام كتنظيم القاعدة وتنظيم داعش وغيرهما من جماعات التطرف والتكفير الديني، لأن هذا الاتهام انسحب للأسف على كامل الحركات الإسلامية التي تعمل بالسياسة، سواء المعتدلة منها أو المتطرفة.
ان تناول مسألة الغربَ ليس صادقاً على الإطلاق في رفضه لمسألة العنف والقوة، ودعوته لتبني منهج الرفق والسلم والعمل السياسي السلمي، لأنه يرفض العنف الذي يقف فقط في وجه تحقيق إملاءاته ومصالحه والحفاظ على امتيازاته وسياساته الاستراتيجية، ولا يرفض أبداً العنف إذا كان موجهاً ضد خصومه ومناوئيه، بل يدعمه ويوظّفه لصالحه ..
وهذا ما عشناه ولاحظناه سابقاً في دعم أميركا (وحلفائها من بعض العرب والمسلمين) المطلق للمجاهدين الأفغان في حربهم ضد الوجود الشيوعي (السوفييتي السابق) في أفغانستان، مع أنها كانت حركة إسلامية متعصبة، تمثل عنفاً بالغاً وشديداً.
ولكنها سرعان ما انقلب السحر على الساحر، وأصبح حلفاء الأمس أعداء اليوم عندما نالت أمريكا ما نالها من عنفهم وإرهابهم الدامي في كل من منهاتن وواشنطن، وفي مناطق أخرى من العالم، حتى الآن.
ولكننا في كل تلك المناخات السلبية السائدة والمهيمنة علينا، نسأل: كيف يجب أن نتعامل مع هذه الأحداث والوقائع الجديدة، وفي كل يوم هناك شيء وشأن ومتغير جديد؟!! وماذا ينبغي علينا فعله من أجل أمان مستقبل أوطاننا وشعوبنا المستضعفة والمفقرة التي تعاني من التعصب والتطرف الفكري والاستبداد السياسي والتخلف الفكري والفساد الاقتصادي والسياسي؟ وكيف نستفيد من كل هذه التطورات العلمية والتقنية لصالح تجديد خطابنا الفكري الموجه لنا وللآخرين؟
وبأية لغة عملية ندعو ونتحاور، بلغة الأقدمين الذين عاشوا في السابق وكانت لهم أعمالهم وممارساتهم وكسبهم الفكري والعملي؟
أم بلغتنا الحاضرة، لغة التواصل والتعارف والحوار وتثبيت قيم الإنسانية الأصيلة، حيث أن الديانات هي في الأصل – أو هكذا يجب أن نفهمها ونؤولها – دعوات للسير على طريق المبادئ والرؤى الإنسانية من حرية وعدل ومحبة وتسامح؟!.. أي: كيف يكون الحل بعد هذا؟ وعلى أي سبيل سيسير ويتحرك؟!!..
وتتمحور مشكلة الدراسة: في الإجابة على الأسئلة التي طرحناها سابقاً نرى أنه ومن أجل أن تكون ثقافتنا إنسانية متسامحة ومنفتحة وذات طابع عالمي (بمعنى وصولها إلى كل الناس كما هي في المضمون الروحي الإنساني البعيد عن جو السياسة والمساومات الضيّقة)،
بعد أنْ شابتها عوالق وشوائب التفكير المنحرف المتطرف سياسياً وثقافياً، فإنه يجب أن نقدّمها بمعاني وتجلّيات وتعابير وحلّة إنسانية جديدة، وبحسب مستوى الفهم والإدراك عند الأجيال الحاضرة والقادمة،
كما يجب أن يتناسب خطابنا مع المستوى العلمي والرقي المدني الذي حققته البشرية في عالم اليوم. فالثقافة الثابتة والمقولبة والمعلّبة –كما هي ثقافتنا حالياً- لا تصلح للحياة والإنسان والعصر، والمجتمع الذي يبقى منغلقاً على ذاته سينقرض لا محالة مع مرور الأيام وتقدم العصور.
ويمكن صياغة تساؤلات البحث في التالي:
1. التأمل العقلاني في تطورات الحياة والعصر الحديث،
2. والانطلاق للاستفادة من أجواء وقوانين هذا العصر ومختلف اختراعاته واكتشافاته، لبث أفكار الإسلام الإنساني وقيمه النبيلة وأصوله الأخلاقية السمحة، كما هي في واقعها الأصيل 3. فالعولمة الإعلامية الهائلة، وثورة المعلومات والتقنية التواصلية الخارقة، التي قرّبت بين البشر على صعيد ارتباط مصائر العالم بأهداف إنسانية واحدة بقطع النظر عن السياسات الرسمية للإدارات الحاكمة، كلها وسائل حديثة تفسح المجال بقوة لمخاطبة الآخر بهدوء وعقلانية، وبلغة واعية، لبث وتأصيل تلك القيم الإنسانية
4. وتغيير الصورة النمطية السلبية المعهودة عن الإسلام والمسلمين، حيث أن الإسلام دين إنساني عالمي ختم الله تعالى به الرسالات والنبوات، وجعله صالحاً لما تبقى من عهود وعصور، كما يعتقد ويدعي أصحابه وأتباعه، وهذا ما يحتّم عليهم (على أتباع هذا الدين ونخبه ورموزه)
5. أن يدعو إلى القيم الدينية الإنسانية بلغة العصر كما ذكرنا، وأن يواكبوا كل المتغيرات والمستجدات حفاظاً على أصالة الفكر وحيوية المعرفة الإسلامية، وصوناً لهذه الهوية من الضياع، روحاً وعقلاً على مستوى النص أو التأويل.
6. والهويّة التي أعنيها هنا ليست هي الهوية المغلقة الثابتة والجاهزة والمعبأة نفسياً وروحياً في نفوس الناس وفي عقولهم على نحو خلاصي اصطفائي، وإنما هي كل تلك المبادئ والقيم المعنوية الإنسانية الأصيلة (من حرية وعدل ومساواة وإخاء، وو… إلخ)، وهذه الروح الحية، وحالة النقاء الروحي الإسلامي المنطلق من فكرة المحبة لله، وفي الله، ومن أجل الله، التي – على ما يبدو- أصبحت آخر هموم كثير من رموز ودعاة الفكر والخطاب الإسلامي المعاصر الذين استغرقوا في السياسة والتنظيمات السياسية والعقائديات الدينية، ونسوا أو تناسوا أهمية الروح والعامل الروحي كأحد أهم مضامين ومكونات الفكر الديني الهوياتية..
7. فالهوية الأساسية المقصودة هنا هي هذه الروح الإنسانية الصافية المركوزة في كينونة الإنسان، والتي تحتاج إلى عوامل مؤهبة خارجية لاستثمارها في البناء والعمل والنماء المادي الحضاري لما فيخ خير وصلاح البشرية جمعاء.
أهمية البحث: ينبغي على من يدعو إلى الإسلام مبشراً وهادياً، ويمثل هذا النوع من الإسلام الإنساني الرسالي المنفتح سلوكاً وفكراً، نصاً وروحاً وعملاً، أن يحسن عرض أفكاره وقيمه ومثله ومبادئه وأخلاقه على مختلف المواقع بأسلوب جذاب وشيق وجميل، بعيد عن التكلّف وغير استعراضي، ..
وهذا يتطلب بدوره من المثقف والداعية الديني المنفتح والمتمسك بالخطاب العقلاني والفكر الإنساني، العمل على ما يلي:
والفكر الإسلامي الحقيقي المطلوب منه التحرك باتجاه تفعيل تلك القيم، لا يمكن أن يعيش، ويتطوّر، ويتكامل، إلا بالتفاعل الصريح والواضح مع الواقع المعيوش،
وإنّ بقاء النص غائباً (أو مغيّباً) عن الواقع سيقلّص مساحة الحرّيّة أكثر فأكثر في داخل اجتماعنا الديني والسياسي.. وسيكرس فيه دوماً بقاء الحالة الحزبية السياسية الدينية بمعانيها وتجلياتها الأكثر عنفاً وتطرفاً.. وكان صعود هذه الحركات الحزبية الإسلامية وانتشارُها وتفشي أفكار العنف والإرهاب، قد تغذّى بنسبة أكبر، من افتقار التاريخ الديني (الإسلامي) المعاصر إلى حلقة أساسٍ في كل دين هي حلقة الإصلاح الديني..
وغياب تجربة الإصلاح الديني من تاريخ الإسلام المعاصر هو عينُه الذي يفسّر لماذا لم تَقْوَ المؤسسة العلمية – الدينية التقليدية على أن تضطلع بالدور المنوط بها في تقديم تكوينٍ عميق، لجمهور المتعلمين، في الإسلاميات وتاريخها (الفكر الديني وعلومه ومراحل تطوّره)، وفي نشر ثقافة دينية منفتحة وحاثة على الاجتهاد والتدبُّر، وإشاعة قيم التسامح والاعتراف بالمخالف وبالحقّ في الرأي، وإعادة تأسيس الفتيا على هذا المقتضى .
وهي إذْ أعجزَها فقرُها إلى التّجديد وروحه عن النهوض بوظيفة إنتاج “الثقافة الدينية” المناسِبة، المتفاعلة مع أسئلة عصرها وتحدياته، والمستجيبة لحاجات المؤمنين من المعارف، أحدثت تلك الحال من “الفراغ الديني” الذي أتقنتِ الإسلاميةُ الحزبية استثماره..
ومن ثم فأن أهمية الدراسة الراهنة تكمن في انها تسلط الضوء على موضوع يعد من اهم المواضيع التي تغيب عن الباحثين في الأقطار العربية . الا وهي كيفية تمكين قيم المواطنة والمدنية في بيئتنا العربية والإسلامية.. وكل ما يتصل بقيم الحداثة السياسية العقلية القائمة أولاً على عدم تسييس الدين، أو تديين السياسة (بما يعني أن يكون للدين دور إشرافي هدائي إذا صح التعبير)،
في كل ما يتصل بطبيعة علاقة رجل الدين (والمثقف الديني) بالمحاور السياسية، واقتصار الارتباط بينهما (بين المثقف والسياسة) على مستوى التواصل مع العناوين الخارجية بما ينفع مصلحة المجتمع والناس ومقاصد الدين العليا..
ولا نقصد هنا ابتعاد رجل الدين عن الحياة العامة، وإنما أن يشارك فيها من موقعه كمواطن فقط (له رأيه وحضوره مثل باقي الأفراد والمواطنين في الشأن العام السياسي وليس الديني المختص به وحده دون غيره)، وليس كرجل دين يريد فرض قواعده وانتظاماته ومعاييره الدينية المقدسة على الناس والمجتمع وباقي التيارات.
وهذا لن يتحقق إلا في ظل الدولة المدنية، دولة الحق والكرامة الإنسانية. دولة التداول السلمي للسلطة، والتنافس ليس في الوصول إلى الكرسي، بل في خدمة الناس وتطوير المجتمعات..
وهذه الدولة (الدولة المدنية = دولة الإنسان والكرامة الإنسانية) هي المؤهلة فقط للقيام بدور فعّال في تعزيز دعائم “الوحدة الوطنية” في مجتمعاتنا المتنوعة والفسيفسائية، من منطلق كونها الوحيدة القادرة على احتواء التنوعات الطائفية والإثنية والقومية والمذهبية تحت عنوان المساواة والمواطنة الصالحة وحكم القانون، وعدم السماح باختراقها أو استهدافها بمشاريع أيديولوجية أو مذهبية أحادية من شأنها تفجير كيان الدولة، ومحو هويتها، وتفتيتها إلى أشلاء كيانات إثنية ومذهبية متصارعة،
في ظل ازدهار للنزعات الانفصالية والاستقلالية. ولا شك أن بناء الدولة المدنية كما قلنا، هو شرط التنوع وازدهار قيم الاعتدال والانفتاح، وهذا بدوره مرهون للإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي والتعليم وتعزيز مكانة المرأة، ودورها وحضورها في المجتمع المسلم بعيداً عن نماذج التشويه التاريخي لها، ومع استحضار فاعل للنماذج المتألقة في هذا التاريخ.
ومن ثم فأن الدراسة الراهنة ان تقوية المؤسسات والهيئات الدينية والاجتماعية المعتدلة، في مواجهة نوعين من الغلو والتطرف،
أولاً: تطرف الحكام والمؤسسات الرسميات التي تسببت بهذا الخراب الروحي والمادي الهائل الذي طال واقع هذه الأمة، واضطرها للخنوع والركوع أمام الآخر طلباً للعيش الوجودي الآمن..
وثانياً: تطرف وعنف وغلو تنظيمات وجماعات الفكر الجهادي الدموي، وعموم الحركات الراديكالية المتطرفة..
والهدف من وراء تقوية ودعم فكر الاعتدال ومؤسساته ونخبه، وتأمين موارد مادية لهم للنهوض والقيام بمسؤوليته، هو فسح المجال لهم لتقوية وجودهم وإنشاء مراكزهم وقواعدهم المطلوبة لتلك المواجهة، بهدف سحب البساط من تحت أرجل دعاة الغلو والتطرف الرسمي والديني، وكسب ثقة الجموع المؤيدة لتلك الحركات،
ونقْلها بوعي وقناعة إلى خيارات والتزامات جديدة وسطية معتدلة، مرتبطة بمصالحها الواقعية، فالناس لا تريد سوى تحقيق أمنها واستقرارها وتأمين متطلبات عيشها الصحيح. إن تشجيع الأفكار المنفتحة والتفسيرات الدينية العقلانية الهادئة التي تعيد للدين ألقه وفكره المتسامح الرافض للغلو والتطرف، وربطه بدورات الإنتاج والفعل والحضور لأتباعه في ساحة الحياة والعمل، وجَعْل الناس ترى وقائع عيانية مادية حقيقية ماثلة أمامهم عن تلك القيم الإسلامية الأصيلة المنفتحة،
هو الأمر الأشد تأثيراً في نقلها من التطرف والغلو إلى الوسطية والاعتدال، فالفكر إذا بقي محلقاً في الفضاء بلا تأثير وقدرة على إثبات الذات والوجود والحضور، لا معنى ولا قيمة له، ولن يهتم به أحد إلا بالأحلام.. حتى الدين نفسه لا بد أن يعايش تجارب الناس، وينزل إلى أتون محرقة الواقع من دون أن يحترق بلهيبها… بطبيعة الحال..
لذلك إن الفكر أساس أي تغيير، من هنا، لا يمكن إعادة بناء مجتمعاتنا التي هدّها التخلف والكسل والإمعية الحضارية، إلا بالتوافق والتوازن، والرؤية المتسامحة الحضارية المدنية المنفتحة، لكل أبنائها ومواطنيها، بعيداً عن الضغط والقسر والرأي الواحد، والحزب الواحد، وبعيداً عن فكر العنف والتطرف والتكفير وإلغاء الآخر…
وعندما نقول “مواطنيها”، نقصد “الإنسان-المواطن-الفرد”، ككائن سياسي يجب توفير ظروف ومناخات وأرضية دستورية وقانونية مضمونة لنجاح وتحقق تأثير فاعليته السياسية والعملية على الأرض وليس في عالم المثال والتجريد.
تأتي أهمية البحث في تحقيق الأهداف التالية:
1- ربط المثقف الديني النقدي بقضايا الحياة والعصر المتحرك والمتغير بعيداً عن لغة الأيديولوجيا الشمولية والقناعات المزيفة، بما يمكن أن يؤدي لاحقاً إلى تحريره من سيطرة العقلية الدوغمائية المزيفة التي أسهمت في وصول مجتمعاتنا إلى ما هي عليه الآن من دمار فكري وأخلاقي مريع نتيجة هيمنة أفكاره المعلّبة، وتصوراته المغرقة في رومانسيتها الحالمة.
2- وعلى هذا الطريق، ما ينقصنا نحن اليوم –على طريق تفعيل وإعادة الروح لمشروعنا النهضوي العربي- ليس الرؤى التنظيرية فقط، وهي متوفرة وخياراتنا فيها واسعة بطبيعة الحال، بل ربما هناك حالة تضخم فكري وفائض أيديولوجي حولها.. ما ينقصنا هو معرفة شيء واحد، وهو أن النهضة لا تصنعها الأفكار فقط، بل توفر الإرادة القوية، وهي غير حاضرة، أو مشلولة اليوم، بل وتتم مواجهتها – في حال حضورها- بالقوة والعنف والقمع العاري غير المحدود..
3- فالعقل النخبوي السياسي العربي المسيطر ما زال موضوعاً “غير قابل”، أي رافض وغير قادر على تقبّل فكرة وجود شعوب حرة ذات إرادة واعية، تصنع نهضتها بوعيها ومواهبها وطاقاتها الهائلة، ويقتحم أبناؤها مجالات ومواقع الإبداع والإنتاج والتطور العلمي وغير العلمي.. هذا غير مسموح البتة في كثير من مواقع اجتماعنا الديني العربي والإسلامي، فقط لأن القائمين على أمر هذا الاجتماع غير قادرين على تقبُّل فكرة أن تشاركهم شعوبهم في صناعة القرار والمستقبل، وتقرير مصيرها بنفسها وبإرادتها.. هو الخنوع والموات اليومي واستلاب إرادة الناس،
4- وبالتالي انعدام قدرتها على ممارسة الضغط الكافي على الشرائح والفئات التّسلطية الحاكمة لإنجاز تقدّمها ونهضتها المنشودة… وممارسة الناس والجماهير لهذا الضغط –في ظل السعي الدائم لتضعيف الإرادة واستلابها- ضروري للغاية من أجل زعزعة سياسات الشرائح النخبوية الحاكمة خاصة منها السياسات الاقتصادية والتنموية، وذلك من أجل إعادة بوصلة السياسة ودفّة التنمية، في ظل إصرار تلك النخب السلطوية على التمسك بسياسات الشمولية والمركزية، من خلال إبقاء القرار بيدها ويد الجماعات والشبكات الزبائنية التابعة لها والمرتبطة بها، أو المتفقة معها في المصالح والأهداف والأغراض.
5- ومع وجود الأفكار والطروحات والمشاريع الفكرية والتقدمية الحضارية التي بشّرتْ بالخلاص العربي والإسلامي، ووضعتْ معاييرَ عقلانية وشروطاً معيارية لإنجاز وتحقيق الأسس واللبنات الأولى للنهضة التقدّم، فقد لا يكون الخلل والعلّة في الواقع دائماً، بل قد يكون –في بعض الأحيان- مخفياً في طبيعة الأفكار المتحجّرة، والعقول القاصرة لأصحابها من ذوي النضالات “الدونكيشوتية” الفاشلة،
6- حيث أن هؤلاء يؤمنون بأن العلة في الواقع دوماً.. ولذلك فهم يسعون –وهنا أصل الداء، ومكمن العلة الجوهرية- إلى تجيير وكسر الواقع، ومطابقة وقائعه مع مقولاتهم المتكلسة البائدة من دون وجود أدنى استثمار وتوظيف للمنهج العقلي العلمي في وعيها وإدراكها وتحليلها والوصول إلى نتائج ميدانية بشأنها.. الأمر الذي سيؤدي –كما أدى سابقاً وحالياً- إلى أن يصبح المثقف (وكذلك السياسي) ضحية أفكاره، وتقاليعه النضالية بحيث يظهر عملياً في الواقع، وهو يعمل ضد مبادئه وقناعاته وأهدافه التي يزعم الدفاع عنها وحراستها، والتي كلّفته –وكلفت المجتمع- كثيراً من الدماء والدموع.
7- نعم، يجب علينا – في داخل اجتماعنا الديني والسياسي- أن نصر على عملية النقد، خاصة نقد العقل الديني من أجل الانخراط الواعي في صناعة الحضارة وبناء إنسان فاعل ومبدع.. وأن نعمق إحساسنا بوجودنا الحي والفاعل من خلال تركيز هذا الحس النقدي الذاتي لأفكارنا واعتقاداتنا.
8- لأنه من غير وجود بنية نقدية جديدة، وتراكم نقدي ذاتي جذري يطال باستمرار الثقافة والمثقف والسياسة والسياسي والدين والتدين، فإننا لن نستطيع تطوير أنفسنا ومجتمعاتنا التي طالها الخراب منذ عهود طويلة. ومن غير حرية في الفكر والتعبير والنقد لن نتحرر جميعاً من هذه الأوهام الشعاراتية التي حبسنا أنفسنا في داخلها، وقولبنا المجتمع لأطرنا وتصنيفاتنا الضيقة التي سببت لنا كل هذا الدمار والخراب السياسي والاجتماعي والمفاهيمي، والتأخر الكبير في الفكر والممارسة.
وعندما نبدأ جميعاً – كمثقفين وعلماء دين وسياسيين – بالتحرك على هذا الطريق الطويل والصعب، يمكن أن نصدق أفكارنا، ونصدق أنفسنا، ونصدق بعضنا البعض.. وإذا لم يتغير منهج التفكير الإسلامي السائد، وتصحّح منطلقاته فسوف يبقى العقل المسلم عاجزاً عن النظر الناقد والرؤية النافذة، وسوف يظل يراوح في حلوله، ويجتر ويكرر مقولاته ومحاولاته الفاشلة بين وقت وآخر، وعلى مرِّ القرون والأجيال والدول.
فرضيات الدراسة: تنطلق الدراسة الراهنة من فرضية رئيسية هي:
1 ـ “جمعنه” الإسلام والتفاعلات الاجتماعية الممتدة: فهناك اعتقاد راسخ في أن الإسلام “دين الجماعة
2- توالي الحقب الاستعمارية واعتماد المجتمع على ذاته: فالعالم العربي، وخصوصاً مصر، توالت عليه حقب استعمارية، خلقت مع تعاقب القرون شعوراً دفيناً بأن “حكم الغريب” بات قدراً، ولذا فإن المجتمع عليه أن يدبر شؤونه، ليحمي وجوده، ويضمن استمراره.
3- التمييز متعدد الأوجه والانصراف إلى الذات: فالدول العربية في الغالب الأعم مكونة من تكوينات اجتماعية موزعة على أعراق ومذاهب ولغات وثقافات متنوعة، شأنها شأن الأغلبية الكاسحة من دول العالم، إذ لا توجد دولة لدين واحد وطائفة واحدة وعرق واحد ومذهب واحد ولغة واحدة وطبقة واحدة
4- ترسخ عوامل اعتماد المجتمع وبعض تكويناته على ذاتها يبرز على وجه الخصوص عند تراجع أدوار الدولة الاقتصادية والتنموية والمجتمعية، ومعها تحاول تيارات مختلفة القبض على زمام هذا المجتمع “العميق” لأسباب متباينة، تبدأ من مجرد الانتشار السياسي الطبيعي أو استغلال هذا المجتمع لمقاومة السلطة الراهنة والوصول للحكم، أو خلق بؤر عنيفة ومتطرفة لدى جماعات “جهادية” وإرهابية، أو على أقل تقدير توفير مناطق للملاذات والحواضن الاجتماعية الآمنة.
منهجية البحث: من الأهمية بمكان: ان تستند البحوث والدراسات الي القواعد النظرية العملية التي تساعد الباحث علي توجيه بحثه الي الأسباب التوضيحية والعوامل المفسرة ل (موضوع البحث) كما هي في دراستنا الراهنة ومن ثَمَّ دراستها بأسلوب متعمق، وفي ضوء ذلك يتم استنباط أحكام أو قواعد؛ يمكن عن طريقها إجراء تعميمات تساعد في حل المشاكل الاجتماعية، ويشيع استخدام ذلك المنهج في العلوم الشرعية والأدبية والفقهية والاجتماعية بجميع أطيافها.
الفصل الأول: التكوينات الاجتماعية في المجتمع
إن كل من يعتقد أن ظهور حركات سياسية مرتبطة بالإسلام، تعبئ جماهير واسعة، هي ظاهرة مرتبطة بشعوب متخلفة ثقافياً وسياسياً، لا تستطيع أن تفهم سوى اللغة الظلامية التي تكاد ترتد لعصورها القديمة وحدها، فإنه يقع في خطأ كبير-كما يقول بحق د.سمير أمين- فالشعوب الإسلامية لها تاريخها، مثل بقية الشعوب،
والذي يمتلئ بالتفسيرات المختلفة للعلاقات بين العقل والإيمان، وبالتحولات والتغيرات المتبادلة للمجتمع وديانته. ولكن حقيقة هذا التاريخ تتعرض للإنكار لا على يد الخطاب الأوروبي المركزي وحسب، بل أيضاً على يد حركات الإسلام السياسي المعاصرة”.
لكن الخطاب الإسلامي، الذي يقدم كبديل لخطاب النهضة والديمقراطية، والمواطنة، وحرية الرأي والعقيدة، هو خطاب ذو طابع سياسي، تحت غطاء ديني شكلاني وطائفي رجعي. فالإسلام السياسي يدعو إلى التغيير الذي يعيد إنتاج وتجديد التخلف عبر النموذج السلفي الرجعي، لخدمة مصالح طبقية كومبرادورية وطفيلية راهنة.
ولم تحاول أية حركة إسلامية، “لاراديكالية ولا معتدلة”، أن تتبنى أفكار لاهوت التحرير أو أفكار الديمقراطية والمواطنة والنهضة، إذ أن كل اهتمامات حركات الإسلام السياسي بالدين الإسلامي ينحصر في العمل على تحقيق مشروعها السياسي الديني الذي يتلخص في إعادة نظام دولة الخلافة الإسلامية بما تعنيه من رفض لكافة صيغ أو مشاريع الدولة الوطنية القومية والديمقراطية الحديثة،
ما يعني أن هذه الحركات تستخدم الشعارات الدينية لنقل الصراع – كما يقول د.سمير أمين- من مجال التناقضات الاجتماعية (الطبقية) إلى مجال العالم الخيالي أو السماوي الديني، وقد نجحت في ذلك ارتباطاً بالأوضاع الاجتماعية الاقتصادية المتردية، ومساندة القوى الطبقية الحاكمة من جهة ، ودعم ومساندة بلدان النظام الرأسمالي العالمي من جهة ثانية خاصة وأن خطاب الحركات الإسلامية لا يتعارض أبداً مع خطاب رأس المال العالمي ومصالحه.
وفي هذا الجانب، نشير إلى عدم وجود أي اختلاف جوهري بين التيارات المسماة “بالراديكالية” للإسلام السياسي، وبين تلك التي تفضل تسمية نفسها “بالمعتدلة” فمشروع كل من النوعين متطابق..
العوامل التي شجعت انتشار الحركات الإسلامية :
أولاً: التبعية والتخلف والفقر والاستبداد:
بدايةً اشير الى التكوينات الاجتماعية تتعرض فى “العالم الرابع” للتفكيك فى ظل سياسة الكومبرادورية السائدة ، وفى هذه الحالات، فإن تدهور الصراعات الطائفية والمذهبية نحو مجال الغيبيات يصير أحد المعطيات الكارثية الحقيقية للأوضاع الاجتماعية، حيث يعطى التحالف بين أموال البترول والخطاب المنهجى التقليدى الماضوي، أكبر ضمان لنجاح الخطط الإمبريالية لفرض الكومبرادورية على المنطقة .
وفي هذا السياق، فإن استغلال النظام الإمبريالي للأوضاع العربية المترديه في ظل العولمة الراهنة، وحرصه على إدامة حالة الخضوع والتبعية والتخلف انسجاماً مع مصالحه الاستراتيجية في بلادنا، التي تحوي في باطنها أكبر احتياطي استراتيجي من النفط في العالم ، و ما يعنيه بالنسبة للنظام الإمبريالي، الذي أسهم دوماً في التخطيط والدعم للحركات الإسلاموية في بلادنا، حفاظاً على تلك المصالح من جهة ، ولتكريس وتعميق أهدافه في المرحلة الراهنة، عبر إعادة تفكيك وتقسيم البلدان العربية وفق أسس طائفية دينية ومذهبية واثنية، تمهيداً لتفتيتها إلى دويلات تابعة ومتخلفة، بما يضمن إدماجها تحت سيطرة النظام الرأسمالي العالمي ، و ما يعنيه هذا من ترسيخ تبعية وخضوع تلك الدويلات بالكامل وفق شروطه.
وفي هذا الجانب، فإنني أعتقد أن عجز أو ضعف السلطة المركزية في الدولة العربية عموماً، وفي سورية والعراق وليبيا واليمن خصوصا، وفر الظروف الملائمة لانتشار وتمدد الجماعات الإسلاموية المتطرفة من ناحية، وارتباط الصراع الداخلي بأبعاد ومنطلقات مذهبية وطائفية شكلت حاضنة اجتماعية لتلك الجماعات من ناحية ثانية. آخذين بالاعتبار حالة الانغلاق اللاهوتي الطائفي الذي يعيد الجماهير العفوية البسيطة إلى عقلية القرون الوسطى .
وعليه، فإن عجز أو تفكك الدولة القطرية كان سبباً في صعود تنظيم الدولة في سياق الفوضى الطاحنة في ليبيا، والفراغ السياسي ونمو الجماعات المرتبطة بالسلفية هناك، وفي اليمن مع سيطرة الحوثيين على صنعاء، ومع الأزمة البحرينية والأزمات الداخلية العربية، فهنالك اليوم حالة جديدة متنامية من تفكيك المجتمعات وانهيار السلطة الأخلاقية للدولة، والعودة إلى الأشكال الأولية من التعبير عن الهوية.
إن مثل هذه المناخات تخلق جاذبية لنموذج الدولة الإسلامية وقابلية لاستنساخه وتطبيقه في العديد من المجتمعات، طالما أن المسارات البديلة مغلقة إلى الآن، فليست خطورة هذا التنظيم أنه اجتاز الحدود وأقام كيانًا عابرًا لها، ومتوحشًا في سلوكه مع الخصوم، بل إنه أصبح نموذجًا للوعي الشقي السلبي ولحالة المجتمعات العربية والمسلمة، حيث وجدنا كيف سعت جماعات أخرى في ليبيا واليمن ومصر/ سيناء إلى استنساخه،
فطالما أن الأزمة السياسية السنية لم تُحل، والأزمة السلطوية العربية قائمة، فإن هذا التيار والتيارات الأخرى، سواء كانت شيعية أو عِرقية أو غيرها ستجد فرصةً للنمو والصعود والتكيف مع الضغوط والظروف المختلفة، وإذا تراجعت في مكان ستتنشر في مكان آخر ، ما يعني أن حركات التطرف الإسلاموي “ليست غريبة أبداً عن البيئة العربية ،
بل هي نتاجاً صادقاً وأميناً للواقع الراهن ومؤشراً موضوعياً للمدى الذي يمكن أن تصل إليه الانهيارات السياسية والأخلاقية والثقافية والمجتمعية، وهي أيضاً ليست كائناً غريباً عن مخرجات الأنظمة السلطوية الفاسدة من جهة والسياقات الاجتماعية المتردية من جهة ثانية ، وجمود المنظومة الفقهية والفكرية والاختلالات التي تعاني منها من جهة ثالثة”.
ثانيا: العوامل الاقتصادية التي شجعت انتشار الحركات الإسلامية:
1: التحولات الاقتصادية التي وقعت في ظل انفتاح النظام الساداتي في مصر، ثم في تونس والجزائر واليمن وسوريا أواخر عهد الرئيس حافظ الأسد، وصولاً إلى العدوان الأمريكي على العراق وسقوط النظام، ومن ثم انهيار ما تبقى من المشروع القومي، وكافة مشاريع التنمية على الصعيد الوطني، مما أفسح المجال واسعاً أمام ظهور “دولة الكومبرادور” ، وتكريس التبعية والتخلف والإفقار ،
وبالتالي توفير وخلق المناخ الملائم لانبعاث الحركات الإسلامية السياسية، التي نجحت في استغلال ظروف الإفقار والاستبداد السائدة ، وأن تقدم رؤيتها الخاصة لما حدث ، و تعرض ما عرف بالحل الإسلامي البديل تحت شعار “الإسلام هو الحل”، في مناخ سياسي واجتماعي واقتصادي، تزايدت فيه مظاهر الحرمان والمعاناة للجماهير الشعبية الفقيرة، في جميع البلدان العربية غير النفطية بدرجات متفاوته، الأمر الذي أدى إلى توفير كافة العوامل التي عززت إعادة ظهور وانتشار حركة الإخوان المسلمين وغيرها من الحركات الإسلاموية التي تفرعت وولدت من بطن الجماعة الأم.
2 : وفي ظل سياسة تزايد مظاهر الإفقار والاستبداد، تنامت الحركات والدعوات الإسلامية بصورة غير طبيعية وغير مسبوقة، حيث كثر بناء المساجد الأهلية، وظهر (أو تجدد) الاهتمام بمقامات الأولياء والأضرحة، وتزايد الإقبال على الطرق الصوفية، وأصبحت الجماعات الدينية، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، تملك المؤسسات المالية والاقتصادية والعقارية، والمستشفيات، والمدارس، والشركات، وتعددت وتشعبت نشاطاتها، بحيث جاوزت المهام الدينية لتقدم من خلال المساجد العديد من أشكال الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية والاقتصادية،
كما لوحظ انتشار هذه الظاهرة على المستوى الفكري عبر انتشار الكتابات الدينية، وإعادة وطبع كتابات “إسلامية” جسدت الرؤية الوهابية المتخلفة ، المعبرة عن المصالح الطبقية للأسرة الحاكمة في السعودية، وبقية الأسر، والمشايخ في الخليج العربي ، كما عبرت عن مصالح الكومبرادور المتنامي في بقية الدول العربية ، لكنها نجحت في الانتشار عبر مخاطبة الوعي العفوي للجماهير الشعبية الفقيرة في معظم الدول العربية، وذلك من خلال التركيز على الشكليات والبدع والخرافات، ورفض مفاهيم الحداثة والتقدم العلمي ، إلى جانب التركيز على رفض الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بمضمونها الاشتراكي، كما رفضت مفاهيم العلمانية، والوطنية والقومية والمواطنة والتقدم، دون أي إشارة تدعو إلى النضال ضد الإمبريالية، والدولة الصهيونية.
ثالثا: تأثير الخطابات والشعارات والكتابات السلفية المتزمتة في انتشار الحركات الاسلامية:
لقد راجت هذه الكتابات واتسع سوقها وجمهورها (تطبع بالملايين وتوزع بسعر زهيد أو مجاناً!) إلى جانب المجلات والدراسات التي تؤكد على الخطاب الأيديولوجي الديني، الذي يقوم على تمجيد الماضي وإضفاء حالة القداسة عليه.
فعلى المستوى القانوني والتشريعي، ارتفعت الأصوات المطالبة بإلغاء كل تشريع ديمقراطي يتعارض مع الشريعة الإسلامية، داعية إلى تطبيق الشريعة وإلغاء القوانين الوضعية، ومطالبة الحكومات بإصدار تشريعات لمعاقبة الكتاب والمفكرين الذي يتعرضون للإسلام بسوء.
وفي هذا الجانب ، نشير إلى أحد أهم عوامل التخلف الفكري في الثقافة العربية، المرتبط بالمناهج، والكتب التربوية، في المدارس والجامعات العربية، التي تكرس المفاهيم السلفية الشكلية من منطلق التناقض مع المفاهيم والقيم الحضارية الحديثة، خاصة قيم الاختلاف والرأي والرأي الآخر والديمقراطية والمواطنة وتعلن رفضها لمفاهيم الوطنية والقومية ، علاوة على انها لا تتناول أي إشارة إلى التنوع الديني في بلادنا من منطلق المساواة أمام القانون، بل إن معظم الكتب المقررة للتعلم في المدارس العربية تعتبر الإسلام حقيقة مطلقة ووحيدة، بل تشجع على التطرف والعنصرية تجاه الآخر،
الأمر الذي يدرج الطوائف والعقائد الأخرى ضمن مفاهيم الضلال والكفر، ويسهم في تربية جيل ناقل وحافظ للمعلومة ، غير قادر على الخلق والتفكير الموضوعي السليم، وكل ذلك يعود إلى أن النظام التربوي في الوطن العربي يحد من القدرة لدى الطالب على طرح الأسئلة وعلى فهم المعلومة المقدمة له، وإعادة صياغتها في عقله، بشكل نقدي بل يؤسس ويكرس لفعل قمع العقل عن التساؤل وتهيئته فقط للتلقي، ما يسطح عقلية الطلاب ويخلق منهم جيلاً ناقلاً لا فاهماً أو مساهمة في صنع الفكرة،
بحيث بات الدين في ثقافة المجتمع عموماً، والأطفال وطلاب المدارس خصوصاً ، هو جزء أساسي من الخبرات التي يتلقاها الأطفال في عمر مبكر جدا أثناء تنشئتهم. فمنذ سن الرابعة أو الخامسة، يبدؤون التعرف على الله والجنة والنار، ويصبحون على تماس مباشر بطقوس الصلاة والصيام والحج. ويُطلب منهم استظهار أناشيد وقصص تتعلق بالرسول والصحابة وغيرها من القصص الدينية. وهذا الشكل من التنشئة لا يقتصر على الأسر الذي يأخذ تدينها طابعا فكريا أيديولوجيا، بل إن له طابعا اجتماعيا عاما.
ويجب أن نعترف أن هذه التنشئة عموما، لا ترحب بالآخر المختلف دينيا، بل هي على النقيض ترفضه، إذ هي تتعامل مع العقيدة الإسلامية هنا بوصفها الحقيقة الجاهزة المكتملة المطلقة، غير القابلة للنقاش، ويوصم كل ما عداها من عقائد بالضلال، ويتلقى الأطفال هذا النوع من التنشئة في وقت يستخدم فيه الدين في الوقت الحاضر، كما استخدم دوما، أداة لإثارة النزاعات وإدارتها، ومن هنا يأتي خطر أن تظل المدرسة امتدادا لهذا النوع من التنشئة.
ومن هنا فإن المحتوى التعليمي لكتب الصفوف الثلاثة الأولى، لا يمثل خطوة باتجاه تكريس ثقافة التسامح الديني، والاعتراف بحق الآخر في الوجود، بل هو في الحقيقة يواصل تكريس القيم النقيضة لها.
وفي هذا السياق، فإننا نخطئ خطأً جسيماً لو ظننا أن تجديد الفكر الدينى يتمثل أساسا فى مراجعة ونقد بعض الأفكار المتطرفة المبثوثة فى الخطاب الدينى، وذلك لأن المطلوب قبل إحداث ثورة دينية هو القيام “بثورة معرفية” تركز على مناهج التعليم العتيقة البالية سواء فى المعاهد الأزهرية التى تخصصت فى تعليم الفكر الدينى، أو فى مؤسسات التعليم المدنى الزاخرة بقشور العلم، والتى لا محل فيها لفكر دينى مستنير.
“وهذه الثورة المعرفية المقترحة لها أركان أساسية، أهمها على الإطلاق تأسيس العقل النقدى الذى يطرح كل الظواهر الاجتماعية والثقافية والطبيعية للمساءلة وفق قواعد التفكير النقدى المسلم بها فى علوم الفلسفة والمنطق. والركن الثانى تجسير الفجوة بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية على أساس مبدأ وحدة العلوم. والركن الثالث هو الدراسة العلمية للسلوك الدينى لمعرفة صوره وأنماطه السوية والمنحرفة على السواء. والركن الرابع والأخير استخدام الاكتشافات الجديدة فى علم اللغة والمنهجيات المستحدثة فى تحليل الخطاب لتأويل الآيات القرآنية حتى تتناسب أحكامها مع روح العصر”.
والنتيجة أن مجتمعاتنا العربية، أصبحت تعاني من ازدواجية واضحة على مختلف المستويات العمرانية، والاقتصادية، والاجتماعية، والقانونية، والإدارية، والثقافية. ازدواجية تتمثل في وجود قطاعين أو نمطين من الحياة الفكرية والمادية، منفصلين ولكنهما متعايشان معاً داخل المجتمع الواحد: أولهما عصري، مستنسخ عن النموذج الغربي، ومرتبط به ارتباطاً تبعياً، والثاني تقليدي أو أصيل، وهو استمرار لما كان قائماً من قبل التغلغل الإمبريالي، ويتم الدفاع عنه بدعوى الأصالة والحفاظ على تراث الأسلاف !!.
وفي هذا السياق أشير بوضوح شديد إلى أن أزمة فكرنا وواقعنا ليست فحسب أزمة تخلف وتبعية، بل هي أيضاً أزمة معرفة وأزمة تنمية وأزمة انظمة مستبدة ، وأزمة تفارق صارخ بين مستويات الثروة والتحضر ومستويات المعيشة، والديمقراطية والعلم والثقافة، أزمة علاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، أزمة هيمنة خارجية استغلالية على مقدرات حياتنا ومنطلقات تنميتنا الاجتماعية والثقافية والقومية، إنها في النهاية أزمات مستفحلة ومتداخلة نتيجة ضعف احزاب وفصائل اليسار العربي وفقدانها للرؤية الاستراتيجية الشاملة والبرامج والاليات المطلوبة لمجابهة الازمات وتجاوزها صوب التغيير التحرري الديمقراطي النهضوي المنشود.
وبالتالي فان بلورة رؤيتنا الوطنية والقومية الديمقراطية – كما يقول بحق المفكر الماركسي الراحل أ. محمود العالم – مرهونة بوعينا وبنضالنا للانتصار على أزمة فكرنا وواقعنا، وهي ليست فحسب أزمة تخلف وتبعية، بل هي أيضاً أزمة معرفة وأزمة تنمية وأزمة نظام وأزمة حكم وأزمة تفارق صارخ بين مستويات الثروة والتحضر ومستويات المعيشة، والديمقراطية والعلم والثقافة، أزمة علاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، أزمة هيمنة خارجية استغلالية على مقدرات حياتنا ومنطلقات تنميتنا الاجتماعية والثقافية والقومية، إنها في النهاية أزمة فكر نظري نتيجة لمختلف هذه الأزمات المتداخلة،
ونتيجة فقداننا للرؤية الاستراتيجية الشاملة لتغيير الواقع وتجديده، ولن نتجاوز تخلفنا وتبعيتنا إلا بمشروع تنموي قومي شامل ذي أبعاد اقتصادية واجتماعية وتعليمية وثقافة وإعلامية وقيمية، ومشروع يستوعب تراثنا العربي الإسلامي استيعابا عقلانيا نقديا، ويضيف إليه ، ويستوعب حقائق عصرنا الراهن استيعابا عقليا نقديا .
اكن الإشكالية الكبرى، أن المجتمع العربي يتعرض اليوم لهذه الأحوال المأزومة بكل أبعادها ، في اللحظة التي انتقل فيها العالم من مرحلة تاريخية سابقة ، إلى المرحلة الجديدة أو العولمة ، بتسارع غير مسبوق ، وبمتغيرات نوعية تحمل في طياتها ، في الحاضر والمستقبل ، تحديات غير اعتيادية ،
لا يمكن امتلاك القدرة على مواجهتها إلا بامتلاك أدواتها المعرفية والعلمية ، وهو هدف لا يمكن تحقيقه في ظل استمرار بقاء السيطرة الإمبريالية على قدراتنا عبر تحالفها غير المقدس مع أنظمة التبعية والخضوع في بلادنا من جهة ،
او في ظل استفحال مظاهر التخلف والاستبداد من جهة ثانية ، بما يؤكد على ترابط العاملين الداخلي والخارجي ، ومواجهتهما معاً في سياق عملية التغيير المطلوبة لمجتمعنا العربي ، ذلك إن ” الاستلاب الأيدلوجي بشكليه السلفي والاغترابي – كما يقول جاد الكريم الجباعي -هو ابرز الآليات الداخلية التي تعيد إنتاج التأخر ، وتعيد إنتاج الاستبداد وتحافظ على البنى والعلاقات والتشكيلات القديمة ما قبل القومية ،
فالعلاقة بين المستوى الأيدلوجي السياسي والمستوى الاجتماعي الاقتصادي ، هي علاقة جدلية ، تحول كل منهما الآخر في الاتجاهين ” الامر الذي يفرض على القوى الديمقراطية واليسارية ان تبادر الى الخروج من ازماتها الفكرية والسياسية والمجتمعية لكي تفرض وجودها وانتشارها عبر بديلها الديمقراطي القادر
وحده على كسر وتجاوز حالة الاستقطاب المرعبة بين قوى اليمين والتخلف والتبعية والاستبداد والخضوع صوب مستقبل عربي تحكمه معايير التنوير والمواطنة والثورة الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية .
الفصل الثاني: مستقبل ظاهرة الإسلام السياسي
أفرزت ما أطلق عليه “ثورات الربيع العربي” العديد من النتائج والتطورات على الساحة السياسية في كافة البلاد العربية، وبرز على السطح ذلك الجدل حول دور حركات الإسلام السياسي في تلك الثورات، باعتبارها الرابح الرئيسي فيها، ثم انتقل ذلك الجدل إلى مربع آخر عقب الموجة الثانية للثورة المصرية في 30 يونيو 2013،
والتي أطاحت بحكم جماعة الإخوان المسلمين، والضربات التي وجهها النظام المصري إلى الجماعة عقب تبنيها منهج العنف، مما جعل وجود “جماعة الإخوان” تنظيميا مقتصرا على عدد من الدول في الخارج، بعد أن أصبحت بحكم القانون المصري جماعة إرهابية، وقبل ذلك بحكم الشعب، وهي الخسارة الغير مسبوقة للجماعة.
اولا: الحاضنة الشعبية الأساسية للتيار الديني
ومن ثم برز الجدل حول مستقبل ظاهرة الإسلام السياسي كفكرة وحركة، لا سيما وأن مصر كانت هي المهد والحاضنة الشعبية الأساسية للتيار، ومن هنا يمكن فهم مدى الفداحة التي تمثلها الانتكاسة في مصر، كما يمكن فهم الخسائر التي توالت في ليبيا وتونس وغزة واليمن، وهو ما يعرف بـ”تأثير الدومينو”.وتتعدد الآراء والسيناريوهات التي تنظر لمستقبل ظاهرة الإسلام السياسي، وتتراوح بين منتقدين يعتبرون أن الظاهرة في طريقها للتراجع بل والاختفاء بانتهاء الجماعة ومشروعها، وهناك الخطاب الرسمي للتنظيم الدولي للإخوان، وأتباعه ممن يؤكدون أن ما تتعرض له الجماعة هو محنة وابتلاء، ومؤامرة على الإسلام، وأنه سرعان ما ستعود الجماعة أقوى مما سبق.
هنا يلاحظ الباحث، أنه حين يدور الحديث عن مستقبل “ظاهرة الإسلام السياسي”، والتي توجت بوصول الإخوان إلى السلطة، يتم الخلط بين تيار الإسلام السياسي وأحزابه وتنظيماته، وبين الظاهرة ذاتها وما لها من جذور اقتصادية وسياسية واجتماعية؛ فهزيمة جماعة الإخوان وتنظيمات الإسلام السياسي سياسيا، لا تعني بالضرورة انتهاء ظاهرة الإسلام السياسي، فالظاهرة تظل ما ظلت العوامل المنتجة لها؛ بينما يخضع الانتصار أو الهزيمة لموقف الجماهير من ممارسات تلك التنظيمات، والتحولات الخاضعة للعوامل السياسية والاقتصادية.
وبالعكس فمن الناحية الأخرى، فإن القدرة التنظيمية والمادية العالية لتنظيم الإخوان، وقوة الدعم المادي الهائل الذي تتلقاها الأحزاب السلفية، قد تؤدي إلى تواجد قوي في الساحة السياسية لتلك الأحزاب بغض النظر عن قوتها الحقيقية وسط الجماهير، حتى مع الانحسار الجزئي للظاهرة، ففي كلا الحالتين الوجود المادي السياسي لتلك التنظيمات لا يتناسب بالضرورة مع قوة أو ضعف تلك الظاهرة.
وفي هذا الصدد، تتعدد الرؤى والسيناريوهات المستقبلية لمصير ظاهرة الإسلام السياسي عقب ثورات الربيع العربي. وهو ما تحاول الدراسة إلقاء الضوء عليه، في محاولة لرصد علمي لأثر تلك الثورات على مستقبل ظاهرة الإسلام السياسي عامة وفي مصر خاصة.
عجزت جماعات/تنظيمات الإسلام السياسي في مصر، والتي انخرطت في العمل السياسي من خلال تأسيسها لأحزاب سياسية تمارس من خلالها نشاطها السياسي عن الفصل ما بين النشاطين الديني والسياسي؛ فتأثرت عملية صنع القرار لدى الإخوان بعمق بالاعتبارات الإيديولوجية وبالحسابات الانفعالية قصيرة المدى، التي تفتقد إلى التحليل الاستراتيجي، ودأبت علي الخلط بين الديني والسياسي، ولم تكن الحدود الفاصلة بين الدور الديني والاجتماعي ونشاطها السياسي واضحة.
وقد بدا ذلك واضحاً، في القرارات التي تصدر عن مؤسسة الرئاسة –في عهد محمد مرسي- ويتم نفيها أو العدول عنها لأن تعليمات مكتب الإرشاد أرادت غير ذلك، وهو ما انعكس هيبة ومكانة الدولة المصرية.
لقد توهمت خطأ قوى الإسلام السياسي أنه بمجرد إعلانهم أن أحزابهم مدنية بمرجعية إسلامية يكون الفصل قد حدث، ونسوا أو تناسوا أن الفصل عملية تنبع من الوعي والفكر بأن منطق الجماعة الدينية يختلف تماما عن منطق الحزب السياسي؛ فالمشكلة لم تكن يوما في العلاقة التنظيمية التي تحكم علاقة الحزب بالجماعة ومساحات الانفصال والتلاقي بينهما، وإنما في الفلسفة التي يستند إليه كلاهما، فالعضو الذي يقرر الانتماء لجماعة دينية ليس هو حتما من يقرر الانتماء إلي حزب سياسي وبالعكس. الأمر الذي انعكس على الخطاب الفكري والأيديولوجي لهذه الحركات، فلم يعد مقبولاً بعد انخراطهم في العمل السياسي وفق قواعد الديمقراطية أن تظل متخندقة في أطروحاتها الدينية والفكرية دون الانفتاح علي غيرها من التيارات والرؤى والأفكار الأكثر تقدمية واعتدالا، وهو ما جعلها تخسر الكثير من قواعدها ومؤيديها غير النظاميين.
ثانياً: موقفهم السلبي من الدولة القومية
هذا الموقف السلبي الذي تتبناه قوى الإسلام السياسي من الدولة القومية، حيث فكرة الولاء للعقيدة تعلو الولاء للوطن، وأن الدولة القومية شر لابد من القضاء عليه، أدى إلى صراع تاريخي بين الطرفين، وبالتالي استبعاد/انسحاب تلك القوى من الانخراط في دولاب العمل بالدولة، مما حال دون تكوين كوادر محملة بخبرات التعامل مع أجهزة الدولة البيروقراطية والأمنية والعسكرية؛ مما جعلهم يفتقرون إلى الرأسمال الخبراتي والثقافي حول الدولة الحديثة والمعاصرة وتعقيداتها وتعبيراتها،
وهو ما ظهر أثناء حكم الإخوان ومعهم بعض حلفائهم من الإسلام السياسي، حيث سعيهم لبناء أطر موازية للأطر الرسمية للدولة، مثل الاستعانة بالمليشيات الإخوانية، وتدخل بعض القيادات في الأجهزة الأمنية، والاعتداء على سلطة القضاء وأحكامه، عبر تعطيل الأحكام بموجب الإعلان الدستوري الذي أعلنه محمد مرسي، والهجوم على نادي القضاة، ومحاصرة المحكمة الدستورية العليا.
ثالثاً: الانتقال من السرية إلى العلنية
دأبت قوى الإسلام السياسي علي العمل بعيدا عن القواعد المؤسسية التي تحكم عمل الأحزاب والقوي السياسية الأخرى، وهو ما وفر لها قدرا من السيولة والتغلغل في المجتمعات، ويترتب علي العمل السري سلسلة طويلة من القيم والمبادئ التي ينشأ عليها أفراد الحركة وأعضاؤها، مما يخلق ثقافة ومنظومة قيميه بعيدة عن الشفافية والوضوح. لذا، لم تستطع جماعة الإخوان المسلمين بعد وصولها للسلطة في مصر تغيير البنية العقلية والفكرية لأعضائها، ونقلها من الحيز السري بآلياته وتفاعلاته إلي الإطار العلني بمسئولياته والتزاماته، وهو ما ترتب عليه ازدواجية عملية صنع القرار ما بين بعض سلطات الدولة، ومراكز صنع القرار في مكتب الإرشاد.
رابعاً: سياسة التمكين وسيادة خطاب الاستعلاء والإقصاء والاستعداء
كان الوصول إلى السلطة بمثابة “نهاية التاريخ” لجماعة الإخوان المسلمين، ما أدّى إلى تهميش مرونتها ونفعيتها البرجماتية الشهيرة؛ وتبنت الجماعة خطابا استعلائيا مع الجميع بما فيهم قوى تيار الإسلام السياسي الأخرى، حيث تعاملت معهم الجماعة انطلاقا من أنها التنظيم الأم في علاقتها بهم، وعليهم أن يتحركوا وفق ما تراه وينفذوا أجندتها، فلم نجد أي محاولة تقارب مع حزب النور وغيره من الأحزاب الإسلامية وإشراكها بجدية في العملية السياسية.
كما خالفت جماعة الإخوان المسلمين كافة وعودها للقوى السياسية المدنية التي ساعدتها في الوصول لمنصب الرئاسة، وبدلا من تحقيق وعودها بأن يكون الحكم مشاركة لا مغالبة، دشنت توجهاً أساسياً نحو تمكينهم من السلطة منفردين، اعتماداً على الشرعية الانتخابية الممنوحة للنظام، فأداروا شئون البلاد معتمدين على أبناء الإخوان المسلمين بشكل رئيسي، وبررت الجماعة ذلك بأن من حق الرئيس أن يختار من يعمل معه، واستهانت مما قيل عن “أخونة” السلطة،
وقالت أن هذا محض وهم ليس له أي سند واقعي، وأشركوا على استحياء بعض أطياف من الإسلاميين دون غيرهم من باقي القوى، رغم أنهم أشاروا في بدايات الثورة إلى ضرورة التعاون بين جميع التكتلات الثورية في بناء تحالف يُمكِّن من تأسيس نظام مستقر مدعوم من فصائل متعددة، على اعتبار أن هذا من سمات الفترات الانتقالية. وظهر ميل جماعة الإخوان المسلمين وتوجههم الأساسي نحو السيطرة على مؤسسات توجيه الرأي العام ومؤسسات وتشكيل وعي وثقافة النشء، والمؤسسات الاقتصادية
فقدت جماعة الإخوان المسلمين، وكافة قوى الإسلام السياسي التي تتبنى نهج التغيير التدريجي علّة وجودها لصالح القوى التي تتبني نهج التغيير المباشر العنيف، مثل النماذج الجهادية في ليبيا والعراق وسورية، والتي صارت جاذبة للإسلاميين المصريين المصابين باليأس بسبب الهزيمة السياسية التي منى بها تيار الإسلام السياسي في مصر، ويمكن أن تسهل الجذور الإيديولوجية المشتركة هذا الانتقال. وحتى لو تمّ احتواء الميل إلى النهج العنيف، لا يزال النموذج السياسي الكلاسيكي للإخوان المسلمين غير قابل للاستمرار.
خامساً: أدى كل ما سبق إلى تراجع شعبية الإسلام السياسي، الذي طالما روج لامتلاكه المشروع الحضاري البديل للمشروع الراهن الذي هو أساس الأزمة –حسب ادعائه- وان لو أتيحت له الفرصة للوصول للحكم لحقق كل طموحات وآمال الجماهير، في العدل والمساواة والكفاية، إلا أن تجربته في الحكم أثبتت أن كل ذلك كان وهم ومتاجرة بأحلام الناس، باستخدام عنصر الدين، فلم تتحسن أحوال الناس، بل ازدادا سوءً، ولم تتخذ قرارات هيكلية تبشر بأنهم جادين في وعودهم السابقة، بل ما ظهر هو التكالب على المناصب، والصراع بين القوى الإسلامية المختلفة على المغانم السياسية، كما برز بين أكبر قوتين جماعة الإخوان والسلفيين.
ورغم حالة التذمر الشعبي، والمؤسسي الرسمي من السياسات والآليات التي تتبعها جماعة الإخوان في إدارة الدولة المصرية، والتي اتسمت بالاستعلاء والإقصاء في مقابل الآخرين بما فيهم بعض أطراف تيار الإسلام السياسي مثلما حدث مع السلفيين، والسعي لهدم مؤسسات الدولة بحجة تطهيرها وإصلاحها، وأمام رفض جماعة الإخوان المسلمين وأتباعها من جماعات/تنظيمات الإسلام السياسي إجراء أي إصلاحات جوهرية في أسلوب إدارتها للدولة، بل والأكثر من ذلك، تم اللجوء لاستخدام العنف بالفعل من قبل ميليشيات الجماعة ضد المعتصمين أمام قصر الاتحادية،
كما صدرت تهديدات باستخدام العنف ضد المظاهرات التي تخرج ضد الرئيس مرسي في 30 يونيو 2013، استشعر المصريون ومؤسسات الدولة حجم الخطر الذي يحيط بكيان الدولة المصرية ذاته، ومما زاد الأمر توترا محاولة تيار الإسلام السياسي العبث بهوية الشعب والدولة المصرية وعدم الاكتراث بقيم المجتمع،
وتلك كانت القشة التي قسمت ظهر البعير؛ فاستنهضت الدولة المصرية –الدولة العميقة- وشعبها كافة الطاقات من أجل الدفاع عن بقائهما والدفاع عن الهوية التي تم صياغتها عبر تجربة تاريخية؛ هي الأطول والأقدم بين التجارب البشرية على الإطلاق، وخرج الشعب المصري ثائرا ضد نظام حكم جماعة الإخوان المسلمين محمياً ومدعوما بقوته العسكرية –المؤسسة العسكرية- في 30 يونيو 2013 ليستعيد الدولة المصرية.
سادساً: الخسارة على الصعيد الخارجي؛ نتيجة ممارسات جماعة الإخوان المسلمين السلبية -إبان عام حكمهم لمصر- تجاه عدد من الدول العربية؛ خاصة دول الخليج العربي (المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة)، أثار حفيظة تلك الدول إزاء الصعود الإيديولوجي والسياسي للإخوان في المنطقة، وهو ما يفسر الدور الحيوي والمؤثر الذي لعبته تلك الدول في دعم النظام المصري عقب سقوط حكم الإخوان، بالإضافة إلى وضع السعودية في 4 مارس 2014 جماعة الإخوان على لائحتها الخاصة بالمنظمات الإرهابية، وبالتالي حجب الدعم المحلي السعودي للجماعة.
إجمالاً: كان خروج المصريين في 30 يونيو 2013 كاشفاً بالدليل القاطع أن جماعات/حركات/تنظيمات الإسلام السياسي لا تسيطر على الشارع كما تدعى الأخيرة، وأن المصريين خلال تجربة سنة حكم جماعة الإخوان أدركوا بوعيهم الفطري والديني والحضاري أن ما كانت تقول به هذه الجماعة وأتباعها، ومن يسير على دربها ليس من الدين في شئ، وأنهم تاجروا بالدين للوصول إلى السلطة، وأن ممارساتهم في الحكم هي ذاتها ممارسة الحزب الوطني، وربما أسوأ، ولا يعني ذلك أن المصريين صاروا غير متدينين (كما يزعم أنصار ذلك التيار)، لكنهم وصلوا إلى ضرورة الفصل بين الدين والسياسة.
المطلب الثاني “أسباب فشل تيار الإسلام السياسي في الحكم”
السؤال الآن، لماذا وصل الأمر بتيار الإسلام السياسي إلى هذا الحد بعد عام واحد من وصوله لقمة أحلامه في الوصول لسدة الحكم في دولة بحجم مصر، التي كانت هي الناشئة له، والحاضنة الرئيسية وبمثابة العقل المدبر والملهم لأفكاره وعملياته؟
هناك عدد من الأسباب منها ما يعود إلى السمات العامة لظاهرة الإسلام السياسي، ومنها ما يعود إلى طبيعة عمل حركات/تنظيمات الظاهرة، ومن أهم تلك الأسباب:
أولاً: خلط الديني بالسياسي
عجزت جماعات/تنظيمات الإسلام السياسي في مصر، والتي انخرطت في العمل السياسي من خلال تأسيسها لأحزاب سياسية تمارس من خلالها نشاطها السياسي عن الفصل ما بين النشاطين الديني والسياسي؛ فتأثرت عملية صنع القرار لدى الإخوان بعمق بالاعتبارات الإيديولوجية وبالحسابات الانفعالية قصيرة المدى، التي تفتقد إلى التحليل الاستراتيجي، ودأبت علي الخلط بين الديني والسياسي، ولم تكن الحدود الفاصلة بين الدور الديني والاجتماعي ونشاطها السياسي واضحة.
وقد بدا ذلك واضحاً، في القرارات التي تصدر عن مؤسسة الرئاسة –في عهد محمد مرسي- ويتم نفيها أو العدول عنها لأن تعليمات مكتب الإرشاد أرادت غير ذلك، وهو ما انعكس هيبة ومكانة الدولة المصرية.
لقد توهمت خطأ قوى الإسلام السياسي أنه بمجرد إعلانهم أن أحزابهم مدنية بمرجعية إسلامية يكون الفصل قد حدث، ونسوا أو تناسوا أن الفصل عملية تنبع من الوعي والفكر بأن منطق الجماعة الدينية يختلف تماما عن منطق الحزب السياسي؛ فالمشكلة لم تكن يوما في العلاقة التنظيمية التي تحكم علاقة الحزب بالجماعة ومساحات الانفصال والتلاقي بينهما، وإنما في الفلسفة التي يستند إليه كلاهما، فالعضو الذي يقرر الانتماء لجماعة دينية ليس هو حتما من يقرر الانتماء إلي حزب سياسي وبالعكس.
الأمر الذي انعكس على الخطاب الفكري والأيديولوجي لهذه الحركات، فلم يعد مقبولاً بعد انخراطهم في العمل السياسي وفق قواعد الديمقراطية أن تظل متخندقة في أطروحاتها الدينية والفكرية دون الانفتاح علي غيرها من التيارات والرؤى والأفكار الأكثر تقدمية واعتدالا، وهو ما جعلها تخسر الكثير من قواعدها ومؤيديها غير النظاميين.
ثانياً: موقفهم السلبي من الدولة القومية
هذا الموقف السلبي الذي تتبناه قوى الإسلام السياسي من الدولة القومية، حيث فكرة الولاء للعقيدة تعلو الولاء للوطن، وأن الدولة القومية شر لابد من القضاء عليه، أدى إلى صراع تاريخي بين الطرفين، وبالتالي استبعاد/انسحاب تلك القوى من الانخراط في دولاب العمل بالدولة، مما حال دون تكوين كوادر محملة بخبرات التعامل مع أجهزة الدولة البيروقراطية والأمنية والعسكرية؛ مما جعلهم يفتقرون إلى الرأسمال الخبراتي والثقافي حول الدولة الحديثة والمعاصرة وتعقيداتها وتعبيراتها، وهو ما ظهر أثناء حكم الإخوان ومعهم بعض حلفائهم من الإسلام السياسي، حيث سعيهم لبناء أطر موازية للأطر الرسمية للدولة، مثل الاستعانة بالمليشيات الإخوانية، وتدخل بعض القيادات في الأجهزة الأمنية، والاعتداء على سلطة القضاء وأحكامه، عبر تعطيل الأحكام بموجب الإعلان الدستوري الذي أعلنه محمد مرسي، والهجوم على نادي القضاة، ومحاصرة المحكمة الدستورية العليا.
ثالثاً: الانتقال من السرية إلى العلنية
دأبت قوى الإسلام السياسي علي العمل بعيدا عن القواعد المؤسسية التي تحكم عمل الأحزاب والقوي السياسية الأخرى، وهو ما وفر لها قدرا من السيولة والتغلغل في المجتمعات، ويترتب علي العمل السري سلسلة طويلة من القيم والمبادئ التي ينشأ عليها أفراد الحركة وأعضاؤها، مما يخلق ثقافة ومنظومة قيميه بعيدة عن الشفافية والوضوح. لذا، لم تستطع جماعة الإخوان المسلمين بعد وصولها للسلطة في مصر تغيير البنية العقلية والفكرية لأعضائها، ونقلها من الحيز السري بآلياته وتفاعلاته إلي الإطار العلني بمسئولياته والتزاماته، وهو ما ترتب عليه ازدواجية عملية صنع القرار ما بين بعض سلطات الدولة، ومراكز صنع القرار في مكتب الإرشاد.
رابعاً: سياسة التمكين وسيادة خطاب الاستعلاء والإقصاء والاستعداء
كان الوصول إلى السلطة بمثابة “نهاية التاريخ” لجماعة الإخوان المسلمين، ما أدّى إلى تهميش مرونتها ونفعيتها البرجماتية الشهيرة؛ وتبنت الجماعة خطابا استعلائيا مع الجميع بما فيهم قوى تيار الإسلام السياسي الأخرى، حيث تعاملت معهم الجماعة انطلاقا من أنها التنظيم الأم في علاقتها بهم، وعليهم أن يتحركوا وفق ما تراه وينفذوا أجندتها، فلم نجد أي محاولة تقارب مع حزب النور وغيره من الأحزاب الإسلامية وإشراكها بجدية في العملية السياسية.
كما خالفت جماعة الإخوان المسلمين كافة وعودها للقوى السياسية المدنية التي ساعدتها في الوصول لمنصب الرئاسة، وبدلا من تحقيق وعودها بأن يكون الحكم مشاركة لا مغالبة، دشنت توجهاً أساسياً نحو تمكينهم من السلطة منفردين، اعتماداً على الشرعية الانتخابية الممنوحة للنظام، فأداروا شئون البلاد معتمدين على أبناء الإخوان المسلمين بشكل رئيسي، وبررت الجماعة ذلك بأن من حق الرئيس أن يختار من يعمل معه، واستهانت مما قيل عن “أخونة” السلطة، وقالت أن هذا محض وهم ليس له أي سند واقعي
، وأشركوا على استحياء بعض أطياف من الإسلاميين دون غيرهم من باقي القوى، رغم أنهم أشاروا في بدايات الثورة إلى ضرورة التعاون بين جميع التكتلات الثورية في بناء تحالف يُمكِّن من تأسيس نظام مستقر مدعوم من فصائل متعددة، على اعتبار أن هذا من سمات الفترات الانتقالية. وظهر ميل جماعة الإخوان المسلمين وتوجههم الأساسي نحو السيطرة على مؤسسات توجيه الرأي العام ومؤسسات وتشكيل وعي وثقافة النشء، والمؤسسات الاقتصادية والأمنية؛ باختصار كل ما من شأنه إحكام قبضتهم على الوطن.
أضف إلى ذلك، أن خطاب الجماعة ظهر فيه الطابع العدائي بوضح بما فيه من لغة تكفيرية للآخرين, وتبني شعار الشرعية أو الدماء, وهذا الشعار الذي أدي إلي العنف وإراقة الدماء في الشوارع, وأُستلهم هذا الشعار من التجربة الجزائرية الفاشلة, والتي أدت لمقتل أكثر من100 ألف قتيل, وجرح أكثر من70 ألف جريح, ومع ذلك لم تعد الشرعية ولم تحقن الدماء, ولم تطبق الشريعة الإسلامية, وهذا ما حدث أيضا في مصر لم تحافظ الجماعة على الشرعية ولم تحقن الدماء.
خامساً: غياب المشروع الحقيقي
داعبت جماعات الإسلام السياسي –ولا تزال- عقول ومشاعر الجماهير والأتباع بامتلاكها الحلول الحاسمة الناجزة لكافة مشكلاتها، والمستقاة من تعاليم وقواعد الدين الإسلامي القائمة على العدل والمساواة وطهارة اليد … الخ، وأن ما يحول دون تنفيذ ذلك الأنظمة المستبدة التي تسيطر على الحكم. وما أن وصلت للحكم عقب الثورة اكتشفت الجماهير والأتباع أن كل ذلك كان وهو ومتاجرة بالدين للوصول للحكم، وأن جماعة الإخوان لا تختلف عن الحزب الوطني الذي خرب مصر لعقود، وأفسد أفضل ما فيها، وهو ما أكدته الجماعة نفسها بإقرارهم أن خلافهم مع برنامج الحزب الوطني المنحل، إنما هو خلاف على التطبيق، فهم لا يرون في هذا البرنامج خللا منتجا للدمار الذي حاق بمصر، يرون أن المشكلة فقط تكمن في أخلاق القائمين على التنفيذ.
وهو ما انعكس على أدائهم، فبدلا من عملهم على إحداث تغيير اجتماعي لخلق قوة مجتمعية مساندة لهم، كما فعل عبد الناصر مثلا غداة سيطرته على الحكم؛ حين ألغى المَلكية وأصدر قانون الإصلاح الزراعي، فاصطف خلفه ملايين الفلاحين الفقراء، أو كما فعل السادات حين أطلق قوى الفساد، لمساندته سياسيا،
وهو ما حدث؛ وإنما هم أرادوا ممارسة ذات أسلوب نظام مبارك في تحالفهم مع أصحاب رؤوس الأموال، وخداع الفقراء والمتاجرة بهم باتخاذ إجراءات وهمية؛ كحالة رفع المرتبات ثم رفع الضرائب والأسعار، بما يؤدي عمليا لخفض المرتبات الناتج عن خفض قوتها الشرائية، بالإضافة إلى اعتمادهم أساليب انتهازية في التعامل مع الجموع الشعبية أو الأفراد الناشطون سياسيا، وذلك باستخدام الرشى العينية أو المادية أو المناصب، واعتماد الأساليب ذاتها لشق الصف المعارض لهم، كبديل عن تقديم برامج وحلول حقيقية للمشاكل.
الحقيقة أن الجماعة لم تمتلك أي مشروع، وأنها راهنت على أن الجماهير والأتباع سوف يتعاملون معها وهي في السلطة بذات منطق تعاملهم معها وهي خارج السلطة؛ الانصياع والانقياد التام باعتبارها حامية وممثلة للدين، ولم تدرك الجماعة أن ممارستها على أرض الواقع كشفتها أمام أتباعها قبل الآخرين، وهو ما ظهر جليا في الانشقاقات غير المسبوقة عن الجماعة، ولرموز كبيرة، ناهيك عن الخلافات الحادة داخل مكتب الإرشاد ذاته، كما ظهر في الموقف من ترشيح الجماعة لانتخابات الرئاسة.
سادساً: المساس بهوية ووحدة المجتمع المصري
استخدمت جماعة الإخوان المسلمين خطاب الهوية رغم مآخذهم على السلفيين عندما استخدموا هذا الخطاب، وذلك حين روجوا لخطاب قيادات الجماعة الإسلامية ومنهم عاصم عبد الماجد، والذي أطلق حركة تجرد في مقابل حركة تمرد من أجل دعم مرسي، وأكد على أن الأزمة صراع بين الإسلام والعلمانية، حيث اتهم الأقباط بالمشاركة في التآمر على النظام الإسلامي، ومن وراءهم الكنيسة التي تقف ضد الشريعة الإسلامية.
بالإضافة إلى إفساح مساحة كبيرة في إعلام القنوات الفضائية التي تطلق على نفسها (قنوات دينية) للهجوم على قيم وعادات وهوية المجتمع المصري، في محاولة لإبدالها بقيم البداوة التي يتمسك بها مفكري وساسة هذا التيار، وصارت كل الموروثات والقيم الشعبية المعبرة عن الثقافة الشعبية الوسطية المصرية عرضة للهجوم
تحت وطأة هذه الهجمة الرجعية، وربما كانت تلك القشة التي قصمت ظهر تيار الإسلام السياسي في مصر–كما أسلفنا- فالتجربة التاريخية للمصريين تشير إلى أنه بقدر صبرهم على ظلم واستبداد حكامهم، إلا أنهم لا يصبروا على من يمس بسوء دينهم أو أعراضهم أو هويتهم؛ فخروج ملايين المصريين في 30 يونيو 2013 ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين كان المحرك الرئيسي فيه استشعارهم الخطر على هويتهم الوطنية، وكيان الدولة المصرية.
سابعاً: ملف العلاقات الخارجية
هو أحد أهم وأخطر الملفات التي ثار –ولا يزال- يثور بشأنه الكثير من الجدل؛ فعلاقات تيار الإسلام السياسي بالخارج كانت مثار قلق وتوتر شعبي ورسمي، وإن كان للجانب الرسمي هنا خصوصية كبيرة؛ لا سيما بعدما تكشف من معلومات تؤكد قيام مؤسسات الدولة الأمنية الوطنية بمتابعة ذلك الملف، ورصد تحركات جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها من تيار الإسلام السياسي، خاصة على مستوى علاقتها بحركة حماس، وما يتعلق بملف أمن مصر في سيناء، وعلاقتها بتركيا، وقطر، وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وما يحدث في سوريا، وليبيا، السودان، وأثر كل ذلك على أمن مصر القومي والدولة المصرية ذاتها.
بات في حكم المؤكد، أن ظاهرة الإسلام السياسي وحركاتها تلقت خسارة فادحة في 30 يونيو 2013، وهى بلا شك أكبر خسارة يتعرض لها الإسلام السياسي في تاريخه، تمثلت في خسارته حاضنته الشعبية
التي طالما كانت الملاذ والحصن القوي له ضد بطش الأنظمة الحاكمة؛ وطاقة البعث له بعد كل خفوت أو تراجع، كما أن الضربة ولأول مرة أيضا موجهة لفكر هذا التيار وليست موجهة للتيار وأفراده فقط. وقد يكون ذلك أحد أهم أسباب حالة الانفلات في رد الفعل التي مارسها أنصار هذا التيار، وهو ما يلقي ظلالا كثيفة على مستقبل الإسلام السياسي في مصر.
المبحث الثالث “ظاهرة الإسلام السياسي” (سيناريوهات المستقبل)
• المطلب الأول “مستقبل ظاهرة الإسلام السياسي”
حين يدور الحديث عن مستقبل ظاهرة الإسلام السياسي، يتم هنا الخلط بين تيار الإسلام السياسي وأحزابه وتنظيماته، وبين الظاهرة ذاتها وما لها من جذور اقتصادية وسياسية واجتماعية.
لذا، لابد من الإشارة إلى أن نشأة القوى الحركية المعبرة عن ظاهرة الإسلام السياسي، كانت سابقة على نشوء الظاهرة نفسها، وأن هناك عوامل مجتمعية –خاصة بالمجتمعات التي انتشرت فيها- مكنت لهذه الظاهرة، وبلورت أدبياتها ورؤاها، وساعدت على انتشارها، دون أن تؤدي بالضرورة لانتشار القوى المعبرة عنها بنفس القدر والأسلوب.
بمعنى آخر، هناك فارق نسبي بين الفكرة التي تعبر عنها الظاهرة وبين الحركة التي تعبر عنها تلك القوى، فوجود الفكرة مرتبط بوجود العوامل المنتجة لها، وبقائها من عدمه مرتبط ببقاء تلك العوامل، أكثر من ارتباطها بتلك القوى.
ومن هذا المنطلق، لا يجب أن يفهم أن ما أصاب قوى الإسلام السياسي من خسارة فادحة في مصر سوف ينتج بالضرورة نفس الأثر على ظاهرة الإسلام السياسي بها؛ فما حدث في مصر سيظل أثره على الظاهرة ككل مرتبطاً بمدى قدرة المجتمع والدولة المصرية على التأثير في العوامل التي تنتج وتساعد على انتشار تلك الظاهرة،
ودون ذلك سوف يبقى الأثر على حركات/تنظيمات الإسلام السياسي محصوراً في نطاقه الأكبر في الجانب السياسي، وموازين القوى التي تتغير من فترة لأخرى،
وبالعكس فمن الممكن تؤدي القدرة التنظيمية العالية للإخوان، وإدارتهم الجيدة للعبة الانتخابات، وقوة الدعم المادي الهائل الذي تتلقاها الأحزاب السلفية إلى تواجد مؤثر في الساحة السياسية لتلك التنظيمات بغض النظر عن قوتها الحقيقية وسط الجماهير، حتى مع الانحسار الجزئي للظاهرة، ففي كلا الحالتين الوجود المادي السياسي لتلك الأحزاب لا يتناسب بالضرورة مع قوة أو ضعف تلك الظاهرة.
ومن هذا المنطلق، يصبح كل ما يتردد عن انتهاء ظاهرة الإسلام السياسي في مصر، أو انحسارها مرهونا –ليس بمصير جماعة الإخوان المسلمين- بقدر ما هو مرهون بالعوامل المنتجة والمرسخة لها في التربة المصرية، والتي سبق وتحدثنا عنها في المبحث الأول/المطلب الثاني.
ومادامت تلك العوامل متجذرة في المجتمع المصري، فستظل منشأة ومحفزة على انتشار ظاهرة الإسلام السياسي، وستعيد تمهيد التربة من جديد لاستنهاض حركاتها وقواها، وكأننا ندور في حلقة مفرغة.
المطلب الثاني “مستقبل حركات الإسلام السياسي”
مع نهاية القرن العشرين تنبأ بعض الباحثين المتخصصين في “ظاهرة الإسلام السياسي” أن هذه الظاهرة آخذة في الأفول والانتهاء، بعد أن حوصرت قوى الإسلام السياسي في كل مكان، رغم أنها قامت بأكبر مهمة لها في التاريخ، بترتيب مع المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، وبتمويل مباشر من دول الخليج العربي، وهي هزيمة “الاتحاد السوفيتي” في “أفغانستان”، الهزيمة التي كانت المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية السوفيتية ومن ثم زوالها!.
ولكن ما حدث في العقد الأول وبداية العقد الثاني للقرن الواحد والعشرين، أظهر أن تلك النبوءة لم تكن صحيحة؛ ففي “تركيا” و”مصر” و”تونس” و”السودان” و”الصومال” و”أفغانستان” تمكنت أحزاب ذات برنامج سياسي إسلامي من الوصول للسلطة، ومن لم يصل منها للسلطة أصبح قوة سياسية مؤثرة في بلده، كما في “الجزائر” و”المغرب” و”العراق” و”الأردن” و”باكستان”، بالإضافة لدول الخليج العربي.
إلا أن السقوط السريع لتيار الإسلام السياسي في مصر (مهد هذا التيار)، وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين (التنظيم الأم)، أعاد الجدل من جديد وبقوة حول مستقبل ظاهرة الإسلام السياسي، والقوى التي تمثلها.
هناك خطاب يعتبر أن جماعة الإخوان المسلمين انتهت في مصر حتى إشعار آخر، في مواجهة الخطاب الرسمي للتنظيم الدولي للإخوان، الذي يقوم على أن النظام المصري سيرفع الراية البيضاء قريبا، بسبب استمرار الاحتجاجات، والأزمة الاقتصادية، والضغط الدولي.
ربما الحقيقة تكمن في منطقة ما بين هذين الرأيين، حيث لا يستطيع أحد أن ينكر وجود تيار شعبي مؤيد لفكرة “الحكم الإسلامي” من غير أن يكون بالضرورة عضوا أو حتى مؤيدا للإخوان، وفي المقابل، فان نسبة كبيرة من المصريين فقدت الثقة في مصداقية “تيار الإسلام السياسي” بأكمله.
هذا الجدل نتج عنه عدد من الرؤى والسيناريوهات المطروحة حول مستقبل تنظيمات الإسلام السياسي في مصر، صيغت من خلال اقترابات مختلفة:
الاقتراب الأول؛ يقوم على استقراء الطريقة التي يفكر بها جماعة الإخوان المسلمين، اعتمادا على قراءة تاريخهم، والسياق الراهن الذي يحيط بهم، والارتباطات والرهانات الدولية عليهم. بمعنى هل ستُحيي الجماعة سعيها التاريخي إلى الحصول على تعاطف المجتمع كنموذج يُحتذى ويقود، أم تعزل نفسها عنه وتعتبره لا إسلاميّاً، وخانعاً، ومنحرفاً وتحاول تغييره بالعنف؟ هل ستواصل الجماعة استخدام نشاطها الاجتماعي سعياً وراء السلطة السياسية، أم يصبح هذا النشاط هدفاً في حدّ ذاته؟
وعليه يمكن أن تواجه قوى تيار الإسلام السياسي في مصر أحد الخيارات الآتية:
1. خيار “المراجعة النقدية”:
ويعني تبني جماعة الإخوان المسلمين مراجعة فكرية، والإقرار بالأخطاء، وتقديم تصور جديد يؤلف بين الجماعة وبين فكرة “الوطنية”، ويظهر إيمانها بالتعددية السياسية والفكرية وتداول السلطة. وكذلك إعادة ترتيب صفوف الجماعة بما يقود إلى تنحية القادة المنحدرين من “التنظيم الخاص” الذي مارس العنف والإرهاب، ويتقدم بالإصلاحيين على حساب المنتمين إلى أفكار سيد قطب التكفيرية.
وفي هذه الحالة يمكن للمجتمع أن يعيد بشكل طوعي دمج الإخوان، فكرا وتنظيما، ولن يبقى سوى وضع هذا التنظيم تحت سلطان الدولة، مراقبة ومحاسبة، وليس إبقائه على صيغته السابقة، وكأنه دولة داخل الدولة.
ويرى الباحث أن هذا الخيار قد يؤدي إلى حالة أشبه ما تكون بحالة المراجعات الفكرية التي تمت في تسعينات القرن الماضي، والتي قام بها قادة الجماعة في سجون مبارك، ثم تنكروا لها ما أن وصل تيار الإسلام السياسي إلى السلطة في مصر عقب ثورة 25 يناير2011.
2.خيار “المواجهة”:
وهو دخول الجماعة في مواجهة عنيفة وأعمال عدائية وإرهابية ضد المجتمع ومؤسسات الدولة، وفي مطلعها القوات المسلحة، انتقاما من إسقاط سلطة الإخوان، ورغبة في إفشال السلطة التي حلت محلهم، وإرهاق الدولة وإنهاك قواها، وإجبار النظام الحاكم على تقديم تنازلات جذرية أو فارقة.
ويرى الدكتور “عمار على حسن” أن هذا الخيار ببساطة أقرب لمفهوم الانتحار، لأنه لا يمكن لتنظيم أن ينتصر على شعب، أو يهز أركان دولة راسخة مثل مصر، لديها تجربة في التعامل مع الإرهاب، وسبق لها أن انتصرت عليه غير مرة.
3.خيار “التكيف المؤقت”:
يعني حدوث تغيير في هيكل القيادة الخاص بالجماعة، دون تغيير في أسسها المعرفية، يؤدي إلى الاعتراف بشرعية الوضع القائم، مصحوب بالإعلان عن وقف الصراع مع المجتمع، والالتزام بقواعد اللعبة السياسية، مما يعني أن الجماعة سوف تدخل في مرحلة تكيف مؤقت مع المجتمع المصري. ومعنى هذا أن يظل التنظيم قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة.
4. خيار “العائل البديل”:
وفيه تحاول جماعة الإخوان المسلمين العودة لممارسة دور سياسي من خلال أحزاب أخرى، مثل حزب النور السلفي، الذي تتعاطف قواعده مع جماعة الإخوان المسلمين، أو العودة في صورة نواب مستقلين بالبرلمان القادم.
5. خيار “توزيع الأدوار”
وفيه ينقسم أعضاء الجماعة إلى قسمين رئيسيين يتبادلا توزيع الأدوار؛ القسم الأول يُظهر وجه معتدل نسبيا، ويدعو إلى عودة الجماعة إلى ممارسة العمل الدعوي الصريح، والتصالح مع المجتمع، ويتشكل من الكوادر المهنية المنتمين للطبقة الوسطى، بينما القسم الثاني من أعضاء النظام الخاص في الجماعة وكل القطبيين، وستكون هذه الجماعة سرية مسلحة صريحة، على غرار تنظيم القاعدة.
ويرجح الباحث هذا الخيار؛ ويرى أن بوادره لاحت في الأفق، فأمام الضربات القاسية التي يتلقاها التنظيم تظهر بين الحين والآخر دعوات من بعض أعضاء وأتباع الجماعة تدعو للتهدئة والمصالحة، ثم يليها مباشرة أحداث إرهابية من قبل الجماعات المسلحة المؤيدة للجماعة، سواء في سيناء أو في الدلتا.
وسيستمر ذلك الوضع إلى أن يحسم المجتمع والدولة معركتهما مع الإرهاب، ويفرضا شروطهما على آلية ممارسة الجماعة لأي دور مستقبلي في مصر.
ويرى كل من “عمار على حسن” و”رفعت سيد أحمد” أن الإخوان لن يذهبوا إلى الخيار الأول، لأنه يبدو صعبا على قيادات تكلست وشاخت في مواقعها، وهو خيار يحتاج إلى مجهود فكري كبير، وقيادات مخلصة تؤمن بالدعوة الإسلامية الحقيقية، مع الوضع في الحسبان أنه بمجرد تبني هذا السيناريو، تفقد الجماعة مواردها الخارجية، وبالتالي ستقل فعاليتها في الحركة.
لكن ربما يتزايد بمرور الوقت حجم المقتنعين بهذا المسار في صفوف الإخوان، من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ميراث الجماعة، وربما تنجح حركات من قبيل “إخوان بلا عنف” و”أحرار الإخوان” التي تطالب بسحب الثقة من القيادة وتطهير الجماعة من الداخل في جذب مزيد من الأتباع، بما يجبر القادة على التراجع، أو يسقطهم،
ويرفع مكانهم قيادات جديدة إصلاحية، تكون قد استوعبت الدرس جيدا، وآمنت أن عباءة تنظيم الإخوان أضيق بكثير من أن تستوعب طاقة المصريين، بينما مصر بوسعها أن تهضم التنظيم وعليه أن ينضوي تحت رايتها، ويستجيب لمقتضياتها ورهاناتها وإمكاناتها المادية والروحية.
كما أن الخيار الثاني مكلف ومتعب، فالإخوان يدركون جيدا جوهر المحن التي مروا بها حين اصطدموا بالدولة، وخصوصا المؤسسة العسكرية، والتجربة ذاتها يعيها حلفاء الإخوان، ولاسيما “الجماعة الإسلامية” التي رفعت السلاح ضد نظام حسني مبارك، فانهزمت وراجع قادتها أفكارهم حتى يمكنهم الخروج من السجون.
كما أن الصدام سيؤدي إلى اتساع الهوة بين الإخوان والمجتمع، لذا غلب الدكتور “عمار” الخيار الثالث، وهو التكيف المؤقت.
ويرى كل من “حسين عبد الرازق”، نائب رئيس حزب التجمع وعضو لجنة الخمسين لتعديل الدستور، والدكتورة “عالية المهدي” العميد السابق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، أن خيار “العائل البديل” يبدو ضعيفاً في ظل الخبرة السياسية المتواضعة للسلفيين، وحالة النفور الشعبي من كل من يتبني شعارات الإسلام السياسي.
إن تحقق أي من الخيارات السابقة يتوقف على حاجة جماعة الإخوان المسلمين إلى تحريك أدوات العنف التي تمولها على الظرف المتجدد الذي تعيشه، وعلى قدرة أجهزة الأمن على اكتشاف هذا المخطط والتعامل معه باقتدار، وعلى رد فعل المجتمع والقوى السياسية والنخب الفكرية على هذا إن قُدِّمت أدلة عليه، وكذلك على مدى وجود رهانات خارجية على الإخوان لزعزعة الاستقرار في مصر من عدمه، وأيضا مفاضلة قيادات الجماعة بين الغرم والغنم الناجمين عن انتهاج هذا المسلك.
الاقتراب الثاني؛ يعتمد على توازن القوى بين تيار الإسلام السياسي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين من جهة، والدولة والمجتمع في مصر من جهة أخرى، ويتبناه ” الدكتور “أحمد بدوي”، الخبير بالمركز العربي للبحوث والدراسات، والدكتور على الدين هلال، عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الأسبق، وأيضا تقرير معهد كارنيجي الأمريكي بشأن مستقبل “جماعة الإخوان المسلمين”، وينحاز له الباحث، وعليه تم طرح عدد من السيناريوهات، أهمها:
1. سيناريو “الإقصاء والاستئصال”؛ وفيه يسعى النظام المصري إلى القضاء الشامل على جماعة الإخوان، في مقابل إصرار الجماعة وحلفائها على مواجهة المجتمع والدولة بالعنف والإرهاب دون التكيف معها، الأمر الذي قد يقود إلى تكرار المشهد الإقصائي في العهد الناصري، مع الوضع في الحسبان أن العداء أصبح ممتداً ليشمل المؤسسات والنظام السياسي والجماهير العادية، وهو السيناريو المحتمل، في حالة بقاء قيادات التيار القطبي مسيطرة على التنظيم.
ويرى د. علي الدين هلال أن هذا السيناريو كارثي، حيث تنعكس آثاره على الدولة والمجتمع والأفراد، وتكلفته السياسية والمعنوية مرتفعة، إذ يرى أنه من الخطأ البالغ التعامل مع هذه الحركات على أنها مجرد أفكار، وإنما بحسبانها تستند لقواعد عميقة في التكوين الاجتماعي، يصعب حلها أمنياً فقط، كما أنه لا يمكن ضمان عدم تجاوز الأجهزة الأمنية، مهما حسنت النوايا.
2. سيناريو “العودة والبقاء”، ويفترض أن تعود جماعة الإخوان إلى الحياة السياسية في مصر، بتحقيق انتصار عن طريق كسب دعم شعبي، ويساعدها في ذلك الاحتجاجات المستمرة التي تكسر إرادة النظام، وهو ما يروج له التنظيم الدولي للجماعة، وسعى أنصارها من التكفيريين والجهاديين الإرهابيين في سيناء إلى تحقيقه.
ويرى الباحث، أن هذا السيناريو يبدو أقرب إلى “التفكير المتمني” منه إلى توقعات جدية، إذ أن رهان الجماعة وأعوانهم على ما يدعون “الغضب الشعبي” ضد النظام لأسباب عديدة، لا يصب بالضرورة في مصلحة الجماعة، خاصة في ظل تبدل الصورة الذهنية لها في العقل الجمعي للمصريين، والتي تربط بين ما تشهده مصر من أعمال عنف، وبين الجماعة، وسواء كان هذا منصفا أو ظالما أو غير دقيق، فانه الواقع.
3. سيناريو “استمرار المواجهة”، وهو ما تراهن عليه الجماعة في إحداث حالة من الإحباط بين أفراد الشعب المصري الذين خرجوا في 30 يونيو لإزاحة الجماعة عن الحكم، وبالتالي “كسر إرادة النظام المصري بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي”، ومن أجل تحقيق ذلك تستمر الجماعة في تبني نهج المظاهرات والاحتجاجات، وتوفير الغطاء السياسي والمعنوي للجماعات والأعمال الإرهابية في سيناء والدلتا.
ويدعم هذا السيناريو معسكر الصقور في الإخوان المسلمين (القطبيون)، الذين يروجون أن عودة الجماعة لحكم مصر “معركة نصر أو شهادة”، وهؤلاء هم من رفضوا الاستجابة لمطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة، كما ضغطوا على الرئيس السابق مرسي لرفض مهلة الجيش، ويهددون باستنساخ السيناريو الجزائري في مصر.
يرى الباحث أنه في حال تبني الجماعة هذا السيناريو، قد تخسر ما قامت ببنائه خلال أكثر من 80 عاما، بل قد يؤدي سلوكها هذا إلى انتهاء مشروع الإسلام السياسي بكافة مكوناته.
4. سيناريو “المهادنة بين النظام والجماعة”، وبمقتضاه يحاول الطرفان إيجاد مخرج تفاوضي للمأزق الحالي، الذي لا يستطيع طرف تحقيق القضاء على الآخر؛ وفيه يسعى النظام إلى انتزاع اعتراف من الجماعة بشرعية 30 يونيو 2013، والعودة للعمل السياسي وفق القواعد والخطوط الحمراء التي سبق ووضعها للجماعة نظام مبارك.
كما تهدف الجماعة إلى إعادة تجربة ” أربكان- أردوغان”، وهي التي استطاع فيها رجب طيب أردوغان أن يتجاوز مأزق دخول أربكان للسجن ليعيد بناء الحركة الإسلامية في تركيا مرة، ويصل لسدة السلطة في تركيا.
ويستلزم هذا السيناريو سرعة تجاوز الإخوان الإحساس بالهزيمة، وتغليب المنطق على العاطفة. ومثل هذا السيناريو يتطلب تحقيقه المراجعة الداخلية السريعة للإخوان، أي أن الجماعة تقوم على الفور بتنقيح واستبدال قيادات جديدة شبابية منفتحة على العصر بقياداتها السابقة ، مع فتح مسار جديد داخل الجماعة يتضمن التوجه للدعوة أولا، وأن يكون جزء منه سياسيا.
5. ويطرح الباحث سيناريو آخر، وهو سيناريو”انتصار المجتمع/نجاح الثورة”، وفيه يستطيع المجتمع المصري أن ينتقل إلى المرحلة الثانية للثورة، وهي مرحلة البناء وتحقيق أهداف ثورته، وأن يُحدث عملية تحول ديمقراطي خلال السنوات الأربع القادمة، مما يؤدي إلى ظهور المجتمع الديمقراطي القائم على المحاسبة والشفافية والنزاهة، الأمر الذي يقود إلى تآكل تلقائي لادعاءات الجماعة، وتهافت أفكارها، وانصراف الأعضاء عنها، لتصبح رقماً سهلاً في المعادلة السياسية.
ويرى الباحث، أن هذا السيناريو رغم أنه الأفضل –من وجهة نظره- إلا أنه غير قابل للتحقيق على الأقل في المنظور القريب، لأنه مرهون بإحداث تغيير حقيقي في البنية الفكرية والمعرفية والاجتماعية للمجتمع المصري، بهدف تصفية المنابع الفكرية والثقافية والاقتصادية والمجتمعية، والسياسية …الخ التي تغذي ظاهرة الإسلام السياسي، وهو ما يقتضي استراتيجية كاملة تتضمن حل الإشكالية التاريخية العقيمة والعميقة بين الدين والدولة، وتبني نظام تعليم قائم على العقلية النقدية لا النقلية، وإرساء منظومة العدالة الاجتماعية، وإحداث التطور الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، وضبط مجال الدعوة في المجتمع بالمرجعية الأزهرية الوسطية … الخ من بناء قواعد الدولة المدنية الحديثة، التي تأخذ بكل أشكال القوة.
• الخاتمة
تزامن ظهور ظاهرة الإسلام السياسي مع عصر النهضة في مصر، كذلك مع سقوط الخلافة العثمانية، ودخول المنطقة عصر الاستعمار الغربي، وكانت البدايات على يد عدد من المفكرين أمثال الأفغاني، والكواكبي، محمد عبده، رشيد رضا وصولا إلي حسن البنا وسيد قطب، وكانت بالأساس رد فعل علي ظاهرة التغريب، وتمثلت كدعوة لاستنهاض الأمة الإسلامية وإعادة دورها.
لكن المفارقة الجديرة بالملاحظة والتحليل بشأن تلك الظاهرة هو أنها تدرجت من التسامح والانفتاح إلى التشدد والانغلاق؛ فنجد أن الدعوات الأولي التي ظهرت في عصر الاستعمار على يد الأفغاني ومحمد عبده، أكثر تحررا ودعوة لقبول الآخر ومواكبة للحضارة وروح العصر وتطور المجتمع، بينما نجد المرحلة التي أخذت سمة التحرر بعد المرحلة الاستعمارية منذ الخمسينات وبعدها هي الأكثر تشدداً وتطرفاً وانغلاقاً؛ فظهر فكر سيد قطب الذي استقي من أبو الأعلى المودودي فكرة الحاكمية، وجاهلية المجتمع وتقسيمه إلي مجتمع جاهلي كافر ومجتمع مسلم، وبعد مؤلفاته السابقة المصبوغة بصبغة ذلك العصر المتحررة والتقدمية التي يهاجم فيها الإقطاع والرأسمالية.
ومنذ ذلك الوقت، أصبح الانحدار والانغلاق والرجعية هي السمة الغالبة علي تلك الحركات في أدبياتها وفكرها، والتي ظهرت أدبياتها من صحيفة العروة الوثقي التي ظهرت أكثر مواكبه للعصر وانفتاح، ومن معالم علي الطريق لسيد قطب إلي كتاب الفريضة الغائبة لمحمد عبد السلام فرج مؤسس تنظيم الجهاد الأكثر تشدد وانغلاق.
إذا، نحن أمام ظاهرة تميل إلى التقوقع والتشدد ورفض التكيف والتطور، وهذا يؤشر إلى مدى قدرتها علي الاستمرار وسعيها إلي نهايتها الفكرية قبل نهايتها علي أرض الواقع.
لعل ما شاهدته الظاهرة من تراجع وانكفاء في فترة المد القومي، الذي اجتاح المنطقة عندما قدم مشروع بديل يعبر عن قضايا المجتمع الحقيقية، ولم يؤذن لهذه الحركات بالظهور وتجدد نشاطها إلا بعد تراجع المشروع القومي بعد هزيمة 1967م، ورحيل زعيمه “جمال عبد الناصر”، ثم تبني مصر في عصر السادات لسياسة مغايرة تماما، وإعادة الحياة إلي هذه الحركات وخاصة في استخدامها لمحاربة التيار القومي واليسار الوطني،
إلا أن حركات الإسلام السياسي المعاصرة منها وتقليدية الفكر والمنهج، عرفت حالة زخم سياسي متواصل فغدت خلال ستة عقود من الزمن، أحد أهم حقائق المشهد السياسي في العالم العربي، كما حظيت باهتمام دولي بالغ من انخراطها في الصراع الدولي والإقليمي في ظل الحرب الباردة، لصالح المشروع الرأسمالي الغربي، وهذا ما كشف عنه الدعم الغربي لثورات ما سمي بالربيع العربي الذي تصدره تيار الإسلام السياسي.
ومن الخطأ الحكم على مستقبل ظاهرة/مشروع الإسلام السياسي، والقوى المعبرة عنه من خلال نظرية المباراة الصفرية، فرغم الاعتراف بأن تيار الإسلام السياسي تلقى ضربة استراتيجية موجِعة بسقوط حكم الإخوان في مصر،
بما يضع التيار في محنة حقيقية، لاسيما أن الإخفاق هذه المرة وقع للجماعة الأم، وفي الدولة المركزية للحركات الإسلامية في الزمن الحديث والمعاصر، إلا أنه لا يزال للإسلام السياسي عناصر قوة داخل مصر وخارجها، ولن ينتهي تيار الإسلام السياسي بهذه السهولة، وسيبقى كمشروع أو «فكرة» تدعمها قوى مجتمعية، ودول ومـــؤسسات إعلامية واقتصادية وأمنية، لها مصالح حيوية في ضمان استمراره.
كما أن قوى الإسلام السياسي، وعلى رأسها “جماعة الإخوان المسلمين” تنظيمات”أخطبوطية” لها أرضية فكرية وثقافية في التربة المصرية، ولها صلاتها وعلاقاتها ودعمها الخارجي.
وأثبتت الدراسة بأن البحث “، بما يفرض على الفرد المسلم التزامات محددة حيال الآخرين، لا تقتصر على الزكاة والصدقات والوقف والهبات وصلة الرحم وحقوق الجيران، إنما تمتد إلى الوعظ والنصح والإرشاد في إطار “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وتحت طائلة فكرة “الأمة” التي تحتاج إلى “النصرة” الدائمة.
وهذا يخلق تفاعلات اجتماعية متعددة، تنتشر أفقياً وتتصاعد رأسياً، وتتقاطع وتتلاقى في مفاصل لا حصر لها، فتخلق عمقاً اجتماعياً متواصلاً، مثل حائط صد في وجه النزعات الفردانية التي عرفتها مجتمعات أخرى بعد الثورة الصناعية.
وبلغ اعتماد المجتمع على نفسه في هذا الشأن درجة عالية، فكانت الأمور تسير على ما يرام إن سقطت السلطة السياسية أو غابت ولو لسنوات. وزاد من درجة الاعتماد تلك أن السلطات السياسية المتعاقبة افتقدت إلى الديمقراطية، التي تعني في جانب منها مشاركة الناس في اتخاذ القرار واحترام حقوقهم وحرياتهم، بما دفع المجتمع إلى فقدان الثقة في السلطة، وتخفيف درجة الاعتماد عليها.
وإذا كانت بعض الدولة العربية في العقود الأخيرة قد تعمقت اجتماعياً من خلال سياسات التوظيف والتأمين وتقديم الخدمات، فإن تراجع قدرتها على التوظيف، وانحرافها بالتأمين إلى القمع، وتدني مستوى الخدمات القادرة على تقديمها، أدى إلى عودة المجتمع للاعتماد على ذاته إلى حد ما.
لكن الفارق بين الدول العربية وغيرها أن مبدأ المواطنة الذي لا يفرق بين أفراد الشعب على أي من هذه الخلفيات التكوينية لايزال ضعيفاً أو غائباً، الأمر الذي قاد الفئات والشرائح التي تعاني من التمييز ضدها إلى بذل جهد فائق من أجل تصريف أمورها معتمدة على نفسها.
قِدم المجتمعات العربية: فنحن أمام مجتمعات تصل أعمارها إلى آلاف السنين، وهذه العراقة خلقت مع مرور الوقت سمات تعزز درجة اعتماد المجتمع على نفسه، ومنحت فرصاً متواصلة لترسب القيم والمنافع إلى الأعماق البعيدة، وخلقت تاريخاً اجتماعياً مديداً، وموروثاً شعبياً كبيراً، تنهل منه الأجيال الحالية، فتزداد ثقتها في قدرة الجماعات البشرية التي سكنت هذه المنطقة على إبداع أسباب البقاء، واستطاعتها التكيف مع المحن العديدة التي تعرضت لها على مدى هذا الزمن الطويل.
طبيعة العمران: ففي العالم العربي مدن قديمة، تصطف بناياتها متجاورة ومتقابلة، وتنتهي الساحات والميادين بشوارع بعضها ضيق، والتي بدورها تنتهي بحارات وأزقة، تعزز علاقات الوجه للوجه، فتزيد من درجة اعتماد المجتمع على نفسه، وهي مسألة تنطبق أكثر على الريف العربي.
الاستنتاجات
أن التحول من الحركة الاجتماعية إلى الحزب السياسي غالباً ما يكون معيباً أو غير مكتمل. بسبب عرقلة الهياكل المؤسسية والفكرية للحركة الاجتماعية الأم لتطور الحزب بوصفه بناءً سياسياً مستقلاً.
وبالتالي فالتطور الفكري والتنظيمي لهذه الحركات – بالشكل الذي يعطي استقلالية فكرية وتنظيمية للأحزاب الجديدة – له بالغ الأثر في قدرة الأحزاب المنبثقة عنها على الاندماج في الحياة السياسية، لأنه يؤثر على نمط علاقة الأحزاب بمؤسسات النظام السياسي.
خاصة إذا كان هذا النظام يعبر عن مؤسسات غير منتخبة لها دور سياسي- الملك في المغرب، والجيش في مصر – انطلاقاً من عجز الأحزاب الجديدة على منافستها من خلال صناديق الاقتراع لأنها مؤسسات غير منتخبة من الأساس، بل يتم التعامل السياسي معها من خلال سبل مختلفة للتعاون أو الاحتواء، كما يتخذ منحى الصراع معها أجلاً أطول لأنها غير متصلة بأجل انتخابي معين.
وتبرز أهمية إضافية لهذا المتغير بالنظر إلى أن العلاقة بين المؤسسات غير المنتخبة وبين الحركة الاجتماعية الدينية غالباً ما كانت صدامية تاريخياً.
وهنا لا يتم طرح فكرة استيعاب مؤسسات النظام الحاكم للأحزاب الدينية الجديدة، بقدر ما يطرح مدى قدرة تلك الأحزاب على احتواء تحفظات تلك المؤسسات والتعامل معها بالشكل الذي يضمن لها عدم وصول العلاقة المتوترة إلى مرحلة الصدام العنيف، أو إيجاد أفق للتعاون أو التحالف.
التوصيات
التيار الأول: تمثله حركات/تنظيمات تحصر تفكيرها في المجال العقائدي؛ حيث تصوغ مواقفها من مختلف التيارات الفكرية والسياسية داخل المجتمع في ضوء قراءتها لمواقف وتصورات تلك التيارات مقارنة بقيم وقواعد ما تعتبره عقيدتها الأساسية، بحيث يكون الموقف إيجابيا أو سلبيا بمقدار ما تكون قريبة أو بعيدة عن المحددات الرئيسية لعقيدتها.
وغالبا ما تكون تلك الحركات/التنظيمات ممن يتبنون الفكر القطبي –نسبة إلى سيد قطب- ويتجه هؤلاء إلى تكفير المجتمع والدولة معا، ويضعون على رأس أولويات ممارستهم محاربتهما لتجسيدهما للطاغوت الذي من المحرم على أي مسلم خالص العقيدة التعايش معه تحت أي ظرف من الظروف؛ وغالبا ما تلجأ إلى الأساليب العنيفة في صراعها مع رموز هذا المجتمع والدولة السائدة فيه، تارة تحت العنوان العريض للدفاع الشرعي عن النفس ومقاومة قمع الطاغوت، وتارة باسم الجهاد ضد قوى الكفر حتى يكون الدين لله.
ومن الواضح أن حركة الإسلام السياسي من هذا الطراز لا يمكن لها حتى التفكير بالتعامل مع القوى التي تخالفها الرأي بمنطق الحوار أو الصراع السياسي ذي البعد الديمقراطي السلمي، لأنها تعتبر أن عدم العمل على استئصال قوى الطاغوت من جذورها مخالفة صريحة للشرع في مختلف نصوصه المؤسسة.
التيار الثاني: تمثله حركات/تنظيمات أخرى تصنف نفسها في إطار الإسلام السياسي المعتدل الذي يرى أنه لا يمكن فرض المعتقدات الخاصة بهذا التيار الإسلامي أو ذاك على المجتمع كله، وأنه ينبغي التفريق في الإسلام بين أبعاده العقائدية؛ حيث ينبغي أن يكون الإرشاد والنصح وكل أشكال الهداية، وبين الجانب المجتمعي؛
حيث ينبغي الانطلاق من أرضية للتعايش داخل المجتمع على قاعدة مبادئ وقيم وضعية غير متناقضة مع صريح النص القرآني وقواعد السنة والجماعة.